الإثنين, 12-ديسمبر-2011
الميثاق نت -  عبدالرحمن مراد -
ثمة حادث في حجة خلال ما سلف من أيام بعث في نفسي الحزن وجعلني أشعر بغابية الحياة ووحشية الانسان الذي حين يفقد إنسانيته يغرق في بركة الدم.
مضمون الخبر الذي أفزعني كثيراً وجعلني أرثي المستقبل يتلخص في قول الرواة إنْ صلحاً حدث بين فريقين متقاتلين في مديرية كشر تم من خلاله إقرار هدنة وتحرك أحد الفريقين في مناخ ما تم التوصل اليه، وفاجأه الفريق الآخر بكمين أودى بحياة عشرين شخصاً أو تزيد وقيل أنّ ثمة نفر من الناس كانوا في حكم الأسرى تم تصفيتهم إنه لأمر مفزع حقاً حين ينهار النظام العام والقانون الطبيعي والمنظومة الأخلاقية والثقافية في لمح البصر.
أيُّ مستقبل ننتظر إذا كانت مثل تلك الوحشية أحد أبرز ملامحه لقد فقد الانسان إنسانيته وسادت في حياتنا ثقافة الغاب وروح الصحراء، وتوحش الانسان الى الحال الذي أصبح فيه القتل عادة وربما اعتياداً ىمارسه كسلوكٍ يومي.
لا أظن ما يحدث الآن في حجة كان خارجاً عن سياقه العام الذي عمل خلال عشرة أشهر من عمر الازمة السياسية على التدمير والهدم والقتل واستباحة كل شيء.. لقد ثارت الضغائن والاحقاد ولم تثر العقول وثارت المشاريع الصغيرة ولم يثر المشروع الوطني، وثارت الطموحات الى الثروة والسلطة ولم تثر مفردات التنمية وعلاقات الانتاج وقيم البناء وأدواته لقد سيطر مشروع الشيخ على المشروع التقدمي والطلائعي والمشروع العقائدي والاخلاقي ، فلم تكن الحياة الا عدماً مثله، ولم تنتج أزمته التي مولها وأنفق عليها من أموال الشعب وثروة الوطن الا قتلاً ودماراً وخراباً وهدماً ولم يؤسس الا لثقافة بدوية صحراوية، وقد تحدثنا عن خطورة مثل ذلك في مقالات سابقة في صحيفة «الميثاق»، ويبدو أن العقل العربي «لا يستبين الرشد الا ضحى الغد» حين تقع الفأس في الرأس بدليل أن «محافظة حجة» - وهي محور حديثنا - أوليناها قسطاً وافراً من قراءتنا بحكم الانتماء المكاني حيث نشرت لي صحيفة «اليمن» مقالاً بعنوان «حجة.. موجة غضب قادمة» في عددها رقم (89) الصادر بتاريخ 12/7/2011l م وفيه خلصت الى القول - كما في النص:«إذاً نحن أمام قوتين عقائديتين متصادمتين في حجة ساهم غياب الدولة واغتراب المحافظ عن البيئة الاجتماعية التقليدية، وانكفاؤه على ذاته وعدم تفاعله معها - أي مع البيئة الاجتماعية - وتحديث نظمها على تعزيز عوامل الكبت النفسي والاجتماعي والثقافي فيها وهو الأمر الذي سيعزز من الاصولية ويفجر طاقاتها في صور غاضبة وبنفس السيناريو الذي شهدته وتشهده محافظة أبين» وفي العدد رقم (159) من صحيفة «الأولى» الصادر بتاريخ6/7/2011l م تحدثت في مقال لي بعنوان «حجة.. بين مفترق الطرق والخيارات المتعددة».. قائلاً:
