عبدالرحمن مراد -
التيه دوران وفراغ تقع فيه المجتمعات متى انحرفت عن المسارات والسياقات الإلهية، وهو ليس كما يظن الكثير عقوبة إلهية وقعت على قوم موسى عليه الصلاة والسلام ولن تقع على غيرهم ممن يشاكلهم أو يماثلهم في الانحراف عن المسار والخروج عن إرادة الله والانبياء المبلغين عن الله أو في ضعف اليقين وغلبة الشك والظن، ولعل القرآن قد أوجز الفكرة في هذا الشأن فكان بلاغاً وبياناً للناس ولكن أكثر الناس لايعقلون.
مشكلة الأمة في حاضرنا أنها تقرأ القرآن تعبداً فقط ولكنها لاتقرأه تعبداً وتدبراً وان قصصه عن الأمم البائدة لم تأتِ عفو الخاطر أو للتسلية والعبرة ولكنها جاءت لأنه ثبت في علم الله أنه سيقع ما يشاكلها.. وإذا كان الفساد من القضايا الجوهرية التي أولاها القرآن قدراً من الاهتمام في التحذير لأنها رأس كل بلاء وذلك في عموم مفهومها وليس في خصوصه (فالفساد هو إخلال بالنظام العام وبمنظومة القيم والمبادئ العامة) فإنه في المقابل- أي الفساد- يكون سبباً في التيه الذي هو دوران في الفراغ أي ضرب من السير إلى الغاية المنشودة فتعمى عنها وتعود إلى حيث أنت من البداية وهو الأمر الذي نكاد ندركه في الفعل الثوري أو السياسي أو القيمي في الواقع المعيش وقد سبق لنا بيان حالات العدم في مقالات سابقة، «فالعدمية» ليست أكثر من شعور فائض بالتيه.
وقد لا نستغرق كثيراً في واقعنا لنكتشف ذلك الاكتمال في التيه الذي وصلنا إليه، فالحدث الأقرب إلى الذهن والذاكرة هو جائزة نوبل للسلام، وهذا الحدث هو حديث الساعة والوسط الإعلامي كله، وموضوع «السلام» موضوع مهم في الثقافة القرآنية والإسلامية بيد أن العقل العربي والإسلامي لم يشتغل على هذا البعد ولم يولِه الجهد والوقت الكافي من البحث والتأصيل، وإذا كان المجتمع الإنساني قد أدرك أهمية «السلام» وخصص له جائزة عالمية كجائزة نوبل للسلام فإنه قد استطاع تحقيق مقاصد الله والقرآن في الأرض وبين بني البشر في حين عجز عن ذلك حاملو الرسالة أنفسهم باشتغالهم على ما يناقض السلام من الموت والدمار وترويع الآمنين على ظهر هذه البسيطة وذلك حال من التيه وصل إليه مسبلو اللحى وادعياء الدين الذين ابتعدوا كثيراً عن جوهره ومقاصده بدورانهم ثم عودتهم إلى طبيعة التوحش التي عبر عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة..
