عبدالرحمن مراد -
يظن البعض أنّ توقيع الرئيس على المبادرة الخليجية هو العقبة الكؤود التي وقفت دون الخروج من دائرة الأزمة السياسية التي تعصف بالوطن وكادت أن تدمر كل شيء فيه وأنا على خلاف كل أولئك أقول إن توقيع الرئيس هو الباب الذي سنلج منه إلى دوائر الأزمات والصراعات المتكررة التي قد لا يهدأ لها بال إلاّ إذا أتت على كل شيء جميل في هذا الوطن..
الذين يقفزون على العامل التاريخي لهذا الوطن لا أظنهم إلاّ أنهم يقفزون على الحقائق الموضوعية ويتجاوزن لغة التاريخ والواقع وتجلياتهما وهم بذلك لا يبحثون عن الاستقرار والنماء ولكنهم في الحقيقة يتاجرون بمقدرات هذا الوطن ومكوناته الأساسية بل أكاد أقول انهم لايتجاوزون حدود الذات ومنطقها العقيم في الحفاظ على الذات والدفاع عنها وهنا نصل إلى تخوم النرجسية الرعناء التي تعطل كل قدراتها الذهنية في مقابل النسج على منوال الآخر واستسهال عظائم الأمور لايجعلنا نصنع حدثاً تاريخياً ومحورياً ينقل هذا الوطن من دائرة الصراع إلى دائرة الاستقرار والنماء ومن دائرة الدولة التقليدية إلى دائرة الدولة الحديثة ذلك أن ما لا يدركه فرقاء العمل السياسي الوطني أنّ أزمة عشرة أشهر من الزمان قد أدّت إلى تعطيل النظام الاجتماعي وإفراغه من محتواه، وعملت على شل حركة الإبداع والابتكار وتعطيل فاعليتهما ودورهما الاجتماعي والثقافي، وخلقت مناخات صراعية عقيمة المنطق و التفكير، وعطلت النظام العام والقانون الطبيعي، وأيقظت المشاريع الصغيرة من خلال تجزئة الهوية الوطنية والمحلية المشتركة وأفسدت قيم وعلاقات الانتاج وأدواته ودورهما في البناء والنماء الاجتماعي وأسهمت في إحداث الفراغ الوجداني وعززت الشعور بغياب ا لدولة وتعطيل وظائفها المجتمعية والإنسانية بل والسياسية والثقافية..
هذا الركام لا يمكننا إصلاحه أو ترميم ما تصدع منه في زمن قياسي ولكنه قد يحتاج عقوداً من الزمن، وتبعاً له فإن الدولة المدنية الحديثة التي ننشدها قد لا نصل إليها إلاّ بعد أن تنقضي تلك العقود في الإصلاح والترميم.
الذين يظنون أن الثورة تحمل متغيراً كما أسلفنا مخطئون ولم نكن في اليمن بحاجة إلى كل ذلك الدمار وكل ذلك الركام إذا أحسنا تقدير العواقب التي سوف تنتج عنه، بيد أن حالات العمه مكّنت الذات من الاستحواذ والطغيان الأمر الذي جعلنا نتراجع خطوتين بدلاً أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
كثير من المفكرين والكتاب قالوا إن المجتمعات العربية لا تحتاج إلى ثورات ولكنها تحتاج إلى إصلاحات مستمرة وتطوير للوصول إلى عملية الانتقال، ذلك أن الثورات تعمل على تأجيج نيران العنف وتشعل فتيل الثأر السياسي، وتفرز قوى صراعية جديدة وتعمل على تمكين الأقوى ليستبد وهي بذلك لا تحدث متغيراً ولكنها تعمل على تعزيز قيم الماضي أو تعيد إنتاجه فالذين أغمضوا أعينهم على أحلام ثورية رومنسية سوف يستيقظون على واقع ربما كان أكثر قسوة وألماً عمَّا كانوا فيه أو عليه فالصراع الأصولي اصبح أكثر تمكناً وتمدداً من ذي قبل وهو من نتاج المناخ الثوري بإمتياز والكيانات الاجتماعية القائمة على العصبية العرقية تجمعت شذراتها وتقاربت أبعادها وقضيتها لا تتجاوز بعدين أساسيين هما الثأر والوجود في خارطة المستقبل السياسية والاجتماعية، وأصحاب المطالب الحقوقية في المحافظات الجنوبية اتسعت جغرافيتهم وتعززت مكانتهم بحيث اصبحوا رقماً لا يمكن تجاوزه، وحضرت معارضة الخارج بقوة لم تكن تطمح إليها وشكل حضورها القوي والفاعل بديلاً لقوى كثيرة في الساحة الوطنية وربما أصبحت خياراً اقليمياً أو دولياً، وأصدقاء ما قبل التوقيع على المبادرة الخليجية بالضرورة وبحكم الصيرورة سيكونون أعداء الغد وبانفراط العقد الذي جمع شتاتهم سيكون هناك تمترس خلف الأيديولوجيات التي قالوا بنفيها إبان اللحظة الثورية التي تنازعتهم رومانتيكيتها وخذلهم فيها بُعدها الواقعي الذي تغافلوا عنه أو نسوه لبرهة زمنية ثورية حالمة..
