أحمد الحبيشي - في القرن التاسع عشر تناول كارل ماركس بالنقد بعض الأعمال الهجائية التي كتبتها الارستقراطية الفرنسية والإنكليزية في ذم انعكاسات النظام الرأسمالي على المجتمع البشري مدفوعة إلى ذلك بحكم وضعيتها التاريخية، مشيرا الى ان ذلك الانتقاد المرير واللاذع كان يصيب النخب الرأسمالية أحيانا في صميم قلبها، لكن تلك الاعمال الهجائية كانت عاجزة بشكل مطلق عن فهم سير التاريخ الحديث ، الأمر الذي كان يلبسها دوما ثوبا من السخافة والسخرية!! ما من شك في أن ماركس كان ينتقد أعمالا أدبية انتقادية للنظام الرأسمالي المتوحش اتخذت طابعا هجائيا، بمعنى أنه كان يمارس نوعا من (نقد النقد) يساعدنا على فهم بعض الاعمال الروائية العالمية ، وهو ما وجدت نفسي استحضره عندما قمت خلال الشهرين الماضيين باعادة قراءة ثلاثة أعمال أدبية ايطالية وفرنسية وبرازيلية سبق لي ان قرأتها قبل أكثر من ثلاثين عاما عندما كنت طالبا في جامعة بغداد وهي رواية (مدينة الشمس) للكاتب والمفكر الايطالي توماس كامبانلا، ورواية(جزيرة طيور البنجوين) للكاتب الفرنسي أناتولي فرانس، ورواية (كونكاس بوربا) للكاتب البرازيلي الخلاسي دواسس.
مدينة الشمس
مدينة الشمس، كانت الحل الذي بقى معلقا في مدار الحلم الكبير الذي عاش من أجله الكاتب والمفكر الإيطالي توماس كامبانلا في القرن السابع عشر. وفي هذه المدينة، وعلى خلاف العقد الاجتماعي الذي وضعه جون لوك بصدد تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بنى كامبانلا مجتمعا لا يستعمل فيه السكان النقود، ويعملون بضعة ساعات للعمل الاجتماعي، وبضعة ساعات أخرى لإشباع وتطوير حاجاتهم وقابلياتهم الروحية. أما ثمار عملهم فإنها تذهب إلى المخازن الاجتماعية التي يتسلمون منها كل ما هو ضروري لهم.
ولم تفت كامبانلا أهمية إدارة المجتمع لضمان قيادته وتنظيمه، حيث وضع على رأس هذه المدينة حاكما يتمتع بمعارف واسعة في مختلف العلوم. ولئن جاء هذا التصور على نحو ساذج وعفوي، إلا أنه كان يعكس الإحساس بأهمية القيادة الواعية للعمليات الاجتماعية تحت تأثير الشعور بالإحباط، والتشاؤم والقلق الذي يحيط بحياة الناس في النظام الرأسمالي المتوحش، ويسحقهم في طاحونة المزاحمة والمضاربة وفوضى الإنتاج والبطالة وغيرها من الويلات الاقتصادية والاجتماعية.
يقينا ان الروائي والمفكر الإيطالي كامبانلا حاول ممارسة الحلم لكي ينتقد ذلك النظام، ويؤسس في عالمه الطوباوي الذهني التجريدي نظاما اجتماعيا بدون نقود، وبدون ملكية خاصة، وبدون آلام.. بيد أن هذه المحاولة ظلت قي نطاق الحلم ، ولم تتمكن من استشراف آفاق العالم الواقعي واكتشاف مفاعيله وتفاصيله والتعرف على وجهة تطوره..!
جزيرة طيور البنجوين
.. ومرة أخرى، يرتعش الحلم تحت ضربات بؤس الواقع، ويظهر الكاتب الفرنسي أناتولي فرانس ليقدم رؤيا أخرى للخلاص، ويحاول استخدام النقد المتساءل، جاهدا في توظيف الروح المانوية المستخلصة من الفكر الديني بحثا عن أجوبة لأسئلته المرهقة. ففي كتاب "جزيرة طيور البنجوين" يصور أناتولي فرانس وبطريقة ساخرة نشأة المدينة والأيديولوجيا والعواطف والأخلاق في جزيرة هادئة تعيش عليها طيور البنجوين الجميلة، حيث توجه إليها أحد القساوسة للتبشير بالمسيحية،ويدعى "مائيل"،الذي قام –بوحي من الرب – بتعميد أسراب من الطيور وتحويلها إلى جماعات إنسانية. ومنذ ذلك الحين انسلخت هذه الطيور عن غرائزها الأليفة، وانتقلت إلى المدنيات البشرية وما بها من خير وشر.
