أحمد الحبيشي - قبل ثلاث سنوات شاركت في ندوة إعلامية نظمها نادي دبي للصحافة حول المتغيرات العميقة التي يشهدها العالم المعاصر عموما، واسترعى انتباهي أن ثمة إجماعا حدث بين مقدمي أوراق عمل مختلفة ومتباينة على قضيتين جوهريتين ، وهما قضية إشاعة الديمقراطية وقضية حماية الديمقراطية من خطرين متلازمين يمثلان وجهين لعملة واحدة هي ( معاداة الديمقراطية) .. يتمثل الخطر الأول بالوجل والخوف الذي تبديه النخب التقليدية والبيروقراطية ضد إشاعة الديمقراطية وحرية الإبداع والتفكير والمناقشة والعلنية والانتقاد.. في ما يتمثل الخطر الثاني بالنزق واللا مسؤولية اللذين يبديهما ذوو الميول الفوضوية وسطحيو التفكير والثقافة عند ممارسة السطحية من تشويه لمبادئ الديمقراطية، وتوفير الذرائع للاتجاهات التي تخاف من التغيير وتعارض تجديد طرائق التفكير والعمل، حيث يجري تحميل الديمقراطية.. نتائج الممارسات المشوهة واللا مسؤولة التي يقوم بها بعض الذين يتظاهرون بأنهم ((أصدقاء الشعب)) ويحتكرون التحدث باسمه ، ولا يجيدون غير إثارة المشاعر العفوية للجماهير الشعبية والتبجح اللفظي بترديد الجمل الثورية الرنانة والخالية من أي مضمون، ورفع يافطة ((الديمقراطية )) – بطريقة براغماتية – عند الحاجة، وبحكم مقتضيات المواسم.. بينما يتحولون إلى وحوش ضارية بمجرد سماع كلمة حرية الاختيار عبر صناديق الاقتراع ، ولا يتوانون عن رفع شعارات (الحسم الثوري ) وممارسة الإرهاب الفكري، وإصدار الإدانات والاتهامات ضد كل من يمارس حقه الطبيعي في التعبير عن رأيه المعارض لهذا الطراز المشوه من ((الثوريين الجدد )) !!
والحال، أن ظهور بعض التشوهات في مجرى إشاعة العلنية وتوسيع الديمقراطية في حياة أي نظام ديمقراطي تعددي سواءً على مستوى السلطة أو المعارضة، يحب ألاّ يغدو مبرراً للوجل والخوف من الخيار الديمقراطي . وقد أثبتت الحياة المعاصرة، حقيقة أنه لا يمكن ضمان الديمقراطية بدون العلنية التي توفر المناخ الملائم لإبداع الجماهير في مختلف ميادين النشاط المادي والمعرفي وإدارة شؤون المجتمع.
وبوسعنا القول : إن العلنية بما ترتديه من أبعاد عميقة تستهدف في المقام الأول، التخلص من طرائق التفكير والسلوك القديمة والمعيقة للتطور السياسي والاجتماعي .
ولا ريب في أن المنابع الرئيسية لتلك الطرائق القديمة تتجسد في هيمنة نزعة الجمود العقائدي والخوف من التجديد، واللجوء الى الوسائل الفوقية والشكلية عند رسم السياسات وتنظيم الأعمال، والانشداد للميول البيروقراطية، وممارسة الإرهاب الفكري والقمع الإداري، وما نجم عن ذلك من تضييق وتغييب للديمقراطية، وعجز عن استيعاب قضايا التطور ومتغيرات الحياة.. وبالتالي إضعاف الطاقة الإبداعية للجماهير الشعبية، وطمس أفضليات النظام الديمقراطي التعددي.
ولا نبالغ حين نقول إن سياق هذه النتائج الخطيرة، يمتد ليشمل المساس بالحقوق الإنسانية المشروعة لأفراد المجتمع، على النحو الذي تجلى في بعض النظم السياسية في القرن العشرين، والتي سادتها فترات من التأزم الأخلاقي خصوصاً في عهود عبادة الشخصية المليئة بانحرافات الأجهزة الاستخبارية، وشيوع أجواء الإرهاب والافتراء والمكر والتآمر .. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأبعاد العميقة التي ترتديها مهمة إشاعة الديمقراطية، وممارسة علنية الانتقاد وحرية التفكير والنقاش، لا تنحصر فقط في قيمتها السياسية التي تستهدف تأكيد وحدة المسؤولية المشتركة لنشاط وعمل الدولة والأحزاب والتنظيمات السياسية وسائرمنظمات المجتمع المدني ، بل إنها تتسع لتشمل الحقوق والحريات الفكرية والاجتماعية والشخصية للإنسان وفي مقدمتها حقه في الحياة.. وحقه في التفكير. ولئن كانت الديمقراطية والعلنية بهذه الأبعاد الواسعة تمثلُ حقاً اجتماعياً وإنسانياً لا يجوز الاعتداء عليه.. فإنه من الضروري أيضاً عند ممارسة هذا الحق، عدم الاعتداء على غيره من الحقوق الثابتة والمشروعة للآخرين.
