محمد علي عناش - لايزال التساؤل قائماً:هل ما يحدث في البلدان العربية، بالفعل هو ربيع عربي؟ وأننا بصدد ثورات عظيمة، يصنعها جيل عربي عظيم، اختصر الزمن وردم الهوة وقصر المسافات؟ أم فوضى وحالة عدم عربية تستهدف تدمير بنى الدول العربية، وتستنهض فيها ثقافة وقيم الصراع والعصبية والهويات القاتلة، الكامنة في النفوس والوعي الباطن للإنسان العربي (القبلية، الطائفية، المذهبية، الطبقية) كونها هويات صراعية، ومن عوامل تدمير الشعوب وتمزيقها، وتشظية الوعي الجمعي بالدولة والعقد الاجتماعي، ومن ثم العودة مرة أخرى الى مرحلة ما قبل الدولة.
عمر الربيع العربي الى الآن قارب على العام، والى الآن لم يتجلَ أنه بالفعل ربيع عربي، يعبر في مضمونه عن طموحات حضارية للشعوب، حتى اللحظة هو أقرب الى الفوضى والحالة العدمية، تلعب التكوينات الاجتماعية والسياسية والثقافية العربية دوراً كبيراً في إنتاج حالة الفوضى، واستمرار حالة التيه العربي لأن فاعليتها لا تعبر عن طموحات حضارية، وذات عصرية فاعلة ومؤثرة بقدر ما تعبر عن طموحات آنية غير منظمة وبحث عن الذات في الماضي للاحتماء به والاستغراق في صراعاته وعصبياته ومتونه وخرافاته، واستجلابها لمواجهة الحاضر، ومحاصرة اشكالياته وقضاياه المعاصرة بقضايا عمرها اكثر من ألف سنة.
الديمقراطية والتنمية
ليست الإمكانيات المادية هي ما ينقصنا أو هي العائق الوحيد أمام تطورنا ونهضتنا كعرب ومسلمين، فلدينا من الامكانيات الهائلة التي يسيل لها لعاب العالم أجمع، لكنها لم تنتشلنا من عشوائيتنا وتخبطنا وضعفنا، لم تحررنا من أميتنا، فنصفنا لا يجيدون القراءة والكتابة، وأيضاً لم تحل دون أن نتطرق ونتشظى الى طوائف وعشائر ومذاهب، بل وظفت كي نكون كذلك.
وليست الديمقراطية هي كل ما ينقصنا، فلن نجد الحلول جاهزة لمشاكلنا في صناديق الاقتراع، إذا لم ندرك أصلاً طبيعة مشاكلنا، ولم نحدد ماذا نريد الضبط؟
أكيد كم نحن بحاجة الى الحرية والديمقراطية، بالمستبد العادل الذي ابتكره وبشر به الإمام محمد عبده منذ قرن من الزمان، لم يقدم حلاً ولم يخرج الأمة من مأزقها، ولم يحقق عدالة اجتماعية ومواطنة متساوية، غير أن الحرية والديمقراطية، لن تكون كما قال فيصل جلول هي الوصفة السحرية لمشاكل الفقر والأمية والامراض المستعصية والبطالة والسكن، إذا لم تصدر عن إرادة واعية ولم ترتبط بطموحات وجهود التنمية ولم يرتبط الوعي بالديمقراطية، بالوعي بقيم الدولة المدنية والشروط الاجتماعية للحداثة وحكم الشعب نفسه بنفسه، فمشاكلنا متعددة وعميقة، إذا لم ننظر اليها ولم ندركها ونستوعبها، لن نكون ديمقراطيين بل صراعيين ومتناحرين، ولن نكون أحراراً، بل مستبدين ومقموعين، حينها صناديق الاقتراع لن تقدم لنا الحلول لمشاكلنا، أو تسد رمقنا، لأن أوراق الاقتراع ستصبح مجرد أوراق تصويت للعشيرة والطائفة والمذهب، تصويت للفساد والتطرف والاستبداد والتخلف، تصويت لحاكم قطر الذي يرعى حالياً هذا النوع من الديمقراطيات ويتبنى مشروع التراجع العربي، بتصفية لحظة التحولات الحقيقية التي يجب أن تنهض بها القوى الليبرالية حاملة مشروع الحرية والديمقراطية والعلم والتقدم الاجتماعي.