«ما يمكن أن يقال إن حالة اللاإنسجام بين المجتمع المحلي والفعاليات الاجتماعية وبين المحافظ وحالة الاغتراب النفسي والثقافي والاجتماعي التي يعيشها المحافظ في حجة قد خلقت مناخات ملائمة لبوادر صراع فادحة ودخول حجة فيه بالضرورة التاريخية سيعمل على تغيير ملامح الغد الوطنية والسياسية وهو ما تؤكده السياقات الزمنية منذ حركة الهيصم بن عبدالمجيد الحميري في زمن هارون الرشيد مروراً بابن حوشب.. والملك علي ابن الفضل وانتهاءً بتغيير المعادلة الوطنية في عام 1948م، فالإمام أحمد كان يدرك أهمية خط حجة، ولذلك قاتل حاشد وشيبان في العشرينات وغادر تعز الى حجة في ثورة 1948م ليقينه بأهميته في استعادة ملكه وقد كان ولم يزل هذا اليقين متجذراً في الوعي الزيدي حتى اللحظة، فالثابت تاريخياً أن الزيدية فشلت في دخول صنعاء عن طريق بني حشيش وهي ذات التجربة التي خاضتها الحوثية ونفس النتيجة ولكنها عبر تاريخها - اي الزيدية- كانت حجة هي خط التمكين لها الى صنعاء وقد تهيأت لها الظروف والمناخات، إذ بالإضافة الى العوامل السابقة هناك عامل آخر وهو مهم ويتمثل في التجانس الثقافي، والانطلاق من البعد الثقافي يعزز الهوية التي تشعر بالاغتراب من واقعها، ولعله كان هو العامل الأهم في قدرة الحركة الحوثية على وقف حالة الاقتتال بين قبائل «وشحة» بعد أن عجزت الدولة ومؤسساتها الامنية وسلطتها المحلية في وقف الحرب هناك».
واختتمت المقال قائلاً: «حجة بلد مهم والتعامل معه بروح الاقصاء والتهميش والمصادرة والتعطيل لن يخدم السلم الاجتماعي ولا الوحدة الوطنية ولعل المستقبل يكشف الغطاء عن جل الحقائق التي نستشعر خطورتها في لحظتنا».
وفي العدد رقم (181) الصادر في تاريخ 1/8/2011l قلت في مقال لي بعنوان «جبل أبو دوار شرارة قادمة» ما نصه:
«إن قضية التقدمية والتحديث هي قضية استعداد نفسي وذهني وأخلاقي، وليست قضية انتماء ومفاخرة لأننا حين نتحدث عن تحديث ونعمل على بقاء تقليدية واقع نملك سلطة تحديثه نكون حينها قد وقعنا في التناقض بين الفكرة والممارسة وبقاء العلاقات التقليدية التي تتفق مصالحنا معها ليست أكثر من استغراق في التقليدية، ومن انتهازية واستبداد وتعطيل متعمد للنظام الاجتماعي القابل لحركة الانتقال الميكانيكية، ومن شلل تام لحركة الابداع والابتكار وتعطيل فاعليتها ودورهما الاجتماعي والثقافي يقول أحد مفكري اليسار: «إن البناء الفوقي يولد من البناء التحتي فهو يؤثر فيه بنشاط وفعالية ويساعده في التكون والتوطد، وقد يقوم البناء الفوقي حيال البناء التحتي إما بدور رجعي وإما بدور تقدمي.. مثلاً ان البناء الفوقي القائم على البناء التحتي الرأسمالي يضطلع في الوقت الحاضر بدور رجعي صرف» وتلك الرجعية القائمة على التعطيل وشلل الحركة في ظني لا يمكنها تأمين حاجات المجتمع المادية والثقافية وقد تساهم في إفساد علاقات الإنتاج وأدواته، وفي النتيجة العامة تعمل على تهيئة المناخات العامة لترعرع الاصوليات المتضادة التي تعمل على تدمير مظاهر الحياة العامة وافساد قانونها العام وشواهد ذلك مقروءة في أبين وستكون غداً مقروءة في حجة..» (انتهى).
ولم يطل بنا الزمان حتى حدث ما كنا نستشعر خطورته وبوحشية وسقوط أخلاقي أفزعنا، وأفزع كل ضمير حي.
