عبدالرحمن مراد -
القارئ الممعن في مجريات الحدث الذي يعصف بالأمة والذي تواضع الناس على تسميته بالربيع العربي، يدرك أن ثمة شيئاً يتغير وثمة جنيناً يتخلق في رحم الغيب وثمة قادماً سيبزغ، وثمة جماعة صامتة سوف تتكلم، ولعل متواليات الاحداث في مصر لم تبخل بالإيماءات الدالة على ملامح الغد وإفرازات الحدث، فالذين قالوا إنّ من السياسة ترك السياسة- وهم الجماعات السلفية- تبين انهم قوة فاعلة ومحركة ولا أظنهم في اليمن وفي غير اليمن الا كذلك، ذلك لأن احتكار النخب للسلطة والثروة والثقافة قد ساهم بشكل أو بآخر في بزوغ نجم المثقف السلفي كأقوى مما كان عليه بسبب الوظيفة الاجتماعية التي تقوم بها الثقافة الدينية، وهو الآن - اي المثقف الديني السلفي - أمام محك العقلانية والفاعلية، ولعل ظهوره لم يكن مفاجئاً للكثير من النخب الثقافية الواعية التي رأت أن الناصرية التي مثلت أساس النظام القومي العربي العلماني عملت طوال تاريخها على محاولة إلغاء الصراع الاجتماعي وبالتالي ألغت الصراعات الفكرية والثقافية بالقوة.. كما يذهب الى ذلك الدكتور احمد الموصللي في بحث له بعنوان «إشكالية المثقف والسلطة» الذي رأى فيه أنه من خلال الناصرية تحولت الدولة القومية الوطنية الى نموذج شمولي قامع للحريات.. وقد تمكنت من تدمير الوعي المدني العربي الذي كانت الليبرالية تقوم ببنائه منذ منتصف القرن التاسع عشر - يقصد بذلك الليبرالية الدينية التي تبناها مشروع النهضة لمحمد عبده - ويرى الموصللي أن الدولة الوطنية القومية عرقلت مسيرة تطور الفكر الاسلامي الليبرالي في السياق الحضاري الحديث والمعاصر فوأدت تلك التجربة وحولتها الى عكسها، الى أصولية نصية وهو ما فعلته مع الليبرالية العلمانية.. إذ حولتها الى مسوغات عقلانية وعلمانية أو أصولية علمانية لافتراس حريات الافراد وتعددية المجتمع.
وهو الأمر الذي «جعل المثقف الثوري الاسلامي يدعو الى مرجعية عليا تتمثل في حاكمية الله كنقيض لحاكمية الحاكم، وأضحت مرجعيته السياسية الدولة الاسلامية المختارة نظرياً من الأمة كنقيض ونقض للدولة الوطنية المختارة من النخبة المتسلطة» كما تجلى مثل ذلك التوجه في كتاب «معالم في الطريق» للسيد قطب.
ومثل هذا القول الذي يذهب اليه الموصللي لا أظن أنه ينأى كثيراً عن جوهر الحقيقة التي أصبحت واقعاً مقروءاً في كل الاقطار العربية في مصر وتونس والمغرب واليمن، وربما في قابل الايام سوف تفصح عن نفسها في ليبيا وسوريا ولو أنها الآن في ليبيا اكثر وضوحاً من ذي قبل.. وتأسيساً على التجليات التي يفصح عنها الربيع العربي يمكن أن يقال إن القرن الواحد والعشرين شيَّع بقايا المشروع القومي العربي وحمل في تباشيره الاولى المشروع الاسلامي الذي تعددت خطاباته ولم يكن هناك من رابط سوى التوافق الذي رأيناه في المثقف الاسلامي الثوري على مبدأ تفاعل الدين مع السياسة، وقد كنا نلحظ تبايناً حول هذا المبدأ، فكما شهدنا ولادة «حزب النور السلفي» في مصر سوف نشهد ولادة «رابطة النهضة والتغيير» السلفية في اليمن وهي تضم كل الحركات والائتلافات السلفية المساهمة في حركة الاحتجاجات الشعبية التي تطالب بالتغيير، وقد شكل خروج المثقف السلفي من دائرة القول بالضلالة والبعد عن الحق والدين ورفضهم للنظم والأطر الديمقراطية والمدنية الحديثة الى دائرة المشاركة والقول بتفاعل الدين مع السياسة، مؤشراً حيوياً وفاعلاً على رغبته في استعادة دوره والاحتفاظ به، ورغبته في الاندماج في الطبقات العليا إيماناً منه أن الثقافة السياسية لا يمكن بناؤها الا من خلال المشاركة، ولا نعيب عليه ذلك إذا تمكن من التحول من الوعي التقليدي الى الوعي النهضوي الراسخ والفعال القائم على أسس الديمقراطية والشرعية الدستورية والقانونية ونظم وآليات الدولة المدنية الحديثة التي تضيف الى الاسلام ولا تتعارض مع قيمه ومقاصده من الحق والخير والعدل والفضيلة.
