محمد علي عناش - يجمع علماء السياسة أن الشعوب عندما تفتقد للمعارضة الوطنية الشرعية فإنه يتاح في المقابل للأنظمة الحاكمة كل إمكانات البقاء أكثر في السلطة، ويتاح لعوامل الفساد والفوضى أن تترسخ وتتجذر بسبب أن المعارضة لا تنطلق من مشروع وطني مستقبلي ولا تعبر عن طموحات الجماهير، وإنما تعبر عن طموحات وأهداف حزبية، فتتحول الى مجرد خطاب سياسي استفزازي وثوري، فيه ما فيه من المكايدة والمناكفة والمتاجرة بقضايا الشعوب والاوطان.. ومثل هذا الخطاب السياسي يزيف وعي الجماهير بالقضايا الرئيسية ويكون له أثر سيئ في نفوسهم، قد يجعلهم يحتجون ويعبرون عن شرفضهم لواقعهم وظروفهم بشكل غير موضوعي أو فوضوي وغير حضاري.. المعارضة الوطنية هي مرآة حقيقية للحاكم، من خلالها يرى ويكتشف عيوبه ومساوئه، فتجبره على التغيير والإصلاح، والنزول عند مطالبها التي تعبر عن مصلحة الوطن وتقدمه.. كما أنها في نفس الوقت هي من تضبط احتجاجات الجماهير وتعقلنها عندما تنحرف عن المسار السليم والأفق الوطني والموضوعي.
المعارضة العربية تمثل هذا النمط من المعارضة التي لا تجسد الصوت الوطني التحديثي ولا تكون مرآة صادقة للحاكم، وإنما تقف في مربع المواجهة السياسية مع الحاكم، وتتعاطى مع القضايا السياسية كقضية الحرية والديمقراطية والانتخابات وكأنها في فرنسا أو في أية دولة ديمقراطية أوروبية، وليس في مجتمع عربي تقوم أركانه الرئيسية على القبيلة وتتشابك فيه العلاقات والروابط على أسس عشائرية وعائلية وأيضاً طائفية ومذهبية، كنتوءات اجتماعية طفت بقوة الى السطح مؤخراً، عندما تصنمت وترهلت الدولة الوطنية.. المعارضة العربية بهذه الطريقة ابتعدت كثيراً عن الجماهير وتعالت عليها ومارست بناء الوهم وزورت الحقيقة الوطنية والاجتماعية تاركة هذه الجماهير تشكلها مافيا الدين والقبيلة ومافيا المال والمخدرات.. وهناك أنظمة حاكمة وضعت نفسها وجندت إمكانات بلدانها في مواجهة هذا الوهم المسمى معارضة، وايضاً العدو الخارجي المتربص بخيرات وتاريخ وثقافة هذه الشعوب.
في غفلة من هذه المعارك الدنكشوتية التي يخوضها الحاكم والمعارضة، تدفق فجأة طوفان جارف يسمى ربيعاً عربياً عنوانه «ارحل»..
ارحل.. لا يخاطب المستقبل ولا يحمل سمات ثورات التغيير العظمى بقدر ما يعبر عن حالة احتقان اجتماعي وسياسي، تفجر فجأة بشكل غير واعٍ في حالة من غياب السلطة والمعارضة معاً، غير أن المعارضة وجدتها فرصة سانحة لا لمحاصرة الحاكم بمشروع حضاري مستقبلي وتشارك في صنع حدث تاريخي عظيم، وإنما لتثأر من الحاكم، فنزلت الى الشوارع والساحات لتقول هي ايضاً ارحل لا سواها وعضت عليها بالنواجذ.
عجت الساحات بالمتناقضات وفسيفساء الوعي المتشظي، صارت أماكن مناسبة لتفريغ مخزون نفسي وثوري هائل لدى كل الشرائح والطبقات، من سياسيين ومثقفين ومحبطين وعاطلين وكل من له موقف مع رجل شرطة أو مرور أو قضاء، الكل يريد أن يصفي حسابات معينة أخذت شكل الثورة عنوانها وشعارها الأوحد «ارحل» ..رأينا في الساحات د/ رفعت السعيد وعلى مقربة منه في ميدان التحرير عبود الزمر يهتفون بشكل موحد ارحل، كما رأينا د/ياسين سعيد نعمان والى جانبه صادق الأحمر وعلي محسن وعسكر زعيل والزنداني، يهتفون بنفس ثوري واحد ارحل، بل واستعانوا بالدبابات والمصفحات في هتافات الرحيل لكن بدانات وصواريخ..