السلمية في «الصمع والحصبة»
فالقول «بالسلام» وبروز ما يناقضه في السلوك والممارسة تيهٌ يفضي دورانه إلى ذات النقطة التي انطلق منها في البدء، فالخروج بالصدور العارية في أماكن الاعتصامات والمظاهرات ثبت عودته إلى نقيضه والقول بالسلمية ثبت في جبل «الصمع» وفي «نهم» وفي «الحصبة» وفي «القاع» وفي «الزراعة» وجولة «كنتاكي» وما يناقضها وإذا كنا ندرك أن «السلام» لابد أن يتجاوز خلتين أخلاقيتين هما «الحقد» و«الحسد»- وحسب الرسول عليه الصلاة والسلام هما داء الأمم من قبلنا- لأنهما من مصادر العنف، فإننا نجد قياساً على الحال الذي نحن فيه والمتمثل في فوز الناشطة توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام أننا ندور في فراغ معرفي وثقافي وقيمي لنعود إلى ذات البداية التي كان مفترضاً لنا أن نتجاوزها، فحاملة جائزة نوبل للسلام تحلق في فضاء السلام وتحمل مفردات السلام وترفرف بأجنحة السلام وما تفتأ تعود إلى دائرة الحقد الذي كان مفترضاً أن تتجاوزه.. نقرأ ذلك في تصريحاتها وحواراتها.. وعدم قدرتها على الانتقال دلالة على سيطرة حالة التيه عليها، وعلى المناوئين لها من حزبها الذين أبدوا استنكاراً لفوزها إذ قال محمد عبدالمجيد الزنداني- حسب بعض المواقع الالكترونية- إن الجائزة ليست أكثر من مؤامرة على المرأة المسلمة لاشغالها عن رسالتها في تربية جيل قادر على حمل الرسالة وأنها- أي الجائزة- لاتمنح إلا لليهود أو للمتعاونين مع اليهود وهناك من رأى اختراق الحركة الماسونية للمنظومة الإسلامية مستدلاً بما قاله مصور «الجزيرة» سامي الحاج بعد خروجه من سجن «غوانتانامو» وقوله عن مباهج الحياة التي عرضت عليه مقابل العمل مع منظمات سرية لم يسمها، وثمة من رأى عدم الاستحقاق لأن الشروط الموضوعية للجائزة لا تتوافق والسجل النضالي لتوكل كرمان ووضع الجائزة على قائمة التساؤل والشك والريبة، وجل الأطروحات تشتغل على التخوين والتخويف وتبتعد عن خلق واقتراح البدائل الإسلامية حتى نضاهي أولئك البشر في الاشتغال على المشترك الإنساني وتنميته وتوظيفه لتحقيق مقاصد الله والإسلام بدلاً من الاشتغال على مفردات الموت والأحزمة الناسفة وتدمير مقومات الحياة وتقديم الإسلام في صورة مشوهة تتنافى وجوهره الحقيقي وحتى نتمكن من الخروج من دوائر التيه وضبابية الغايات التي نسعى إليها.
ولا أظن «فقه الثورات» الذي قال به الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. سليمان العودة إلاّ ضرباً من ضروب التيه المتعددة بدليل أن الخطاب الديني في مجمله مسكون بوعي المؤامرة وقد أطل علينا رموزه في فترات زمنية متباعدة ومتعددة وهم يتحدثون عن مخططات (صهيوأمريكية) لزعزعة أمن واستقرار المنطقة.. ولعل الذاكرة لم تزل تستحضر الشيخ عبدالمجيد الزنداني وهو يطل علينا من قناة «الجزيرة» متحدثاً عن الشرق الأوسط الجديد الذي كانت تبشر به الإدارة الأمريكية في عهد (بوش الابن) على لسان وزيرة الخارجية (كوندا ليزا رايس) وحين اشتعلت النار في المنطقة رأيناه أول الذين ابتدعوا مبرراً وتخريجاً شرعياً للثورات، ومثله أمين عام حزب الله بلبنان حسن نصر الله الذي فاخر بإحباط المخطط «الصهيوأمريكي» الشرق الأوسط الجديد، بانتصاره في حرب تموز 2006م خرج مؤيداً لحركة المجتمعات العربية ماعدا الحركة الاجتماعية في القطر السوري ويتوج ذلك الدكتور سليمان العودة القائل بفكرة «فقه الثورات» بقوله: «فيما يتعلق بحديث البعض عن وجود مؤامرة يثير تساؤلاً حول سبب أننا مسكونون بالمؤامرة، وكأن طرفاً آخر هو الذي يدير الكون غير الله سبحانه وتعالى.. إننا نقدم خدمة جليلة لإسرائىل أو للغرب أو للشرق أو لأي جهاز حينما نقول إنه يحرك شعوباً بأكملها وملايين الناس من كافة الأجناس والأصناف، إن هذا الحديث لايعدو عن أن يكون نوعاً من الهروب» (انتهى- نقلاً عن الصحوة)..