فالتراث الذي شكّل سلاحاً أيديولوجياً لمقاومة القوى الاستعمارية ولم يتحول الى قضية وعي نهضوي كالذي حدث زمن الافغاني كما يذهب الى ذلك القول الجابري أصبح الآن في زمن الربيع العربي زمن الفاعلية والعقلانية ملزماً للمثقف السلفي والاسلامي على العموم أن يجعل منه نقطة انطلاق الى مشروع نهضوي حضاري يبعث روح النماء والتجدد في الاطار الاسلامي ويملك القدرة الذهنية والروحية والمادية ليتمكن من ردم الهوة الفاصلة بين التراث ومضامينه المعرفية والايديولوجية والمعيارية وبين الفكر العالمي المعاصر ومنجزاته العلمية والتقنية ومعاييره العقلية والاخلاقية ومثل ذلك يتطلب جهداً مضاعفاً في القدرة على التوفيق بين الثنائيات المتضادة في الفكر السلفي (والاسلامي الى حد ما) وهي الجدلية التاريخية التي أعاقت ديناميكية الفكر والوعي النهضوي، وتلك الثنائيات هي: (العقلي/ النقلي، القطعي/ الظني، الديني/ الدنيوي، الثابت/ والمتحول)، وما يجب إدراكه بوعي متكامل أن المشروع الاسلامي يأتي على ركام وأنقاض المشروع القومي والمشروع العلماني، والديمقراطي وهي مشاريع عجزت عن أن تحل مكان البنى الاجتماعية التقليدية، وعجزت عن إحداث أي تطور في تلك البنى فظلت العشيرة والطائفة والقبيلة وتعزز الاستبداد بل وتجذر في العمق النفسي للأفراد والجماعات.. وحين يُدرك المثقف الاسلامي والسلفي ذلك، فبالضرورة لابد له أن يدرك أهمية التداخل الليبرالي في التركيبات الاجتماعية والبنى الاقتصادية والمؤسسات السياسية، فالتعدد في الخطاب الديني ضرورة تعصمها كثير من الآيات القرآنية، من أن تلج من أبواب الضلال الى ساحات الاقتتال، كما حدث ويحدث في الجوف ودماج، وحجة، ونحن نعوّل كثيراً على الخطاب الاسلامي الشعبي في تحديد أصول التواصل الاجتماعي، فالثابت أن كثيراً من المذاهب والملل والنحل مرت من هنا من اليمن وتعايش الناس معها ولم يبق للكثير منها من أثر، فالبلاغ حجة الفرد عند الله، وقناعة الفرد مسؤولية الفرد أمام الله، ولا حاجة للجماعات الى الاحتراب إذا سلم دينها وعرضها وشاع في زمنها السلام.
نحن نقول بحاجتنا الى تدافع الجماعات الدينية تدافعاً عقلياً لا تدافعاً دامياً، تدافعاً يفضي بنا الى مشروع حضاري نهضوي قادر على إحداث الانتقال لصياغة منظومة قيمية عالمية نستشعر من خلالها عالمية الرسالة وواحدية الرؤية للعالم باعتباره مكوّناً من مجموعات ترتبط أساساً بالاجتماع الديني المنافس للأديان الأخرى، والتعايش مع تلك المجموعات بروح السلام قد ينفض من ذاكرة تلك المجموعات ما علق بها من أشلاء ودماء وانفجارات.
