فائز سالم بن عمرو ٭ -
ضعفت حماسة الكُتَّاب والنقاد والمقومين للأزمة، واتجهت الكتابات والتحليلات لمواجهة الأحداث اليومية والقضايا الجزئية، وهذا يؤكد تأثر العقل اليمني والعربي برحى اللحظة وعدم اعتماده على القراءات والتحليلات المستقبلية التي تستبق الأزمات وتكشف عنها والبحث لتفكيكها ومن ثم إيجاد حلولٍ واقعية لها.. ما مر به اليمن من أزمة كانت هزة قوية وعنيفة قوّضت كثيراً من المفاهيم والاعتقادات، ولا يمكن لهذه الترسبات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية ان تذوب وتزول بمجرد اتفاق ومبادرة دول الخليج التي هيأت لخروج اليمن من أزمة حالية لتواجه اليمن ربما أزمات اشد ظلاماً ووقعاً إذا لم يتداعَ الجميع على البحث عن حلول جذرية تعيد رسم شكل الدولة وفق تشخيص دقيق وواقعي وصادق للأزمات اليمنية .
أثبتت الأزمة اليمنية ضعف الداخل وعدم توافقه وعدم قدرته على إيجاد حلول ، ونظرية التوافق السائدة في الفترة السابقة انتهت وسجلت وفاتها للأبد، فطريقة الحكم بالتوافق- وهي طريقة بدائية أشبه بطريقة الحكم القبلي- هي من أوقعت اليمن في هذه الأزمة وعمدت على ترحيل الأزمات واشتدادها إلى ان انفجرت بهذا الشكل العنيف وغير المتوقع.. وليستطيع الباحث تحليل أزمات اليمن والوقوف على المعوقات التي تمنع بروزها كدولة مدنية حديثة قادرة على استيعاب المتغيرات وإنتاج حلول داخلية يقبل بها الجميع، لابد من الوقوف على أطراف وعوامل الأزمة اليمنية، فالقراءات التي تعتمد على قراءة المشهد الداخلي فقط أو التعويل على المشهد الخارجي ستكون قراءات ناقصة لا تنتج تشخيصات كاملة ومنطقية وواقعية .
تقاطع المشاريع
تشهد المنطقة تقسيماً جديداً أو ما يسمى بشرق أوسط جديد أو كبير أو غيرها من المسميات التي ستغير المنطقة وجغرافيتها وسترسم تحالفات جديدة وقوى جديدة.. ووفق هذه النظرية، فإن التغيير أو الفوضى الخلاقة ستصل إلى جميع الدول العربية ولن تكون دولة في منأى عنها ، فبعد حرب العراق نشأت خلافات كبرى بين الفيل الأمريكي القائم على نظرية القوى والغطرسة العسكرية تحت نظرية «الحرب الاستباقية» وبين الاتجاه الأوروبي الذي يرى ان أمريكا لا تعرف بطبيعة المنطقة ولا تركيبتها السكانية والاجتماعية والثقافية.. وبحربها الفاشلة على العراق وأفغانستان سلّمت أمريكا المنطقة للنفوذ والوصاية الإيرانية ، وهذا يتوجب تصحيح المعادلة والبحث عن طرق أخرى ووسائل مغايرة في التعامل مع المنطقة ، وبرز ما يسمى بالربيع العربي وان كان هذا الاتجاه يشهد انقساماً شديداً وتبايناً في وجهات النظر في المؤسسات الصانعة للسياسية الدولية داخل أمريكا وخارجها ، فوزارة الخارجية الأمريكية من اشد المتحمسين لهذا المشروع وداعميه، بينما المؤسسات العسكرية والاستخباراتية مثل البنتاجون التي تشرف على منطقة الشرق الأوسط ترفض هذا المشروع وتشكك في جدواه ونتائجه ، وقد شهدنا هذا التباين بين وزارة الخارجية والمؤسسة العسكرية في شأن اليمن وقد تباينت التصريحات بشكل كبير بين الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع الأمريكية بخصوص التعامل مع الأزمة اليمنية.. فخلاصة الموضوع، يوجد مشروعان كبيران قديمان في النظرة لمنطقة الجزيرة العربية واليمن ، فالمشروع البريطاني يريد تقسيم المنطقة وتشكيل نقطة تسمّى خط عدن- عمان، أي تريد استعادة المشروع البريطاني الذي قضت عليه الهيمنة الأمريكية بالسيطرة على منطقة الخليج العربي والدفع بالنفوذ الإيراني إلى أقصى حدوده ليقتصر حدود الإمبراطورية البريطانية على قاعدة عسكرية في عمان، فهذا المشروع يريد استعادة دوره ونفوذه في اليمن من خلال تقسيم اليمن والسعي لاستعادة سيطرته على جنوب اليمن، والمشروع الثاني هو المشروع الأمريكي الذي يدير العالم وبالتالي ينظر للمنطقة ككتل جغرافية ومصالح نفوذ كبيرة وهذه النظرة تعود لطبيعة المجتمع الأمريكي والجغرافية الأمريكية التي تنظر للأشياء بكلية وبنظرة عمومية، وهذا المشروع يريد اليمن دولة موحدة ذات حكومة قوية للموقع الاستراتيجي المهم لها ولتكون منطقة بديلة لإمدادات النفط من دول الخليج عبر البحر العربي إلى المحيطات المفتوحة للهروب من سيطرة إيران على منافذ النفط عبر مضيق هرمز.