ولعلنا قد لا نشطط كثيراً بالقول أننا أمام مرحلة تشكل ا متداداً ولا تحمل متغيراً حضارياً جديداً ذلك لأن المتغير لا يتحقق إلاّ إذا أفرز الواقع ثقافة جديدة وقيماً جديدة ومبادئاً جديدة تتواكب والثقافة العصرية الحديثة أما أن تظل القيادات هي ذاتها التي نعرفها من قبل عشرين عاماً وأكثر ثم تأتي هي عينها لتطالب بالتغيير وعقيدتها الثابتة لا تؤمن به، والأفظع والأمر أنها تقود الحالة الثورية التي أفسدت في حياة هذا الوطن وفي مقدراته أكثر مما نأمل منها أن تصلحه، وكان الأولى بها أن تبدأ من الثورة على نفسها لأن من لا يؤمن بالمتغير لا يصنع متغيراً، ونحن ندرك تمام الإدراك أن الثبات صفة ملازمة للذهنية العربية فهي ضد كل ما لا يتوافق مع مألوفها أو تصوراتها الذهنية المسبقة عن الأشياء وهي لا تصنع حدثاً تحولياً إلا إذا شعرت بحاجتها النفعية إليه وتلك الحاجة في الغالب لا تحكمها الشروط الموضوعية لتحقق نفعاً عاماً بل شروط حفظ الذات التي تسعى إلى النفع الذاتي دون غيره، فالآخر بالنسبة لها لايكاد يدخل في حساباتها الضيقة وانطلاقاً من تلك المسلمات فقد دلَّ تاريخ الذهنية العربية أن الدم هو الوسيلة المثلى لبلوغ الغايات وتحقيق المقاصد السياسية والاجتماعية، وقد بات من نوادر التاريخ أن تجد طرفاً سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً جنح إلى السلم دون أنْ يريق دماً أو يقتل نفساً محرمة، فما بالك بثورة ترى أن انتصارها لا يتحقق إلاّ بالزيادة الكمية لعدد الشهداء وقد تواترت فكرتها تلك في وسائل الإعلام عن طريق تكرار بث عبارات مثل (كلما زدنا شهيداً كلما اقترب موعدنا مع النصر) وتعززت من خلال الترغيب المستمر للرموز الدينية بالجنة والحور العين والقصور المعلقة في الفردوس الأعلى وتمنهجت من خلال الفعل السياسي المنظم الذي يحدد عدد الشهداء المفترض لهم أن يسقطوا في المسيرة أو المظاهرة..