وبهذا الصدد، يتوجب التأكيد على أهمية مكافحة النزعات والمفاهيم التي تنظر إلى علنية الانتقاد في الصحافة وكأنها مهنة مجردة، يتفرغ بموجبها قسم من الناس لتقديم الانتقادات على قسم آخر من الناس الذين يعملون ويتعرضون بطبيعة الحال للخطأ .. بحكم أن من لا يعمل هو وحده الذي لا يخطئ.
ونتيجة لهذا المنطق الذي يحاول عبثاً تقسيم الناس إلى قسم يعمل وقسم متفرغ للنقد ، تنشأ خطورة انفصال ممارسة الانتقاد عن تفاصيل الحياة العملية، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى بروز نمط مشوه من الانتقادات العلنية التي لا تعدو أن تكون في أحسن حالاتها، سوى محاولة لإبراز هامش بسيط جداً من حقيقة ضائعة للغاية، إن لم تكن محاولة للصراخ والعويل والتهريج الممزوج بالحرص الكاذب على المصلحة العامة، وما يرافق ذلك من تغليف ممارسة النقد بأساليب إنشائية وعمومية وتهريجية لا تساعد على بلوغ نصف الحقيقة في أفضل الظروف.. حيث تتعرض قضية الديمقراطية والعلنية من جراء ذلك لخطر التسطيح والتجويف.
وبالنظر إلى أهمية الدور الذي تلعبه الصحافة في مجال ممارسة العلنية وتدعيمها وترصينها، وما يترتب على ذلك من ضرورة اهتمام مختلف هيئات الدولة المنتخبة والأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني ، بما تنشره الصحف ووسائل الإعلام من موضوعات انتقادية، فإنه من الضرورة بمكان التشديد على أهمية عدم التهاون إزاء الذين يسلبون حقوق المجتمع في العلنية والانتقاد.. كما ينبغي التشديد أيضاً على وجوب عدم استخدام هذا الحق للاعتداء على الحقوق الاجتماعية الأخرى عبر تشويه الحقائق ونشر الأكاذيب وممارسة التهريج الإعلامي. هكذا تتجلى الأهمية الحاسمة لممارسة قضية الديمقراطية في ترشيد النشاط الواعي والهادف، والدفع به نحو آفاقه الإنسانية الرحبة. ومن أجل ذلك.. ينهض كل الغيورين على القضايا التي يتوقف عليها مصير الحقوق الإنسانية، بواجباتهم النبيلة دفاعاً عن الديمقراطية من أخطار المتربصين بها والحاقدين عليها.. وأخطار الأدعياء الذين يتلفظون بها عند الحاجة.. ويلحقون بها أفدح التشوهات في كل الأوقات.
والثابت أن التعددية بالإضافة إلى كونها واحدة من ضمانات الممارسة الديمقراطية تعتبر أيضاً واحدة من الآليات الفعالة للممارسة الديمقراطية اللازمة لتسيير المجتمع وإشراك الجماهير او الأحزاب والتنظيمات السياسية في عملية تداول السلطة والقيادة، وانتخاب المؤسسات التمثيلية والاجتماعية ورسم السياسات واتخاذ القرارات المتعلقة بحياة الناس ومصائر البلاد بالوسائل المعبرة عن تعدد الآراء والمصالح وتنوع الإرادات الانتخابية، على أساس احترام آراء وإرادة الأغلبية في نهاية المطاف. ولئن كان التعدد يقف على النقيض من الانفراد.. فإن الانفراد كان وسيكون على الدوام صنواً للاستبداد والاقصاء والادعاء باحتكار معرفة الحقيقة.. ولذلك فإن السمة الجوهرية للتعددية تتمثل في كونها تتيح مناخاً مرناً وملائماً لنهوض الدور المحوري للممارسة الديمقراطية التي لا تقتصر على تنظيم وتفعيل العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع.. بل وتغطي كامل النشاط السياسي والاجتماعي لأفراد المجتمع وتصون مصالحهم ومتطلباتهم واهتماماتهم المتنوعة. والثابت أن التعددية ارتبطت تاريخياً بمجموعة من القيم والحقوق الإنسانية التي تبلورت في مجرى الممارسة الديمقراطية في العصر الحديث، وبضمنها حرية الانتخاب وحرية التعبير.. وحرية التفكير وحرية المناقشة. وقد أثبتت تجارب الحياة، أنه يستحيل نمو دور ومكانة النخب السياسية الطليعية والمنظمة في شكل أحزاب وتنظيمات سياسية ونقابات مهنية، بدون ازدهار الممارسة الديمقراطية القائمة على التعدد والتنوع . ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ إذا ارتقت الممارسة الديمقراطية داخل النخب السياسية للمجتمع إلى المستوى الذي يبعد المناقشات والانتقادات عن السقوط في مستنقع الإرهاب الفكري وتكميم الأفواه، وتقييد التفكير وإصدار الاتهامات والإدانات والتكفير والتهديد والوعيد والمطالبة بالنبذ وإقامة الحد ضد كل من يفكر بطريقة جديدة ويحمل رأياً مغايراً ومخالفاً. وبالنظر إلى التفاعل المتبادل بين الحياة الداخلية للأحزاب والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحياة الداخلية للمنظومة السياسية والمجتمع عموماً، فإن إصلاح آليات تداول الهيئات القيادية المنتخبة يصبح معياراً دقيقاً لمستوى الممارسة الديمقراطية.. وبالتالي مستوى فعالية النظام السياسي.. وتزخر تجارب التاريخ بالعديد من الأمثلة على أن عدم احترام الممارسة الديمقراطية في آليات تداول الهيئات القيادية المنتخبة، يعرض الطليعة السياسية دائما لمخاطر الانقسامات والتكتلات، وينعكس سلباً على النظام السياسي. ويصل الوضع إلى درجة الخطورة حين يتم استلاب حقوق القواعد الحزبية في الوحدات الأساسية ، في اختيار من يقودها بإرادتها الحرة والواعية.. وتكون النتيجة في نهاية المطاف، بروز علاقة مقلوبة في آليات تداول القيادة قوامها "إعادة إنتاج" الهيئات القيادية من الأعلى إلى الأدنى، بدلاً من "انتخاب" الهيئات القيادية من الأدنى إلى الأعلى!. ومعلوم أن غياب المعايير الديمقراطية في آليات تداول القيادة والسلطة في الأحزاب والتنظيمات السياسية، هو أحد الأسباب الرئيسية للانقسامات والانقلابات والمؤامرات التي ترهق الحياة.. بما تجره عليها من آلام وكوارث، وهو الأمر الذي لا يمكن تجنبه بدون التخلص من نزعات الإدعاء باحتكار تمثيل الصدق والصواب والحقيقة . ولا نبالغ حين نشير إلى أن النخب السياسية في الدولة والمجتمع، لا تكتسب شرعية وجودها في هذا الموقع الطليعي أو ذاك بمجرد تبنيها للنهج الديمقراطي التعددي، فتصبح تبعاً لذلك صاحبة حق تاريخي في تمثيل الجماهير ومعرفة مصالحها.. بل إنها تكتسب تلك الشرعية من قدرة خطابها السياسي الملموس على التعبير عن مصالح الجماهير في ضوء متغيرات الحياة.. فالطليعة ليست صفوة أو نخبة متميزة تنفرد باكتشاف الحقيقة وتعرف مصالح الجماهير أكثر منها . وفي الاتجاه نفسه، فإن الطليعة السياسية لا تتمثل فقط بالهيئات القيادية التي تقود النخب الحاكمة والمعارضة، ومن ثم تقود الجماهير عموماً، بقدر ما تتمثل الطليعة في مجموع الناس الذين لا يجب تقسيمهم في المجال السياسي المجتمع الى رؤساء ومرؤوسين.. بل هم شركاء في المصير والاختيار. . وبمقدار مشاركة الناس في مناقشة القضايا التي تتعلق بمصائرهم ومصائر مجتمعهم بحرية كاملة وبعقل مفتوح في مرحلة البحث والمناقشة التي يجب أن تسبق تحولها إلى سياسات وقرارات ملزمة لهم.. بمقدار انضباطهم الواعي عند تحمل مسؤولية تنفيذها والعمل في أوساط الجماهير بهدف توسيع نطاق عملية تنفيذ تلك السياسات والقرارات. وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين تعدد الآراء القائم على وحدة المصالح والمصير والإرادة السياسية ، وبين تعدد المنابر والتيارات الفكرية والسياسية داخل النخب السياسية في السلطة والمعارضة على حدٍ سواء ، لكن ذلك لا ينفي أهمية وضرورة أن تكون السياسات والقرارات التي تتخذها هذه النخب السياسية، صادرة بعد مناقشات حرة وصريحة.. وعبر الاختلاف في الآراء ووجهات النظر في مرحلة بحث القضايا والمسائل كشرط لتحقيق وحدة الأعمال في مرحلة تنفيذ القرارات. وبالقدر ذاته فإن ذلك لا ينفي أيضاً حقيقة أن تنوع الآراء ووجهات النظر داخل النخب السياسية المنظمة لا يضر بوحدتها وبتطورها.. بل على العكس من ذلك فإن هذا التنوع يغدو شرطاً ضرورياً لإنضاج الفكر السياسي ورفع مستوى الوعي الاجتماعي ، بالاتجاه الذي يضمن لها على الدوام مواكبة المتغيرات والعمليات الموضوعية التي تحدث في الحياة وعدم التأخر عنها. |