ثمة شيء..يجعلنا نقول انه ليس من المنطق أن يكون غياب حجة عن المشهد الآمن مبرراً كافياً لحضورها في المشهد السياسي الدامي المتسربل بالنيران والمتمشقر بأفواه البنادق، وكم نكبر ذلك الحرص الذي جسدته الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية في توافقها على تنمية روح السلام والخير الذي تميز به السياق التاريخي للمكان، في بداية الأزمة وكم نتمنى أن تكون الخاتمة بقدر حرص البداية، وعلى الجماعات الدينية الاصولية.. أن تدرك أن إراقة الدم لن يلغي الآخر، ولن يفنيه ولكنه يجذر من وجوده وينميه وأن العقل هو القذيفة الوحيدة القادرة على الإلغاء والفناء بقوة المنطق وسلامة الفكرة وبروح الحوار والتعايش، فالحوثية مثلاً لم تكن رقماً صعباً بيد أنّ حروب اللواء علي محسن الاحمر الست صهرتهم فكانوا أكثر قوة وصلابة وجذرت وجودهم في عمق التربة اليمنية، فكل حربٍ لا تترك الا انتصاراً زائفاً غير حقيقي ولن تترك الا تشوهاً نفسياً وروحاً ثأرية صراعية، ولن تكون روح الفناء فيها الا وجوداً حقيقياً محاطاً بهالات القوة وروح الانتصار، وهذه هي الحقيقة التي لم ندرك جوهرها مع الحوثية، وهي ذاتها من ألقت بظلالها على عموم الناس والقبائل اليمنية التي دل تأريخها على أن القوة جزء أساسي من مكونها الثقافي بل تكاد أن تكون عقيدة ثابتة لا يمكن زعزعتها، ولذلك لم يكن «تحوثها» عن بعد عقائدي صرف بل بحثاً عن بدائل للدولة التي تمثل القوة الحقيقية وتنامي الشعور بغيابها خلال ما سلف من زمن الأزمة السياسية، وهذا المذهب من القول يؤكده واقع الحال في حجة، فالصراع الدامي بين الحوثية والاخوان ليس الا صراعاً بينياً لأبناء جغرافيا واحدة، وهو صراع جماعات قبلية تقليدية لا تحمل بعداً عقائدياً، «تحوثت» بحثاً عن القوة، مع جماعات عقائدية سنية شعرت بتهديد وجودها من تنامي المد الحوثي وقد تنتمي الجماعتان الى قبيلة واحدة، وقد تجمعهما جغرافيا واحدة وهما من قبيلتين متجاورتين وكل ذلك الموت والدمار تديره الفرقة بقيادة اللواء علي محسن الاحمر، حيث صرف السلاح والذخيرة لأبناء القبائل الذين يقاتلون الى جانب الجماعات الدينية وأرسلهم للقتال وسلب أبناء القبائل التي «تحوثت» السلاح وأودعتهم سجون الفرقة «من أولئك الأفراد والجنود الذين ينتمون الى المؤسسة العسكرية - الفرقة» ولعل اللواء الثائر هدف من خلال اشعال نار الفتنة في المناطق القريبة من الحدود الجنوبية للسعودية إرسال رسائل متعددة الى المملكة أدناها أن أمن المملكة سيكون مهدداً من خلال تنامي المد الحوثي وقد سبق له أن وجه بسحب نقاطه العسكرية من المناطق الشمالية المتاخمة للحدود السعودية، وقد صاحب ذلك ضجيجاً إعلامياً كان مبالغاً فيه، وفي ظني أن المؤسسة الامنية السعودية تدرك تمام الإدراك من يهدد أمنها وسلمها الاجتماعي ولا أظنها من الغباء بالمكان الذي لا يجعلها تدرك من يقوم وقام بتهريب أو تسهيل تهريب الرشايدة» ومن يقوم بتسهيل دخول المخدرات والاسلحة الخفيفة والثقيلة وتدرك من الذي يتاجر بالسلم الاجتماعي والقضايا الامنية في البلدين الشقيقين اليمن والسعودية»، ومن هو العامل الأبرز في سهولة تنقل عناصر تنظيم القاعدة بين اليمن والسعودية، ولا أظنها تغفل عن روح السلام وروح المحبة والوئام وروح التعايش لسكان المناطق المتاخمة لحدودها الجنوبية، كما أن الزيدية الوجه الثقافي الأبرز في تلك المناطق لم تقم طوال تأريخها بأي عمل يستهدف السعودية بل ان ميلها الى السلم وحقن دماء المسلمين كان الدافع الأبرز في توقيعها على اتفاقية جدة عام 1934م وكانت علاقتها مع الاسرة المالكة علاقة وئام وانسجام رغم تباين المذاهب وهي الروح ذاتها التي مالت الى اتفاقية ترسيم الحدود بين اليمن والسعودية طمعاً في الاستقرار وفي حياة آمنة ومنسجمة بين البلدين الجارين.
