محمــد علي عناش - واهم من يظن أن الحقائق يمكن اكتشافها وتلمسها من خلال بعد واحد أو طريق واحدة، حتى ولو قادنا الحفر في اتجاه واحد الى نتيجة منطقية ستظل هذه النتيجة جزئية لا تعبر عن الحقيقة بشكل كلي، بمعنى أن هناك نسبة كبيرة من الحقيقة، لاتزال مجهولة وغير محاطٍ بها، وهذا سيؤدي الى نتائج بحثية غير صحيحة في معظمها، والى رؤى ومعالجات ناقصة، مع إدراكنا وإيماننا المطلق بأن الحقائق لن تظل مطموسة، وأن الحقائق لا يمكن إدراكها بشكل كلي 100% لكن منطق العقل يحتم علينا أن نبحث عنها ونكتشفها وأن ندركها في معظمها كشرط من شروط الوعي العلمي بحقائق الظواهر والقضايا والمشاكل كي نصل الى مسلمات منطقية نبني عليها رؤانا وخططنا وبرامجنا للحاضر والمستقبل.
تنظيم القاعدة كتنظيم إرهابي عابر للقارات أصبح واحداً من القضايا والمشاكل الرئيسية المقلقة للمجتمع الدولي بشكل عام، لما يرتكبه من أعمال إرهابية وإجرامية بحق المسلمين بشكل خاص وبحق الآخرين بشكل عام، وما يترتب على هذه الاعمال الارهابية من نتائج سيئة ومدمرة كتفتيت المجتمعات العربية والاسلامية الى طوائف ومذاهب متصارعة ومتناحرة، وما ترسمه عن الاسلام والمسلمين من صورة سيئة ومؤثرة على علاقات المسلمين مع الشعوب الاخرى وعلى حوار الحضارات والثقافات بين الأمم، وما ترسخه في ذهنية جيل كامل من الغرب، بأن الاسلام ليس دين تحضر وتمدن وإنما هو ضد الحياة وضد العقل والعلم والتطور، وهي صورة مغلوطة يرسخها هذا التنظيم وكل الحركات الاسلامية المتطرفة التي لا تمثل جوهر الاسلام النقي والمتسامح والعصري بقدر ما تعبر عن وعي انتهازي متخلف، يلغي العقل والحياة، ويعلي من شأن الخرافة والموت، ويريد أن يلحق الحاضر والمستقبل بالماضي أي الى القرون الاولى من الاسلام، ويجعل من المؤسسة الدينية ورموزها من العلماء مؤسسة كهنوتية مستبدة بعصمة الهية. لا نستطيع أن نربط تنظيم القاعدة بحركة اسلامية معينة لأنه قريب من كل الحركات الاسلامية السنية وخاصة ذات التوجه السلفي «سلفية الاخوان أو السلفية الوهابية»، وعليه هناك مقولة شهيرة وخطيرة للاستاذ أحمد الحبيشي: «كل قاعدي سلفي، وليس كل سلفي قاعدي» تختزل رؤية منهجية عميقة في قراءة الظاهرة على مستوى الفكرة وعلى مستوى التنظيم والفعل.. ولقد مر تنظيم القاعدة بأكثر من طور تنظيمي وفكري حتى بلوغه شكله وحجمه الراهن كتنظيم عسكري جهادي، وكتنظيم ديني متطرف، بمعنى أن الحلول الأمنية في محاربة الارهاب لا تكفي لوحدها بل يجب أن تتوازى مع حلول وبرامج تجفيف منابع الارهاب الفكرية والثقافية والاجتماعية، لذا لابد من تتبع نشأة هذا التنظيم حتى تكتمل الصورة الواضحة والجلية له، ونحن على ثقة أن الموضوع لن يتعرض له مقص الرقيب في صحيفة «الميثاق» هذه الصحيفة التي صارت أكثر احتراماً للرأي ولمسنا فيها مساحة حرية أصبحنا لا نجدها في صحف أخرى خاصة في ظل هذه الظروف الراهنة التي غابت فيها الحقيقة.