هذه الساحات سرعان ما وجدت لها ممولين وداعمين بسخاء كحاكم قطر من تسيطر عليه رغبة ملحة في أن يتحول من حاكم إمارة الى امبراطور دولة راديكالية عظمى في الشرق الاوسط، وكحميد الأحمر الذي يبلغ مركزه المالي العالمي 84 مليار دولار- حسب تقرير الفاينينشال تايمز الامريكية، راكم هذا المبلغ من احتكاره لعملية تصدير النفط اليمني طوال عشرين سنة، كما يعتبر من كبار متهربي الضرائب حتى لضريبة المبيعات التي قد سبق للمواطن أن دفعها فوق كل كرت سبأ فون، قدرت هذه الضريبة التي لم يقم بتسديدها لخزينة الدولة بأربعة مليارات ريال، ومع ذلك ليس له أية مساهمة تذكر في مجال التنمية والتأهيل الاجتماعي على الأقل لأبناء قبيلة حاشد.. ومثل هذا الامبراطور المالي لا ندري لماذا يثور؟ وكيف يتحول الى زعيم ثوري لدى شباب الثورة..؟! هذه واحدة من المفارقات والمتناقضات الغريبة التي تعج بها الثورات العربية التي اقتربت أن تكون ظاهرة أكثر منها ثورات تغيير.
عملياً رحل «مبارك» منذ عشرة أشهر .. فهل أزهر ربيع الحرية والديمقراطية في مصر؟ المؤشرات والمعطيات تقول لا، ويقولها ايضاً رئيس حكومة تصريف الاعمال عصام شرف الذي قد سبق له تقديم استقالته أكثر من مرة بسبب تدهور الاوضاع وانتعاش الظاهرة الطائفية وأحداثها الدامية، وها هو مؤخراً يعلنها صراحة أنه متخوف من وأد الديمقراطية في مصر.. تُرى ما مصدر تخوفه؟ ربما أن تجربة جبهة الإنقاذ الاسلامية في انتخابات الجزائر سنة 90م ماثلة أمامه في مصر، بينما شباب الثورة مايزالون مبهورين بساحة ميدان التحرير بشكل يومي ينزلون الى الساحة مشغولين ببقايا نظام مبارك، لكن لا يبدو أن هؤلاء الشباب بالملايين كما كانوا أيام الثورة وإنما بضعة آلاف.
من بين كل المحللين الذين تناولوا شأن الربيع العربي بتفاؤل، تفرد المفكر عزمي بشارة ومن على قناة «الجزيرة» في إضفاء طابع قيمي وأخلاقي على ثورات الشعوب العربية، حتى صار الكبير والصغير كلٌّ يتكلم عن ثورته بهذا المنحى رغم ما يرتكب باسم الثورة من أعمال شنيعة تسقط عنها البعد الاخلاقي.. عزمي بشارة عندما تم تصفية معمر القذافي بعد أسره جريحاً لم يعلق أو يسجل موقفاً، وإنما اختفى واختفت منظومته الاخلاقية التي ظل يصرفها يميناً وشمالاً.
تصفية القذافي بعد أسره حياً والتمثيل بجثته جريمة جنائية وفقاً لوثيقة حقوق الانسان العالمية، ومعاهدة جنيف الدولية، وبأيدي الثوار الليبيين تحول القذافي من طاغية الى شهيد شاء الثوار أم أبوا وفقاً لكل المقاييس .. وبقدر ماهي جريمة جنائية هي جريمة أخلاقية من خلالها صرنا نرى بوضوح المرحلة الليبية القادمة التي لن تكون آمنة ومستقرة وديمقراطية، وإنما صراعات وحرب أهلية بين العشائر والطوائف وتصفية حسابات انتقامية على مستوى الافراد والجماعات داخل ليبيا.. نحن نتمنى أن لا يحصل ذلك غير ان المؤشرات تؤكد ذلك وقد اعترف بها محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي بالمجلس الانتقالي الليبي.. قانوناً وأخلاقاً قطر وفرنسا يتحملان كامل المسؤولية عما سيحصل من اضطرابات وصراعات في ليبيا، ومن حق أي ليبي حينها أن يقاضي الدولتين كونهما ساهمتا في زعزعة الاستقرار وأغرقتا البلاد بمختلف أنواع الاسلحة.
