الإثنين, 21-نوفمبر-2011
الميثاق نت -  محمد علي عناش -
تبيَّن بجلاء من معطيات المشهد الثوري العربي عامةً واليمني خاصةً أن ما يحدث هو في المقام الأول صناعة إعلامية منظمة أكثر منه حراكاً ثورياً جماهيرياً منظماً، قد تم الترتيب لها مبكراً بدقة وخبرة مهنية فائقة عبر مختلف الوسائط والمنابر الاعلامية من مراسلي قنوات فضائية وإذاعية وصحف ودوريات مختلفة، وتجنيد كمٍّ كبير من محترفي الحاسوب لتسويق الاحداث عبر شبكة التواصل الاجتماعي بشكل مضخم ومغاير لا يعبر عن الحقيقة المحضة لما يحدث.
صار هناك ثورة معبراً عنها بمناظر الدماء والأشلاء التي ازدحمت بها معظم المواقع، اكثر من أي شيء آخر، وأمام هذه المناظر الموحشة صار الكثيرون من متصفحي هذه المواقع يتساءلون ماذا يريد هؤلاء الذين يعممون ثورتهم عبر الأشلاء الآدمية دون أن يرسموا صورة واضحة وإيجابية لمشروعهم الثوري؟!
من المؤكد أن الاعلام في المراحل الاولى للأحداث لعب دوراً خطيراً في التأثير على قناعات ومواقف المنظمات والهيئات والنخب في الداخل والخارج، غير أن هذا الاعلام الذي استمرأ تجاوز الحقيقة والحيادية وأخلاق المهنة، سرعان ما تعرى أمام الآخرين وتكشف دوره المحرض والمتجرد من الحقيقة والقيمية، خاصة وقد تداعت الوقائع في الميدان على العكس تماماً مما يروج له ويدعيه، وبالذات حول قضايا رئيسية وحساسة كقضية القاعدة، وحادثة النهدين، ومواجهات الحصبة وأرحب، وبقدر ما حاول هذا الاعلام أن يلمع من الجنرال علي محسن الأحمر وحميد الأحمر والكثير من المشائخ ورجال الدين المشهود لهم بالتطرف كقادة للثورة وحماة للشباب، بقدر ما تساءل واستهجن الكثير من المفكرين والباحثين الملتزمين بالموضوعية والعقلانية وخدمة الحقيقة، عن علاقة هؤلاء بثورة التغيير والحرية والتقدم الاجتماعي؟
وإلى الآن لم يجب أحد إجابة منطقية توضح هذه العلاقة أو تحد من طموحات هؤلاء، لا شباب الثورة ولا الاعلاميون وقادة العمل السياسي والثقافي المرتبطون بساحة التغيير.. ومع ذلك لا يتعاطى هؤلاء مع ما يطرحه إعلام الطرف الآخر «رسمي، حزبي، مستقل» بشأن الثورة وأصنامها وعيوبها وانحرافاتها، بروح ديمقراطية وحس حضاري ومن منطلق خدمة الحقيقة والايمان بحق الآخرين في التعبير عن آرائهم ومواقفهم وحقهم في الاختلاف والمغايرة، ما دام ذلك في إطار من الاحترام والاسس الاخلاقية لحرية التعبير، ويبقى الحوار البناء والمسؤول هو سمة تحضرنا والبوصلة الجادة للبحث عن الحقيقة أينما كانت.
لذا عندما افتقد هؤلاء لروح الحوار ونبل الاختلاف والخصومة صاروا ينعتون إعلاميي الطرف الآخر بالمرتزقة والمأجورين وكُتَّاب الأمن القومي، لدرجة التهديد باتخاذ إجراءات صارمة حيالهم بعد الثورة من قبل نقابة الصحفيين.
ُترى عندما كتبت الاعلامية والناشطة الالمانية المشهورة «د/ ساندرا إيفانس» عن ربيع الثورة العربي الذي ينتحر في اليمن، هل سوف يلحقونها بالكُتَّاب المأجورين عندما قالت إن« الثورة في اليمن قدمت رأسها قرباناً للفاسدين وتجار السلاح» وإن الاصلاح والفرقة الأولى مدرع لا يراهنون على المبادرة الخليجية وإنما على تفجير الوضع عسكرياً، وعندما قالت: «لم يبقَ من الربيع اليمني سوى مليشيات اسلامية متطرفة وفصائل قبلية مسلحة»..