مدخل
إن الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي والرأسمالي بزعامة أمريكا لم تكن فقط في المجال العسكري وتطوير منظومة القدرات الدفاعية للمعسكرين وإنما ايضاً في إعادة تشكيل مجتمعات العالم الثالث والمجتمعات النامية والمتخلفة.. هذه المجتمعات التي كانت ساحة للاستقطابات الايديولوجية والسياسية وبناء الاحلاف العسكرية، وأيضاً ساحة للصراعات بين المعسكرين بالوكالة، وعبر الانظمة والجماعات والاحزاب المرتبطة بها، وتشتد وتيرة الصراع في المناطق التي تمثل أهمية كبيرة لدى الجانبين من الناحية «الجيوسياسية» ومن هذه المناطق افغانستان، فالموقع الجغرافي المتميز والخطير لها، أهلها أن تحتل هذه الأهمية الكبيرة لدى الجانبين، وأن تكون ساحة للصراع الذي تطور وتناسل بشكل دراماتيكي ولاتزال تداعياته وفصوله قائمة حتى اليوم. أهمية افغانستان بالنسبة للاتحاد السوفييتي كانت اكبر من عدة اتجاهات وأسباب أهمها: 1- كون افغانستان تحد أكثر من جمهورية من جمهورياتها القومية وتتداخل معها دينياً، حيث أن الدين الاسلامي يمثل ديانة أغلبية السكان في هذا الامتداد الجغرافي وأيضاً عرقياً مع بعض القوميات كالطاجيك والأوزبك.. 2- مرور خط أنابيب نفط بحر قزوين عبر أراضي افغانستان. 3- التخوف من أي تواجد وحضور لأمريكا فيها، لأن ذلك سيكون تهديداً عسكرياً لها. كل هذه العوامل وغيرها دفعت روسيا الى الاحتلال العسكري المباشر لافغانستان، وتمكين الحزب الشيوعي من الحكم، وكان من نتيجة ذلك أن تفجرت العاطفة الدينية في كل المجتمعات العربية والاسلامية وتداعت الحركات الاسلامية في هذه البلدان لإعلان الجهاد لنصرة الشعب الافغانستاني، ومساندة الجماعات الاسلامية فيها التي بدأت تقاوم الاحتلال. الولايات المتحدة الامريكية وجدتها فرصة مناسبة لزعزعة كيان الروس في أفغانستان باستثمار هذه العاطفة الدينية وموجة الغضب العارمة لدى المسلمين، فسارعت الى تقديم الدعم المادي، الى جانب الدعم الخليجي الكبير، وهيأت الاساطيل البحرية التي تقوم بنقل المتطوعين للجهاد الى افغانستان.. انتهت الحرب الباردة غير أنه لم تنتهِ إفرازاتها التي انطلقت من هذا المكان وتناسلت وانتقلت الى طور جديد من الصراع في أكثر من مكان، بين تنظيم القاعدة وتفريخاته الارهابية، وبين المجتمع الدولي بزعامة أمريكا تحت مسمى «محاربة الارهاب» خاصة بعد أن تمكن هذا التنظيم من ضرب أمريكا في عقر دارها ويدمر أهم معلم اقتصادي بها في الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ما كان يتخوف منه الاتحاد السوفييتي تجلى بعد عشرين سنة من خروجه من افغانستان، فها هي جمهورية كازخستان إحدى الجمهوريات السوفييتية سابقاً، أصبحت من الدول التي يستوطنها تنظيم القاعدة والحركات الدينية المتطرفة المرتبطة به روحياً، ففي شهر اغسطس الفائت من هذا العام شيعت القيادة العسكرية فيها جثامين خمسة عشر جندياً قتلوا في مواجهات مع جماعة من «الحركة السلفية الجهادية» هذه الحركة الارهابية التي أصبحت المشكلة الرئيسية التي تهدد الامن والاستقرار في كازخستان كما صرح بذلك الرئيس الكازاخي..
نشأة القاعدة .. مرحلة أفغانستان الأولى
مع منتصف الثمانينات أذن مؤذن الجهاد لنصرة المسلمين في أفغانستان ضد الشيوعيين الروس وارتفعت أصوات الخطباء من على المنابر في كل البلدان العربية، تدعو للجهاد بالنفس والمال وبسرعة فائقة تكونت الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات المالية في كل المساجد وبعد كل صلاة.. الخطاب الديني للاخوان المسلمين كان مؤثراً ومستفزاً لمشاعر المسلمين ونخوتهم ساهم في ذلك الاشرطة الخطابية والانشادية التي سرعان ما وجدت طريقها الى كل مواطن عربي وخاصة فئة الشباب، هذه الأشرطة كانت تشرح حال المسلمين في افغانستان، وما يلاقونه من مجازر وانتهاكات على يد الشيوعيين، وكذا الانتصارات والبطولات التي يحققها الافغان، مع إفراد مساحة كبيرة للمعجزات الإلهية التي تتحقق على أيدي المقاتلين الافغان في ميادين المعارك، من مثل استخدام التراب والحصى في تفجير الدبابات والآليات العسكرية الاخرى، وقد وردت الكثير من مشاهد هذه الخوارق في كتيبات عدة تولى تنظيم الاخوان توزيعها وتعميمها بين أوساط الشباب والطلاب، منها كتاب «آيات الرحمن في جهاد الأفغان». نشطت عناصر الاخوان المسلمين في اليمن بهمة عالية في جمع مبالغ طائلة من التبرعات حيث كان للحديث عن الجهاد والمجاهدين في افغانستان وقع سحري على الوجدان اليمني، فاندفع المواطن اليمني ومن كل الفئات الى تقديم التبرعات وكان سخياً في ذلك، كما تملكت الشباب اليمني عزيمة وإرادة جامحة للجهاد في افغانستان، فتدفق عشرات الآلاف من هؤلاء الشباب تحت تأثير الخطاب الديني القوي للاخوان.. غير أن مهمة تفويج المتطوعين الشباب كما يقول د/ سعيد الجمحي في كتابه «تنظيم القاعدة النشأة .. الامتداد الفكري» أحيطت بسرية تامة، حيث انيطت المهمة الى رموز معينة من الاخوان تولت التفويج وتدوين البيانات وحفظها.