نحن لسنا في حالة دفاع عن الأنظمة العربية وإنما نقرأ المشهد العربي بمصداقية ورؤى معرفية ونرصد الاخطاء والعيوب التي رافقت الأحداث الثورية باعتبارها حقائق، ومن صميم واجبنا الاخلاقي أن نبينها ونوضحها ونستشف من خلالها المآلات المستقبلية لهذه البلدان، خاصة في ظل إعلام عربي مغرض يستهدف طمس الحقيقة وتزوير الواقع، ويأتي على رأس هذا الاعلام الهابط «قناة الجزيرة».
الملف اليمني يعتبر الأكثر تعقيداً وخطورة على جميع المستويات، فهناك جيش منشق مدعوم بمليشيات قبلية ودينية، وهناك تنظيم القاعدة الذي يعتبر المركز الرئيسي للتنظيم في المنطقة العربية، وهناك محافظات خارج سيطرة الدولة، وهناك حراك انفصالي في الجنوب..
هذه القنابل الموقوتة داخل الملف اليمني غير مطروحة للحوار الوطني المسؤول ولا تشملها مبادرات وحلول الأزمة الراهنة التي تم حصرها في النظام وشباب الساحات.. نعلم جيداً أن المسألة ليست كذلك، فالشباب ليسوا مصدر القرار ولا يمثلون قوة في توجيه الاحداث، فالقوة ومصدر القرار اصبح بيد قوى انقلابية «عسكرية، قبلية، دينية، حزبية» هذه القوى ترفض كل المبادرات لتفرض أمراً واقعاً إما التسليم أو الانقلاب المسلح والحرب الاهلية.. حادثة النهدين الاجرامية تعتبر بروفة انقلابية، مرتكبوها ليسوا من رجال الفضاء حتى نقيدها ضد مجهول، وإنما من رجال اليمن نصبوا أنفسهم زوراً وبهتاناً حماة للثورة، وليس من مصلحة الوطن والمشروع الديمقراطي في اليمن وكل من يهمه أمن واستقرار المجتمع اليمني، أن يتم الفصل بينها وبين ما يسمى ثورة الشباب، فيجب على الجميع في الداخل والخارج الاقتراب أكثر من الواقع اليمني كي يقرأ المشهد على حقيقته لاستخلاص الحلول المناسبة.. نحن لا نبرئ النظام في اليمن من وصول وضع البلاد الى ما هو عليه، ولا ندافع عنه كي نثبته في السلطة، وإنما نبحث عن مخرج مناسب للأزمة وآلية ديمقراطية للانتقال السلمي للسلطة، لأننا نقرأ الواقع بمنهجية علمية ومنطقية لا ثورية أو مثالية، هذا الواقع الذي يفرض علينا نمطاً معيناً في التفكير، لا يجب أن يتجاوز مبدأ التوافق وأولوية الاصلاحات، فعندما تخطت المعارضة هذا النمط تداعت الاحداث الى ما هي عليه من تدمير وتخريب وأعمال مسلحة منذ تسعة أشهر، حتى أصبح المستهدف ليس فقط نظام علي عبدالله صالح بل النظام العام للبلد برمته.
المعارضة اليمنية وقواها التقليدية والمتطرفة ليست بريئة أو صفحتها بيضاء كي نلبسها ثوب الطهر والقداسة ولن يكون المستقبل على ايديهم أفضل حالاً وأكثر أمناً.. فما أظهروه من سوء وانتهازية يعتبر قدراً كافياً يجعلنا نقول لهم لستم أهلاً للثقة ولستم جديرين بإدارة وحكم هذا الوطن وهذا الشعب.. الوطن الذي أصبح على أيديكم في حجم ساحة والشعب في حجم شلة.. وتعساً لوطن وشعب سيدار ويحكم بوعي شلة.
تكثيف:
< الوعي بالديمقراطية من خلال الوعي بفكرة الدولة كهوية وطنية جامعة، ومؤسسة أخلاقية ومؤسسة إنتاجية تقوم على منهج العقل والعلم، سينتج مجتمعاً مدنياً وديمقراطياً ومزدهراً، بينما الوعي بالديمقراطية دون الدولة بناء للوهم والفوضى.
< المتغير الذي حدث خلال تسعة أشهر داخل الساحات وخارجها:
- داخل الساحات تم تدمير القيمة الاخلاقية لمعنى الدولة والأمن والاستقرار في وعي وضمير شباب الحسم الثوري..
- خارج الساحات عايش الناس الحدث بقسوته ومرارته فأدركوا المشكلة بواقعية وأدركوا القيمة الأخلاقية للدولة والأمن والاستقرار.
< استهداف بنية الدولة بالمزيد من التدمير والتخريب سيستنسخ لدينا في اليمن التجربتين المأساويتين معاً (الأفغنة والصوملة).
|