أم أنها بالفعل كاتبة محترمة لأنها احترمت الحقيقة وأخلاقيات المهنة، ولم تلجأ الى تزييف الحقائق ومجافاة الواقع، أو خدمة حسابات سياسية معينة.. وفي نفس الوقت لم تقل إن اليمن ليست بحاجة الى ثورة تغيير، بل أكدت على ذلك ومن أقرب الطرق إمكاناً، وهي إجراء منظومة متكاملة من الاصلاحات السياسية والاقتصادية، والجدية في بناء الدولة المدنية وتعزيز حضورها وتغلغلها في جميع الاتجاهات، والقفز على هذه الحقيقة وهذه الامكانية ستقود اليمن الى حروب بينية واسعة لن ينتصر فيها أحد، ولكن نفقد وطناً ويتجرع الشعب الويلات والمآسي بسبب الاطماع والطموحات الهوجاء وبسبب الغباء السياسي.
كما أن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لم يهن قدسية الثورة كما يتصور البعض عندما قال: «لا يوجد ثورة في اليمن وإنما قبيلة تريد أن تصبح دولة» فهل في ذلك مجافاة للحقيقة، أم أنها الحقيقة المرة التي يحاول البعض نفيها وعدم الإقرار بها، ولابأس من ذلك أن تُجيَّر كل الجهود بما فيها جهود النخب والقوى اليسارية لصالح هذه القبيلة التي تريد أن تصبح دولة بمنطق القوة والمال؟!
لذا لا يمكن أن نعول في اليمن على المستقبل الآمن والمزدهر من خلال حدث ثوري يصنعه إعلام غير محايد وغير مسؤول ولا يعبر عن الحقيقة والواقع.. يدرك الجميع ان وضع اليمن مختلف وليس كما يرسمه ويخرجه الاعلام.
في تونس عندما قامت جماعة دينية متطرفة باقتحام قناة «نسمة» والاعتداء على طاقمها خرج الشعب التونسي الى الشوارع وبنفس الزخم الثوري أيام الثورة، للتنديد بهذه الواقعة والانتصار لحرية الرأي والتعبير، وحماية ثورتهم من القوى المتطرفة التي تريد أن تعرقل خطوات نجاح الثورة وتنحرف بها عن مسارها النهضوي.
تُرى ما فعل شباب الثورة في اليمن تجاه ما تعرضت له الناشطات اليمنيات من اعتداء وإهانة من قبل جنود الفرقة ومليشيات جامعة الايمان؟!
وما هو رد فعلهم تجاه الكثير من حالات الانتهاكات والتجاوزات التي تحدث داخل الساحات وبشكل يومي، ولماذا لم ينتصروا للصحفي والسياسي اللامع عبدالكريم الخيواني عندما قام مؤخراً عسكر زعيل بطرده بالقوة من داخل ساحة الاعتصام بجامعة صنعاء..؟! لم يعملوا شيئاً سوى الصمت، والتبرير لمثل هذه الوقائع التي تنسف الثورة وتقتلعها من جذورها وتفرغها من كل شيء جميل وحضاري فيها.
التغاضي عن مثل هذه الاحداث مع استمرار رفع شعار إسقاط النظام أولاً، غباء وإفلاس ثوري لا يعبر عن حالة ثورية ناضجة وإنما عن حالة ثورية مأزومة ومتخبطة تدفع بالوضع في اتجاه التصعيد المسلح، وهو ما تخطط له القوى الانقلابية التي تسعى الى إجهاض وعرقلة كل الحلول التوافقية والمبادرات والتسويات الوطنية لتجاوز هذه الأزمة.
وهو ما يستوجب من كل النخب السياسية والقوى المدنية والثقافية أن يعيدوا قراءة المشهد ويراجعوا مواقفهم ويقتنصوا اللحظة التاريخية لإنقاذ اليمن من مأزقها ويصنعوا حدثاً تاريخياً عظيماً.، لذا فالذين لا ينظرون الى الفروق السياسية والاجتماعية والثقافية بين البلدان ستكون أحكامهم التي يبنونها غير سليمة وتقييماتهم تشوبها الكثير من الأخطاء وعدم الصوابية، فينعكس الأمر في عدم القدرة على تحديد الخيارات السليمة والواقعية، وكذا على مجمل الفعاليات التي يتم محاكاة الآخر بها، لكنها لا تؤدي الى نفس النتيجة والغاية، بل الى نتيجة سلبية ومدمرة، بسبب الواقع المغاير والظروف المختلفة التي تم القفز عليها أو تجاهلها، وهذا ليس تثبيطاً لإرادة التغيير، وإنما لابد لإرادة التغيير أن تكون موضوعية ومتناغمة لا مثالية أو واهمة، وأن تكون واعية وقادرة على تحديد أفضل خيارات التغيير.
