الإثنين, 26-سبتمبر-2011
سيف أحمد حيدر -
لم تكن ثورة 26 سبتمبر مقطوعة الجذور عما سبقها من نضالات وطنية لجماهير شعبنا، بل هي امتداد طبيعي لحركة وطنية شاملة بدأت بمقاومة الغزو التركي والاحتلال البريطاني، وإذا كانت بدايتها قد اتسمت بالعنف المسلح وامتداد ساحتها لتشمل أجزاء شاسعة من الوطن ولتلف جماهير واسعة من حولها فإن ذلك يعود إلى السمة الوطنية الخالصة لتلك المعركة.. وإذا كان نضال شعبنا من أجل الاستقلال قد بدأ في وقت مبكر جداً وركبت موجته قيادة متخلفة، فقد اصبح مضمون هذا النضال لا يتعدى الاستقلال وطرد المحتلين المدنسين لتراب الوطن.
وكان من النتائج الطبيعية أن الحصول على بعض المكاسب الوطنية في ظل قيادة متراخية خانعة لابد وأن يؤدي إلى وقف المد الوطني وبلبلة وحدة المقاتلين وارادتهم، غير أن التنازلات الوطنية من قبل أي حاكم حتى ولو كان بمثابة الأسطورة كالإمام يحيى لابد وأن تضعه موضع التساؤل في قليل أو كثير وقد بدأ مثل هذا التساؤل عقب صلح دعان وانتهى بمصرع الإمام المؤله في حركة 1948م.
وإذا كنا نسلط الأضواء على هذا الحدث فلأنه يمثل خلاصة التحولات المهمة في اتجاه الحركة الوطنية ورايتها المشرعة ضد الغزاة ومن أجل تحرير الأرض ووحدتها.
فلقد كان هدف الحركة الوطنية يستوجب القضاء التام على الاحتلال الأجنبي الا أن المقاتلين ضد الأتراك قد اصيبوا بخيبة أمل عندما وقع «يحيى» صلح دعان سنة 1911م الذي اكتفى منه الإمام- القائد المنتصر- بما يشبه الحكم الذاتي وترك للاتراك السلطة المباشرة الإدارية والشرعية على أجزاء شاسعة من البلاد والسلطة السياسية على عموم الوطن واكتفى لنفسه برضى تام بمعاش شهري وبعض السلطات الدينية على جزء آخر وكان من الطبيعي أن يبدأ التململ والتساؤل والشك بنوايا الإمام.
غير أنه عن طريق ترديد نفس الشعار الذي كان يجد عشرات المبررات لرفضه بالأمس، ألا وهو حقن دماء المسلمين ووحدتهم، استطاع عن طريق ذلك تجميد الموقف والتغلب على بوادر الرفض، ومن زاوية أخرى فقد كان بالإمكان أن يكون صلح دعان خطوة على طريق «خذ وطالب» لو أن الإمام استمر في مجابهته للأتراك وفي أسوأ الظروف يصل المناطق التي يمارس عليها نفوذه الديني وبالذات القضاء وجباية الزكاة لتنعم بالعدل وتحظى ببعض الخدمات حتى تكون مصدر إلهام لبقية المناطق المحتلة.. لقد اغمض عينيه عن كل شيء إلاّ مركزه ومزاياه الشخصية في مواجهة الاتراك..وقد ساعدته الظروف بانفجار الحرب العالمية الأولى التي غدت تركيا طرفاً رئيسياً فيها في تجميد المشاعر والأوضاع حيث ساعدت يحيى إلى حد كبير في التغلب على ردة الفعل وتجميد المطالب الوطنية من جهة والتغلب على خصومه وأية مقاومة من جهة أخرى وذلك لسببين:
الأول: يتمثل في ذلك التعاطف العام مع الأتراك بصفتهم مسلمين في مواجهة الانجليز الكفار أعداء الله.. وانشغال الرأي العام بتطورات الحرب ومعاركها.
الثاني: تدفق الذخائر والمعدات العسكرية التركية إلى اليمن قبل دخول تركيا الحرب مباشرة «تحسباً للحصار البحري البريطاني المسيطر على البحر الأحمر ولكي تتمكن القوات التركية من الزحف على عدن والسيطرة على باب المندب وقطع المواصلات بين الانجليز ولؤلؤتهم الهند عوضاً عن السويس»..
«ولما كانت العلاقة وطيدة وحسنة بين الوالي التركي والإمام الذي اصبح ملكاً فعلياً أثناء الحرب، ونظراً لفشل الاتراك في أداء مهمتهم ووقوفهم خارج أسوار عدن بلا جدوى فقد كان ذلك يعني أنه قد اصبح لدى الإمام كمية هائلة من العتاد والذخائر لمواجهة أي رد فعل معاد له».