نقول ذلك ونحن ندرك أن ثمة سيناريو يعد تحت الطاولات ليجعل من حجة ساحة صراع لقوى إقليمية، أو هكذا يراد لهذا البلد المسالم من قبل عشاق الحروب وتجار السلاح والوحوش الضارية التي تقتات من أشلاء الضحايا ودماء الأبرياء.
ولعل ساسة المملكة قد أدركوا من خلال تجاربهم مع القوى الراديكالية الاصولية حجم المخاطر وأثرها البعيد والقريب على الأمن والسلم الاجتماعي وأدركوا حاجة الحياة الى روح التوازن وروح تطور الروح المطلق كما هي عند هيغل، فبقدر حاجتنا الى الفقيه هناك حاجة متوازية الى الفيلسوف والمفكر الطلائعي والتقدمي والليبرالي كما أن حاجتنا الى الفن في عمومه «شعر، مسرح، تشكيل، نحت، سينما، ... الخ» لا تقل أهمية عن حاجتنا الى البعدين السابقين ومن خلال التدافع بين دوائر التطور تستقر الحياة وتأمن المجتمعات أما صراع الاصوليات (سني/ شيعي) فلن يحقق استقراراً، وفي ظني أن اشتغال الجارة السعودية على دوائر هيغل يجعلها قادرة على قراءة الحدث والابتعاد من مصائد الابتزاز التي ينصبها لها تجار الحروب في اليمن.
لقد أصبح مجتمع حجة يدرك من يزرع الألغام والعبوات الاجتماعية الناسفة تحت غطاءات وهمية ويدرك ماهية أهدافها وهو على يقين أن الجارة السعودية أصبحت أكثر تبصراً وعقلانية وهي ضد الصراعات الدامية التي تعطل مظاهر الحياة وتقتل النفس المحرمة.
ومع تباشير الانفراج التي تلوح في الأفق الوطني يتطلع مجتمع حجة أن يكون حضوره على طاولة النماء والتحديث والاهتمام أكثر من ذي قبل، وأن تدرك القيادة السياسية والتنفيذية خطورة ما زرعته الأيام من ألغام وما تسببت فيه من تعطيل وشلل وغياب، فالقضية في حجة لا تنحصر في الكم العددي للقيادات الإدارية بل في عدميتها وقد أصبح التركيز على النوعي ضرورة وطنية لا تخدم النماء فقط بل السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والاستقرار.
للتأمل:
يا أبا نواس
مات الشعر والكأس انكسر
لم يعد في العصر للظمآن ماء
لم يعد في ليلنا الوحش سمر
والسماء.... ما عاد شيء في السماء
يلهم الشعر قلوب الشعراء
أجدب الغيم... على آفاقنا جفَّ المطر
¿ ¿ ¿
في فيتنام جثث
في بلادي جثث تمشي على هام جثث
في عيون الناس في الشرق وفي الغرب جثث
حدث يأكل أبناء حدث
سقط الحرف غريقاً في الدماء
أصبح الشعر بكاء
من نص بعنوان «شكوى» للدكتور/ المقالح
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 05:32 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-24306.htm