فالذين راهنوا على الدم لم يفلحوا وسيلعنهم التاريخ والذين يراهنون على بناء عروش أمجادهم من جماجم الضحايا وأشلاء الأبرياء لن يمرا ومثلما هو حرصنا على معرفة حقيقة حادث جامع النهدين الذي استهدف رموز الدولة فنحن أشد حرصاً أن نعرف الطرف المدان في حوادث جمعة الكرامة، وحي النهضة التي أغفلها الإعلام وأودت بحياة (53) شاباً وحادثة بنك الدم في حي الإذاعة والكويت وحادثة (18 سبتمبر) والقاع والحصبة وكنتاكي والاعتداءات المتكررة على المعسكرات في كل مكان، كالصمع ونهم، وأرحب أو في الطرقات وأينما دلّت الحوادث ومات مواطن يمني وكذلك في الجرائم التي تحدث في تعز تلك المدينة الحالمة التي عبث فيها الطامحون فجعلوا من مدنيتها ركاماً ورماداً ومن ثقافتها مفردات موت وحريق ودمار، لذلك فالحقيقة أصبحت مطلباً شعبياً لتعرف الجماهير من خلالها من هو قاتلها الحقيقي.
إن إعادة إنتاج (مطرفيات) جديدة دلَّ على أن القتل اصبح عادة واعتياداً وأصبح ثقافة ذات بعد تأصيلي وقد آن لنا أن نجتاز تلك الثقافة من خلال اشتغالنا على البدائل المدنية التي تحقق الغايات والمقاصد دون أن تريق دماً..
فشعار «السلمية» الذي اشتغلت عليه بعض القوى السياسية كشعار أجوف دلَّ الواقع على ما يناقضه- أصبح من الضرورة بمكان تعزيزه وتأصيله كقيمة ثقايفة بديلة، وقد اصبح لزاماً على القوى الفاعلة أن تعمل جاهدة على إنتاج ثقافة جديدة وحديثة إذْ أنَّ مثل ذلك لا يستطيعه المثقف الفرد الذي اصبح متشظياً بين رسالته وحاجاته الحياتية التي في الغالب تعزُّ عليه ولا يقدر على توفيرها وعلى المؤسسة (والأحزاب باعتبارها مثقفاً عضوياً)- العمل على إنتاج خطاب ثقافي حديث يتجاوز (مطرفيات) الماضي ومفردات الموت والدمار، ليؤسس على أنقاضها ثقافة حديثة تقدس التعايش والحريات وتعيد للعقل قيمته واعتباره ووظائفه بحيث يكون التدافع بين الكيانات تدافعاً عقلياً مبنياً على أسس منطقية وقائماً على أسس ومنطلقات نقد التفكير بعيداً عن روح الإلغاء والإقصاء والإدعاء بامتلاك ناصية الحقيقة التي يظل امتلاكها نسبياً ولن يصل إلى كماله ومثل ذلك ليس بعيداً عن مرجعياتنا العقائدية والثقافية التي ترى أن لا ضرر ممن ظل إذا وجد الإنسان صلاحاً في نفسه تقول الآية (105) من سورة المائدة: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون»..
والقرآن بمثل هذا التوجه الإنساني يؤكد أن كل الفلسفات البشرية لايمكنها أن تتجاوزه لأنه آتٍ من عند الله الخبير العليم.. فالذين ينكرون الفكر الليبرالي لا أظنهم فهموا الإسلام فهماً صحيحاً أو قرأوا القرآن قراءة قادرة على سبر أغواره وفهم مقاصده.. والذين اشتغلوا على الموت والفناء والدمار (من الأصوليين يشقيهم السني والشيعي) لا أظنهم فهموا مقاصد الله وغاياته من السلام والحياة..
وتأسيساً على ما سبق فإن قولنا في المقال السابق بضرورة تحديث ثقافتنا وتجديد منظومة القيم التي توجه حياتنا لم يكن تهويماً فالثورة الحقيقية هي الثورة الثقافية التي تعيد تعريف إنسانية الإنسان وتحفظ له قيمته ومكانته ومعناه.
والخلاصة: ان الصراع سيظل، إذ أنه بالإضافة إلى صراع الأصوليات الذي نشهده الآن في الساحة الوطنية، سيتحول أصدقاء اليوم في اللقاء المشترك إلى أعداء الغد.. وسنشهد تمترساً خلف الأيديولوجيات، ولن نخرج من دائرة الصراع طالما والماضي لايزال يوجه حياتنا.