الناظر للأزمة اليمنية أنها طرحت وأحيت جميع المشاريع الميتة السياسية والاجتماعية والمناطقية والفئوية، فما أكثر المجالس والهيئات والجهات التي أخرجتها الأزمة للظهور وهي ذات مشاريع متناقضة متصارعة تعبر عن أطراف وأهداف داخلية وخارجية ، ولهذا أي حل للأزمة اليمنية وإعادة رسم شكل الدولة الجديد لا بد ان يكون شاملاً ويقضي على كل أشكال الصراع والانقسامات ويرضي جميع الأطراف في إطار فكرة الدولة المدنية القوية وحقوق المواطنة السوية ، فمبادرة الأشقاء في الخليج في صورها المتعددة كانت تهدف في نسختها الأولى إلى خروج الرئيس من السلطة وترحيل المشاكل إلى الأمام، وحتى المبادرة الخليجية الأخيرة مع آليتها التنفيذية فإنها عمدت إلى حل مشكله قائمة وتفتيتها ثم أوصت بالنظر في المشاكل الأخرى وحلها .
وإذا عدنا إلى الساحة اليمنية ودققنا في المشاريع التي طُرحت وقُدمت من قبل الأطراف الداخلية لحل الأزمة، فإننا نجد أمامنا مشاريع متناقضة ومتضاربة وأحيانا لا نجد سوى شعارات وخطابات عامة تريد فقط القفز إلى السلطة ، وفي رأيي من أفضل المشاريع التي قُدمت، مبادرة الأخ الرئيس في ملعب الثورة بداية العام الجاري التي دعت إلى انتخابات مبكرة وتغيير الدستور والنظام الانتخابي وإنشاء أقاليم على أساس اقتصادي وجغرافي ، وقد وافقت مبادرة الخليج معظم هذه النقاط وخاصة الانتخابات الرئاسية وتغيير الدستور وقانون الانتخاب..
أما الطرف الثاني في الأزمة الممثل في أحزاب اللقاء المشترك فإنها ظلت على شعاراتها السابقة فهي تريد فقط تعديل النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني واعتماد النسبية في النظام الانتخابي ولم تقدّم أي نظرة لحل مشكلة الجنوب والحوثيين فيما يُعرف «بالمشاركة في السلطة والثروة» والتي كانت تتهم النظام بأنه تفرد بإدارة الثروة والسلطة ، بينما رفع شباب الميادين والساحات رحيل النظام ومحاكمة رموزه أبان الثورة ، فهم لم يطرحوا أولاً أي برنامج أو تصور لحل مشكلة اليمن عامة والخروج بها من مستنقع المستقبلات الحالية والمستقبلية ثانياً.. اقتصرت المطالبة بالمحاسبة على عهد الثورة ويقول الشعب نحن نريد كل من ساهم في إراقة الدم اليمني ونهب ثروات الشعب ابتداء من عام 1990م وخاصة قادة من الإصلاح والقيادات العسكرية والقبلية.. والمشكلة التي ستواجه اليمن هي ان الأحزاب المعارضة والساحات لا تملك مشروعاً لحل مشاكل اليمن التي ألزمت المبادرة الخليجية الأطراف اليمنية بالبحث عن حلول وهي : وضع دستور جديد ، نظام انتخابي متطور، حل قضية الجنوب حلاً عادلاً، حل قضية صعدة ، إنهاء التمرد والانقسام في المؤسسات العسكرية والأمنية ، تطوير الاقتصاد والاتجاه إلى التنمية.. فكل هذه النقاط هي بوادر أزمة ومرشحة للانفجار العنيف إذا لم تشرع الأحزاب في وضع حلول وتصورات تتوافق مع المرحلة وتستجيب لمطالب الشعب وتعترف بالاختلاف الثقافي والتمايز الاجتماعي، وأهم هذه النقاط المسكوت عنها في فكر النخب والأحزاب والقيادات اليمنية «المركزية الشديدة» التي أنتجت كل الاختلالات وأضعفت الهوية الوطنية وشرعت للفساد والفوضى مما يمكن تلخيصه في «المشاركة في الثروة والسلطة»، وما قدّم من حلول مثل الحكم المحلي أو الحكم المحلي واسع الصلاحيات لم تجد شيئاً، فهذه النقطة إذا لم تحل في إطار عام وفي إطار دولة مركزية بأقاليم قائمة على أساس اقتصادي وجغرافي واجتماعي فإن اليمن ستظل بؤرة لتوليد الصراع وظهور العديد من النزعات الانفصالية وستحيي المشاريع القديمة الجديدة التي تتلقى رعاية ودعماً من أطراف إقليمية ودولية.
٭ رئيس تحرير موقع الخيل نت الالكتروني
[email protected]