وبناء عليه يؤكد علماء السياسة والاجتماع، أن التحولات الديمقراطية في المجتمعات النامية والمتخلفة، لن تحدث دفعة واحدة وإنما هي عملية متدرجة تصاعدياً تبعاً للتراكم في الوعي والتطور في الأداء السياسي والديمقراطي، وهذا التراكم في الوعي والخبرات يرتبط شديد الارتباط بمدى ما يتحقق من تحولات اجتماعية واقتصادية في المجتمع، بما حققنا في مجال القضاء على الأمية وحقوق الإنسان، وفاعلية المرأة في جميع المجالات وتفكيك الانتماءات والعلاقات القائمة على أسس عصبوية، وايضاً مرتبط بمدى ما يحدث من ترسيخ لأركان الدولة المدنية.. بناء الدولة المدنية وتعزيز قيمها ومؤسساتها هو محور نضال القوى الديمقراطية الليبرالية التي تنحاز لقيم العصر والانفتاح والنظام والقانون ومؤسسات المجتمع المدني وحرية الفكر والرأي والمعتقد.. ولم تنحز لعصبتها ومشاريعها الصغيرة، بل اسقطتها لتقيم المشروع الوطني العام الذي يمثل هوية جامعة لكل الشرائح تحت سقفها نتنافس ونختلف ونتوافق من أجل تطويرها وترسيخها.
أما القوى غير الديمقراطية فإنها لا تؤمن بالدولة المدنية وقيمها المعاصرة وإنما بالدولة العصبوية التي تقوم على أساس عشائري أو طائفي أو ديني أو شمولي، حتى ولو رفعت شعار الحرية والديمقراطية فإنها تمارسها انطلاقاً من هذا البعد الضيق الذي لا يقيم أبداً الدولة الوطنية ومشروع الأمة الحضاري.
الحرية من منظور قطري
إذاً الحرية والديمقراطية وقيمها الليبرالية المعاصرة ليست مجرد خطاب سياسي وشعارات يرفعها أعداء الحرية والديمقراطية والقوى الوصولية والفاسدة بل هي تأصيل فكري وثقافي في الوعي، وقيم مجتمعية حديثة، تبث السلام لا التناحر والحروب، تحترم الحوار والعقل والتفكير الانساني الحر، لا تستبد بالتفكير وتحجر على العقل وتلغي التعدد والتنوع.. الحرية والديمقراطية التي تفهمها قطر، وتحرض عليها بشكل سخيف «قناة الجزيرة» لا تنتمي للمشروع الديمقراطي الليبرالي، وليست من النوع الذي يفضي الى سلام مجتمعي والى دولة مدنية حديثة وإنما هي من النوع الذي يفضي الى استبداد ديني وعشائري، والى حروب وصراعات وعنف مجتمعي.
قطر تحولت بين عشية وضحاها من راعية للجماعات السلفية الراديكالية بعد أن ثبت أن هذه الجماعات هي الوسط الذي يترعرع فيه ويولد فيه أعضاء القاعدة الى راعية ومحرضة على ما يسمى ثورات الحرية والديمقراطية.. غير أن الحرية والديمقراطية التي تفهمها قطر ليست الا مجرد حراك سياسي وجماهيري في الساحات والشوارع، تستنفر له كل العصبيات والطوائف والقوميات والأحزاب الدينية الراديكالية التي لا تفهم الحياة الا «قرآن وسيف»..
وعليه فإن الثورات التي يتبناها حاكم قطر هي أنموذج للثورات الارتدادية، ونمط للعقل والوعي التراجعي الذي يستهدف الأمن والاستقرار ويشحذ همم العصبيات، ويدمر الضمائر ويقتل الولاء الوطني لدى جيل عربي كامل، باسم الحرية والديمقراطية كما يروج لها حاكم قطر والقرضاوي ووجدي غنيم، وهؤلاء كمعبرين لأيديولوجيا الاخوان لا يقرون بالدولة المدنية كمنتج بشري، وقدوة فاعلية العقل والإرادة في الوجود وإنما وفقاً للنص، قرآن وسنة، والوسيط بينهما هم العلماء ورجال الدين، ولا مجال هنا للعقل ولا لإرادة البشر، وإنما إرادة رجال الدين المعصومة من الأخطاء ولا مجال لمناقشتها أو التراجع عنها.. لم نكن مقموعين الى الدرجة التي أصبح لزاماً أن يحررنا حاكم قطر، الذي بفضله تحولت مدارسنا وجامعاتنا الى ثكنات عسكرية وساحة تدريب لمليشيات جامعة الايمان، وبفضله صارت الكلمة والتصريح والرأي يرد عليها بالصواريخ ودانات الدبابات كما حصل لمنزل الاستاذ عبده الجندي نائب وزير الاعلام.