فالمنطق العلمي يحتم علينا عندما ندرس ظاهرة ما، أن ندرسها ونتكلم عنها في إطار منظومة متكاملة من العلائق والعوامل المختلفة المرتبطة بها، الامر نفسه عندما نتكلم عن قضية الانتقال نحو الديمقراطية في المجتمعات العربية التي يصفها «الجابري» بأنها تعيش مرحلة ما قبل الرأسمالية، يجب أن نضعها في إطار منظومة من العوائق والامكانات، لا لنصرف النظر عنها وإنما لتحديد أفضل الممكنات، وتفعيل أنسب أدوات التدرج للوصول الى مرحلة التداول السلمي للسلطة، فالثابت أن الديمقراطية في أوروبا في صيغتها الراهنة كانت وليدة ثورة اجتماعية وصناعية، وثورة على الكنيسة والاقطاع، وليست سابقة على هذه الثورات، غير أنه كان قد تم التأصيل لها فكرياً وأخلاقياً في الوعي الاوروبي، عبر مجموعة كبيرة من المفكرين والفلاسفة أمثال جون لوك وجان جاك روسو وديكارت..
لذا عندما تجاهل المثقفون وقادة العمل السياسي مسألة التدرج الديمقراطي والفروق الجوهرية من مجتمع الى مجتمع، وعندما طغى الثأر السياسي على الموضوعية والعقل والحكمة، يسمون ما يجري في اليمن بـ«الثورة» ويصرون على ذلك، حتى وقد أصبحت قوة الثورة ومصدر القرار الثوري ليس بيدهم وإنما بيد شخصين هما القائد العسكري علي محسن الاحمر، ورجل المال حميد الأحمر ومن خلفهما القبيلة وفرق عسكرية راديكالية وحركة اسلامية الى الآن لم تعطِ توصيفاً دقيقاً وواضحاً للدولة المدنية وشكل نظام الحكم، مع أن الكثير من مكونات هذه الحركة قد أعلنوا مبكراً موقفهم الرافض للدولة المدنية باعتبارها أي الدولة المدنية توجهاً ضد الدين وتمكن الناس من أن يحكموا نفسهم بنفسهم، بينما الحكم يجب أن لا يكون إلا لله..
وأكيد أن من يطرحون مثل هذا الطرح يرتبطون بعلاقة مباشرة وغير مباشرة مع تنظيم القاعدة، وقد أثبتت الاحداث في اليمن خلال العشرة أشهر حقيقة هذه العلاقة..
فعن أية ثورة مازال سياسيونا يتكلمون عنها؟ وماذا تبقى من ثورة التغيير وقد نصَّبوا لها زعامة ثورية بقيادة علي محسن الاحمر وحميدالاحمر، وهذان لا يمكن تصنيفهما كقوى ثورية ديمقراطية أو طلائع تغيير.
هؤلاء قوى عشائرية إقطاعية، وتاريخهم حافل بالتعارض والتناقض مع الدولة والنظام والقانون.. قد تقولون انه لم تكن توجد دولة ونظام وقانون، ولكن هؤلاء لم يسبق لهم أن تزعموا ثورة البؤساء ضد الفاسدين وثورة النظام والقانون ضد حالة اللادولة، بل على العكس من ذلك هم مساهمون ومشاركون في تمييع الدولة وإفراغها من جوهرها المؤسسي والنظامي، كانوا دولة داخل دولة وراكموا ثروتهم الخيالية في ظل هذا الوضع ومن هذا الاساس بمنطق النفوذ والعشيرة والاسرة والتهرب الجمركي والضريبي وتجاوز اللوائح والقوانين.
ويكفي أن 85 مليار دولار هي أرصدة شخص يمني اسمه حميد الاحمر راكمها داخل اليمن وفي ظل الامكانات المادية اليمنية المتواضعة، رغم انه ليس من بيوتات المال والاعمال والاستثمار، وإنما لاعتبارات أخرى وكونه شيخاً نافذاً للقبيلة التي تعودت أن تتجاوز الدولة وتكسر النظام والقانون.
كما يعتبر الجنرال علي محسن الاحمر المتهم الرئيسي في إفراغ دولة النظام والقانون من مضمونها المؤسسي، وحد من تغلغلها أفقياً وعمودياً، عبر التحالفات والعلاقات النفعية العشائرية والعسكرية والرسمية، التي كان ينسجها ويفعلها خارج إطار النظام والقانون ودولة المؤسسات.
لذا فالرهان أصبح معقوداً على القوى المدنية الليبرالية لتجاوز هذه المحنة ومواجهة المشروع الانقلابي للقوى التقليدية والمتطرفة، فلابد أن تتخطى إحباطاتها وتشتتها، وأن تتشكل من جديد كقوة اجتماعية وسياسية لبناء الدولة المدنية وحماية المشروع الديمقراطي في اليمن.

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:01 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-23996.htm