وبالفعل فقد سلمت القوات التركية كل عتادها للإمام وطلب القائد التركي منه ارسال قواته لاستلام المناطق الجنوبية التي حررها من الانجليز عقب هزيمة ألمانيا وتركيا إلاّ أن الإمام تجاهل ذلك مما ولد خيبة أمل أخرى، وبالرغم من أنه كان قد استحوذ على المزيد من الأراضي إلاّ أنه قد أبقى على عاملين مهمين يستحوذان على اهتمام كل اليمنيين، هما وجود الانجليز في عدن والمناطق الشرقية والغربية من جنوب الوطن ووجود الادارسة عملاء الايطاليين أولاً والانجليز فيما بعد الايطاليين في عسير وتهامة.
وهكذا انتزع الاستقلال والانجليز في جنوب الوطن وإمارة عميلة لهم في عسير وتهامة، وزاد الطين بلة استيلاء الانجليز على ميناء الحديدة وتسليمه للإدريسي وكان ذلك يكفي لجعل الجيش الوطني يواصل مشواره في اتجاه تحرير التراب اليمني وتوحيده وغض النظر عن مساوئ الأوضاع الداخلية، ولم يكن بوسع الإمام إلاّ أن يرفض رفضاً حازماً سياسة الأمر الواقع في مواجهة الانجليز والادارسة وتمكن من الانقضاض على الادارسة وتحرير ثغر ومعظم تهامة حتى وصل إلى «ميدي» في حين لجأ الادريسي إلى الملك عبدالعزيز ووضع ما تبقى من امارته تحت حمايته بموجب اتفاقية الطائف سنة 1926م، هذه الاتفاقية التي كانت سبب الحرب بين البلدين وانتهت باتفاقية الطائف سنة 1934م.
وربما كانت الحروب الوطنية من أقوى الأسباب والعوامل التي تدفع الشعوب إلى معرفة نواقصها وحاجاتها وتفضح حكامها، فضرب الطائرات البريطانية لعدة مدن وقرى يمنية، واجبار الإمام على الانسحاب من مناطق متعددة في جنوب الوطن، ووقوف الحاكم والشعب مشلولي الحركة لا حول لهما ولا قوة لمواجهة الطائرات، ونشوب الحرب السعودية اليمنية قد كشفت مساوئ وحكم ومغزى الاستقلال الذي حصلنا عليه، ولذلك فليس من الغريب أن نرى عبدالله الوزير بطل النصر في الحديدة وبطل اتفاقية الطائف هو بطل حركة 1948م ضد الإمام يحيى، إن عدة عوامل في الثلاثينيات قد ساهمت في سوق المناضلين الوطنيين إلى منحى آخر وطريق جديدة، فجبروت الاستعمار البريطاني واستخدام الطائرات لضرب المدن والقرى وعجز الحكومة المستقلة منذ عشر سنوات عن أي دفاع ناهيك عن الرد والردع واستسلام الإمام وانسحابه من كافة المناطق التي طالبه الانجليز بالانسحاب منها والحرب السعودية اليمنية ونتائجها كل ذلك قد عرى البطل الأسطوري وسلط الضوء على سلبياته.
وهنا يمكن القول إن حركة المعارضة أخذت تحدد معالمها وهويتها في ظل ظروف غاية في التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي معتمدة على قوى اجتماعية لا تشكل أي جديد لا لأنها لم ترغب في ذلك بل لأن هذا الجديد لم يوجد بعد، فالفئات البرجوازية التي أخذت تتصدر النضال الوطني والاجتماعي في بقية أقطار العالم العربي لم تكن قد ولدت بعد في اليمن، ولأن حركة التاريخ لا يمكن أن تتجمد فقد ظهرت المعارضة وولدت من قلب الطبقة السائدة وكان من الطبيعي أن تلجأ إلى نفس السلاح الأيديولوجي وتعطيه مضامين تقدمية ومتطورة وتلجأ إلى أساليب المناورة المختلفة واستقطاب العناصر الغاضبة واستغلال مختلف التناقضات في نفس الطبقة.
وهكذا قامت حركة 48 كنتيجة طبيعية لهذا الوضع الذي حدد مستوى التطور إلاّ أن الحركة قد كانت ارهاصاً لتحولات جديدة وضرب النفير لكي تتصدر النضال قوى أكثر جذرية من حيث الانتماء الاجتماعي والتفكير السياسي الأمر الذي أتى في النهاية بثورة 26 سبتمبر.
عن كتاب «ثورة 26 سبتمبر ودراسات وشهادات للتاريخ»



تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 04-ديسمبر-2024 الساعة: 06:53 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-23150.htm