ولايستبعد أن يكون بفضل قطر منحت توكل كرمان جائزة نوبل للسلام لو كانت الجائزة مخصصة لنضال المرأة الديمقراطي في المجتمعات المحافظة كمجتمعنا كان يمكن أن نتقبل ذلك رغم أن مشوارها النضالي ضئيل ولا يؤهلها لذلك، أما ان تكون الجائزة للسلام فالأمر صار غير منطقي ولا يعبر عن مضمون حقيقي.
كرمان لم تدن الى الآن حادثة جامع النهدين الاجرامية، ولا تعتقد أن تنظيم القاعدة في اليمن يمثل تهديداً للسلام العالمي وإنما هو فزاعة، كرمان متهمة من غالبية إئتلافات الثورة بأنها تسببت في مقتل ثمانية عشر شاباً في شارع الزراعة عندما حرضتهم على الزحف ثم تخلت عنهم، كم كنا نتمنى أن تحصل توكل كرمان على الجائزة في غير هذه الظروف، أما في ظل ما يحدث في اليمن، فالجائزة تحمل بعداً آخر ومعنى مجافياً للحقيقة، ومن باب الانصاف فالجائزة أخطأت طريقها وكان من المفترض أن تذهب الى الاستاذة أمل الباشا، فمشوارها النضالي في المجال المدني والحقوقي والسلم الاجتماعي يؤهلها لذلك.
قطر تدخلت في الامر بكل ما تملكه من قوة كي تثأر لصورتها التي تشوهت في اليمن، ما يؤكد أن الرشى القطرية قد وصلت الى أعلى المستويات وأمام هذا الدور الكبير الذي صارت تلعبه قطر، صرت لا أستبعد أن يأتي يوم تصبح فيه قطر دولة راديكالية عظمى تهدد العالم، كأن قد تمكنت فرضاً من الحصول على كمية كبيرة من اليورانيوم المخصب، ربما، فتحركاتها ضمن مشروع كبير في المنطقة يثير الريبة.
الثورات اللقيطة
العرب لا يهتمون بمضمون الاشياء وجوهرها وإنما بمظهرها الخارجي وتجلياتها الاخيرة وكأنها حالة سائدة ومزمنة لدينا، وكثيراً ما نبدو غير واقعيين وغير جادين في حياتنا بل ونمارس أحياناً التزوير على أنفسنا حتى في المراحل والظروف المعقدة التي تتطلب الوضوح والشفافية وإجلاء الحقائق .. كما أن سطحية التفكير وعدم الاهتمام بمضمون القضايا وبحشد قدراتنا التنظيمية في الإنجاز والتنفيذ جعلنا نبدو شكليين حتى ونحن نصنع ثورة فإننا نصنعها بعدمية وبلا ذات واعية لتكون النتيجة ما يمكن أن نسميه بـ«الثورات اللقيطة».
أحدهم قال: إن الثورات العربية الراهنة، أعظم ثورات الأمة طوال تاريخها وأن هذا الجيل أعظم جيل عربي تخلق حتى الآن.. يلزمنا هذا الكلام الكبير.. أن نحترمه.. وأن نحترم الدافع النبيل والمقصد السامي وراءه، الا أنه توصيف شكلي لا يستند لأسس منهجية ومخالف للجوهر، ولا يعبر عن حقيقة، لأن مثل هذا الكلام لا ينطبق، مثلاً، على الشيخ صادق الاحمر الذي يهتف في ساحة التغيير بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية، لا يمكن أن اقتنع أنه بالفعل كذلك، لأن المضمون شكل مختلف وحقيقة مغايرة، كما لا ينطبق على القائد علي محسن الاحمر عندما قال في خطابه إنه يحترم الفكر الإنساني الحر، أدرك ان الجوهر مختلف ولا يعبر عن حقيقة فكرية وثقافية وسلوكية لدى القائد، قد يدافع عن رأيه بأن المقصود بعظمة الثورات هو في شبابها.. لكننا لا نرى حركة ثورية شبابية فاعلة، هي من تصنع الحدث وهي من سوف تحافظ عليه.. وإنما صادق الاحمر وعلي محسن والزنداني والحنق وبقية التيار العشائري الديني هم الفاعلون الرئيسيون وهم من يصنعون الحدث بطريقتهم الخاصة طولاً وعرضاً، لكنهم بالتبني لثورة شبابية وجدوها على قارعة الطريق تائهة وبلا قيادة وبلا خبرة تنظيمية وبلا مشروع وهو ما عنيناه بالثورة اللقيطة.. لذا فمن وجهة نظري أن ثورة سنة 1919م المصرية هي من أعظم الثورات وأن الجيل الذي صنعها جيل عربي استثنائي.
|