ومع مرور الزمن، تدرك القس "مائيل" الشيخوخة، ويقرر الذهاب مرة أخرى إلى الجزيرة التي أدى فيها رسالته، وذلك للتعرف على ثمار مهمته المقدسة قبل أن يغادر الحياة .. وفي هذه المرة اصطحب " مائيل" أحد رجال الدين الشباب ويدعى " بللوك" حيث شاهدا سوية في الجزيرة جماعات من البشر، وقد ناءت ظهورهم بأحجار كبيرة يشتغلون بنقلها من مكان لآخر، فيما تتردد في جوانب أخرى من الجزيرة أصوات بكاء وصرخات استغاثة وشكاوى من قبل جماعات أخرى.
ويعلق القس الشيخ على ما شاهده بالقول إلى تلميذه الشاب " بللوك " :
((لقد زهدت نفوس سكان هذه الجزيرة في الحكمة التي كانت دستور معاملاتهم في الفصول التي يحلو فيها الغرام والعشق.. أما الآن فهم يتشاجرون طوال الوقت، ويتعاركون في الصيف والشتاء، فسقطت عنهم تلك الصبية الوادعة التي كانت تغلف حياة طيور البنجوين على ضفاف الأنهار)) .
ويواصل أناتولي فرانس على لسان القس الشيخ "مائيل" قوله :
(( أنظر يا بني صوب الشمال، ها نحن نرى جماعة من الناس تتقاتل بالعصي والفؤوس والمعاول التي كان ينبغي أن يفلحوا بها الأرض)) .
وعلى الفور يجيب القس الشاب " بللوك ":
((إنهم يفعلون ذلك خوفا من المستقبل.. فالإنسان لا يتصور الحياة ممكنة بغير أن يستحل لنفسه امتلاك أي شيء، وهؤلاء الناس الذين يتقاتلون إنما يتبارون في امتلاك الأراضي، وكل فريق منهم يتهم الآخر بالسرقة والاغتصاب )) .
وفجأة تتعالى في الأفق صرخات قوية يلتفت من جراءها القس العجوز وهو يلفظ أنفاسا حرى ثم يقول مخاطبا تلميذه الشاب :
(( ألا ترى يا بني هذا الرجل الغاضب الذي يقضم بأسنانه أنف غريمه المطروح على الأرض. وذلك المتهور الذي يهشم رأس امرأة بحجر كبير لينتزع منها طاسة الحليب التي تحملها)) .
ويأتي الرد من بللوك :
(( إني أراهم يا أبتاه..إنهم يشرعون القانون،ويؤسسون الملكية ويركزون أعمدة المدنية ويوطدون أسس نظام جديد )) .
وقبل أن يهم بللوك بمواصلة كلامه، يلتفت القسان إلى مشهد درامي حي، يبدو فيه عملاق ناصع البشرة، حاملا على كتفه جذع شجرة، ويقترب من رجل هزيل الجسم كان يسقي أرضا مزروعة له تحت شواظ الشمس، ويطلب تسليم المزرعة والتنازل عنها، ثم يهوى بالجذع على رأس الرجل الهزيل ويسقطه ميتا مضرجا بدمه وعرقه.
وإزاء هذا المشهد المروع بكى القس العجوز "مائيل" وصلى للرب داعيا بالانتقام للقتيل، مما أصابه من ظلم على يد قاتله غير أن القس الشاب " بللوك " أنبرى قائلا:
(( حذار يا أبتاه، فإن ما تدعوه ظلما إن هو في الواقع إلا الثورات والحروب والفتوحات، وهي الأسس المقدسة للممالك، وأنت بتأنيبك العملاق الأبيض تهاجم الملكية في صميم أصولها ومبادئها. إن فلاحة الأرض شيء يا أبي، وامتلاك الأرض شيء آخر.. ولا ينبغي الخلط بينهما. فالقوة يا أبي الأقدس هي الأصل الوحيد والمجيد للملكية، وهي لذلك مقدسة ولا تضمحل إلا أمام قوة أكبر.. فبارك يا أبتاه للسلطة الشرعية التي أسسها هذا العملاق على هذه الأرض، لأن كل سلطة من الله..)) !!
ظل القس العجوز "مائيل" صامتا، مضطرب الذهن إزاء مذهب تلميذه الشاب "بللوك".. وانسحب إلى شيخوخته محتفظا بوعيه الديني الذي حاصرته الفجيعة، مفسحا المجال لتلميذه الشاب الذي كان يوظف علوم الدين التي تعلمها عن أستاذه لكي يصوغ بها القانون المدني والنظام الحقوقي لمجتمع جزيرة "البنجوين".