إذاً يمكن القول إن هذا النقد للخطاب الديني من أرباب الخطاب أنفسهم لايعدو عن كونه تيهاً لعدم وضوح الرؤية ودوران الخطاب حول ذاته ومن ثم عودته إلى نقطة البداية التي انطلق منها وهو القول بالمؤامرة حين تنقشع غيوم الأزمات وقد كشفت الغطاء عن دولة «كردية» قادمة وحينها حتماً سنبرر كل ذلك بوعي المؤامرة، وإذا بنا ندور في «التيه» ذاته ولن نستطيع الخروج إلاّ بعد أن نشعر أنه قد اكتمل فينا.
وبالعودة إلى «فقه الثورات» نجد أن ثمة أفكاراً جديرة بالوقوف أمامها لا لشيء إلاّ لأنها تشكل انتقالاً نوعياً في الفكر الإسلامي، من ذلك القول بالقطيعة مع الماضي والتأسيس للحظة حضارية جديدة مع الاستفادة من ايجابيات الماضي ونبذ سلبياته والقول إن الثورة ليست عملاً اعتباطياً أو ارتجالياً أو فوضوياً أو تصرفاً فردياً ولكنها الروح التي تندفع كأن الأمر الإلهي قد حق، وأيضاً القول إن الثورة ليست عبارة عن حالة مؤقتة بل هي أشبه ما تكون بديمومة كالثورة على أنفسنا من داخلها في الإصلاح والثورة على السلبيات داخل أي مجتمع ويرى الدكتور سليمان العودة صاحب الأفكار الآنفة أنه يجب أن لايكون مفهوم الثورة مقصوراً على حراك سلمي اجتماعي يهدف إلى تغيير أنظمة سياسية وإنما يكون الأمر شاملاً لكل المجالات، بما فيها الفرد والمؤسسات الاجتماعية.
ويقول العودة: إن الثورة الحقيقية يجب أن لا تستبدل استبداداً باستبداد آخر لكن لحونه مختلفة ومن هنا علينا أن لانحتكر الرأي والتحليل.. ويقول العودة: علينا أن ندرك أن الثورات قامت من أجل أن يكون هناك حريات ومن ذلك حرية الإنسان في اختيار من يريد، ويرى أن من المهم ألا يتحول الأمر إلى إخلال بالسلم الاجتماعي أو إهدار لطاقات الدولة وامكاناتها، أو تدمير بناها التحتية.
ولعل المتأمل في كلام الدكتور سليمان العودة يلمح فكراً تقدمياً طلائعياً اشتغلت عليه الحركات التقدمية والطلائعية منذ قرن من الزمان وهو منذ قرن من الزمان مايزال يشق طريقه إلى مفردات الخطاب الديني ولعل فكرة (فقه الثورات) التي قال بها الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تشكل نواة لمشروع حضاري نهضوي للمسلمين يخرجهم من ظلمات التيه إلى نور الحقيقة والعصر فقد مضى زمن طويل ومايزال المسلمون يدورون حول النص من حيث الظن واليقين ولم يصلوا إلى كلمة سواء بينهم تكون فيصلاً في حلِّ قضاياهم ومشاكلهم الفكرية العالقة.
ولذلك حين قلت إن التيه قد اكتمل فينا فأنا كنت أروم القول إن الكمال بداية لنقصان ولعلي استبشرت خيراً حين رأيت أن ثمة نافذة في فكرنا العربي الإسلامي انفتحت على أفق واسع من العالم حولنا- وإن تأخر زمنها- ورأيت أن «أيقونات» العقل العربي المسلم بدأت في الاشتغال والتفاعل مع الثقافات المعاصرة والتحاور معها بما يحقق نماءً واكتمالاً مع الآخر للوصول إلى غايات الله ومقاصده في الأرض من الخير والحق والسلام.. وفي السياق ذاته ما أزال خائفاً أن تظل دائرة التيه تحاصرنا ونستمر في ذات الحلقات التي بدأت سلسلتها منذ قرون طويلة ولم تصل إلى كمالها بعد، وخوفي يزداد كلما افترضت أن تلك الومضة لاتحمل سحائبها غيثاً وهي ليست أكثر من نفثة مصدود ونظل في دائرة التيه التي تحكم خناقها علينا.