بيت الأنصار والزنداني
«بيت الانصار» الذي أنشأه مؤخراً الشيخ عبدالمجيد الزنداني وعلي محسن الأحمر في أرحب ومناطق أخرى لاستقبال المتطوعين للقتال ضد الحرس الجمهوري وتدريبهم على أيدي عناصر من جنود الفرقة الاولى مدرع، يذكرنا بـ«بيت الانصار» الذي أنشأه عبدالله عزام وايضاً أسامة بن لادن في مدينة بيشاور الباكستانية لاستقبال الشباب العربي المتطوع للجهاد في افغانستان، كانت الفكرة أن يمكث هؤلاء الشباب في بيت الانصار لعدة أسابيع لإعدادهم وتجهيزهم وتدوين أسمائهم وبياناتهم بالتفصيل والجهة أو الشخص المسؤول عن تفويج كل شاب، ثم بعد ذلك يكونون جاهزين لإرسالهم الى جبهات القتال في افغانستان غير أن اسامة بن لادن تفاجأ عندما شاهد تدفق عشرات الآلاف من المتطوعين العرب، ومن مختلف المذاهب الدينية، كما يقول الجمحي أهمها: «اخوان، تبليغ، سلفية، مستقلين» لذا قرر أن ينشئ معسكرات خاصة في افغانستان تستوعب الشباب القادمين من بيت الانصار ببيشاور. كان تنظيم الاخوان المسلمين في اليمن اكثر نشاطاً وحماساً في إرسال المجاهدين، حيث تمكن من تفويج عشرات الآلاف وكان على رأس المكلفين بهذه المهمة الشيخ عبدالمجيد الزنداني والشيخ حمود الذارحي.. في منطقة «غوست» الافغانستانية، أنشأت معسكرات التدريب للمجاهدين العرب، وكان الفلسطيني الشيخ عبدالله عزام يعتبر القائد الحركي والشخصية الروحية الملهمة للمجاهدين العرب، والأكثر حضوراً وتأثيراً بينهم، بحكم نشاطه الدعوي المبكر، ونشاطه الثقافي والاعلامي الغزير والمؤثر، الى جانب أكبر منافسيه الشيخ أسامة بن لادن ويليهما في الحضور المعنوي وقوة التأثير وإن كان بدرجة أقل الشيخ عبدالمجيد الزنداني والشيخ عمر أحمد سيف الذي يعتبر الأب الروحي لأسامة بن لادن، وباستشهاد الفلسطيني عبدالله عزام الذي اغتيل في ظروف غامضة، وسرت شائعات حينها بين أوساط المجاهدين أن وراء حادث الاغتيال هو اسامة بن لادن ورمز ديني آخر كان موجوداً حينها في افغانستان وبذلك انفرد بن لادن بقيادة الافغان العرب والارتباط بهم أكثر من جميع الجوانب. وعليه يعتبر الافغان العرب مرحلة افغانستان الاولى أي فترة منتصف الثمانينات حتى سنة 1990م هي اللبنة الاولى في تكوين التنظيم والجيل الاول الذي انعش الحركة الجهادية الاسلامية العالمية، ومن خلاله تشكل الجيل الثاني، وهو الجيل الناتج عن تلاقح واندماج جماعات العنف الديني التي ولدت من رحم الاخوان المسلمين مع السلفية الجهادية التي نشأت في حضن السلفية التقليدية الوهابية وأخذت تخرج عنها ابتداءً من سنة 1990م.
|