كونكاس بوربا
ومع مرور الزمن تنمو قيم النظام الرأسمالي، غير أنها تصاب بالعقم والتشوه قبل أن تدركها الشيخوخة وتعجز عن التواصل مع المضمون الإنساني الذي ينبغي أن يسود حضارة هذا العصر.
فهذا هو الكاتب البرازيلي الخلاسي دواسس يصرخ في وجه القيم والأخلاق البرجوازية التي تشوهت وأصبحت أشبه بهيكل براق لا روح فيه ولا حياة.
لقد انبهر الخلاسي دواسس في مطلع شبابه بالأفكار التي تمجد الملكية وتدعو إلى تقديسها أينما كانت وكيفما كانت.. ولكن..
ها هو دواسس يعيش فجيعته في موضع قصي من الكرة الأرضية، ويقترب من محنة الإنسان في عصره، حيث يقدم لنا في روايته الخالدة (كونكاس بوربا) صورة مأساوية لعقم القيم التي تتزيا بلبوس الحضارة والتظاهر بالمدنية ، وتغتالها في الصميم.
وتتلخص فجيعة هذا الكاتب البرازيلي من خلال مشهد تتمحور حوله وقائع وأحداث الرواية، حيث يمر أحد الناشطين الحقوقيين الذين يدافعون عن أسس الملكية والحرية ، وينشرون قيمها وتعاليمها، أمام كوخ يحترق، وقد جلست على مقربة منه امرأة عجوز تضم في أحضانها طفليها مع قليل من المتاع..
يسألها الحقوقي البرجوازي فيما إذا كان الكوخ الذي يحترق كوخها أم لا؟
وعندما حركت المرأة وجهها الشاحب مشيرة بالإيجاب، أستأذنها ذلك الحقوقي الشاب لكي تسمح له بإشعال سيجارته من لهب أخشاب الكوخ المتهاوية، تعبيرا عن احترامه لملكيتها..!!!!!!
وماذا بعد؟
من الحق أن قراءة التاريخ ضرورية في سياق التطور الموضوعي للإبداع الفكري والأدبي، ولكن ذلك لا يكتمل بدون التسلح بالنظرة الانتقادية.وعندما تصبح قراءة التاريخ الأدبي ضربا من الممارسة العاطفية ونوعا من التشيع الوجداني المتسم بالنزعة الذاتية،فإننا نشوه قيمه وجمال ذلك الموروث حين ننتزعه من زمنه الذي تشكل فيه بوسائل متواضعة، ثم ننقله إلى زمن أبعد مسافة عنه، وأكثر تقدما منه.
ولأن الروح النقدية لا تتعمق بدون الارتباط الوثيق بتفاعلات زمنها، وبدون الانتماء إلى عصرها، فإن تجاهل المنجزات الإبداعية والخبرات الكفاحية في مختلف مناحي نشاط الإنسان المادي والمعرفي في عصرنا الراهن لا يمكن أن يخلق ممارسة نقدية هادفة، وحلما واعدا.
وفي هذا الاتجاه، فإنه من الصعب أيضا تصور فاعلية بعض الآراء النظرية التي يتم تداولها بصدد الإبداع والنقد في الفكر والأدب، و تدعو إلى ما يسمى بكشف وتحليل عوالم النفس الإنسانية وتغيير قيم الإنسان من داخله، دون أن تتناول هذه الممارسة الإبداعية الانتقادية الإنسان بوصفه عضوا في جماعة، وكائنا اجتماعيا يعمل ويفكر ويحلم ويتمرد في إطار وعيه ووجوده الاجتماعيين، ويتجه إلى المستقبل بمقدار قدرته على معرفة القوانين الموضوعية التي تحرك واقعه الاجتماعي والسيطرة عليها.
فمن السهل أن يكتشف الإنسان ذاته في لحظة حب أو غضب أو حلم أو تأثر بتجربة إنسانية ما، ولكن اكتشاف الذات لا يصبح فعالا، ولا يكتمل بدون اكتشاف الموضوع بوصفه الطرف الآخر للمعادلة، والذي يتجسد في بيئة الإنسان الاجتماعية والقوانين المحركة لها.
ومن هذا المنطلق، فإن موقفنا من الإرهاصات الانتقادية التي حبلت بها الأزمنة الثورية السابقة، يجب أن يبتعد عن التشيع العاطفي لها،والانسلاخ عن المنجزات والخبرات الإبداعية في هذا العصر، حيث ينبغي ممارسة القراءة النقدية للتاريخ الفكري والأدبي، بما في ذلك تاريخ الأشخاص والجماعات والحركات والظروف التي أحاطت بحياتهم .
|