وقبل هذا وذاك والشروع في خضم المشروع يتوجب على المثقف السلفي مراجعة مفردات خطابه وأن يضع حداً فاصلاً للازدواجية بين القناعة والسلوك، إذ أن ما يحدث في أبين من بتر للأطراف وإزهاق للأرواح وجلد وصلب وقتل على الشبهة وانتهاك للأعراض وهو ما لا يتوازى البتة مع ما يحدث في دماج الذي كان دخانه أكثر من حجم ناره، ويحمل أحد طرفي المعادلة في دماج ما يبرر فعله، في حين أنّ ما يحدث في أبين ليس له مبرر منطقي وهو انتهاك صارخ لحقوق الانسان، فكيف جاز لضمير المثقف السلفي أن يستنفر لدماج ولا يستنفر لأبين؟
إن استجابتنا لدعوة الله في الدخول في السلم كافة تستوجب علينا القول ان إراقة الدم غير مبررة لأي طرفٍ كان، فقد عصم الله دماء الناس وأعراضها وبيان ذلك قد أسهبت في شرحه الشريعة بما يغني عن التكرار هنا، بيد أن ما يثير الاهتمام قول يحيى الحجوري في الرسالة المنسوبة اليه والتي ورد فيها ما نصه: «إن هناك مخططاً حكيماً من المشائخ ومن المسؤولين في أرض الحرمين لضرب الشيعة الزيدية بالروافض الحوثيين وهم جميعاً أعداء لأهل السنة، والحقيقة استبشرنا خيراً بهذا الأمر وما علينا الا أن نتعاون جميعاً لبث الفرقة وإشعال الفتنة التي كادت أن تبدأ»، وأنا استغرب أن يصدر مثل هذا القول من رمز من رموز السلفية يعلم موقف النص من هذا القول ويعلم توصيف النص لمن يحدث الفتنة أو يشعلها، وأمام مثل ذلك أصبح المثقف السلفي مطالباً الآن ببيان رؤيته حتى نتبين سلامة المسلك ووضوح المنهج الذي لا يتوارى خلف التقية، فالحوثي قد أفصح عن موقفه في بيانه الصادر بتاريخ 19 / 12 / 2011م واتضح أن خياره التعايش وجنوحه الى السلم والحوار وغايته التآخي ونبذ الفتنة والفرقة كما ورد في بيانه، لا نريد من دعاة حاكمية النص أن يتسلحوا بالبنادق وأن يتدثروا بالموت، وإذا لم يحملوا لنا مشروعاً حضارياً نهضوياً مليئاً بقيم الخير والمحبة والسلام وروح النماء وقداسة الحياة فلا حاجة لنا في جنتهم وحور عينهم لأننا أكثر ميلاً الى دار السلام التي دعانا الله اليها في كتابه الكريم.
كما أننا نرفض من دعاة «الولاية» مثل ذلك على حد سواء، ذلك أن قضيتنا في حاضرنا لم تعد مع من يحكم بل مع كيفية الحكم ومنهجه ومدى قدرته على النهوض والتطور والتفاعل مع ضرورات العصر وحاجاته.
ونحن على إدراك تام أن الاسلام يملك الأسس اللازمة للهوية القوية التي هي المحرك الأول للشخصية الفردية والجماعية سواءً السياسية منها أو الاجتماعية ويملك الطاقة اللازمة لتجاوز العشيرة، والقبيلة، والطائفة التي رابطها الأساس العصبية التي تحدثت عنها مقدمة ابن خلدون.
فالطبقات الشعبية يمكن تحريكها من خلال الهوية الاسلامية الواعية والمدركة لمقاصد الله والقرآن، وتبعاً لذلك يمكن أن تتعايش الخطابات الدينية المتنوعة ويحدث قدر من الرضا عن الممارسات السياسية المختلفة وقد تتقاطع وتختلف .. وتظل مفردات (الحوار، المحاججة، البلاغ) مقدمات منطقية لنتائج (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، لكن ذلك يظل بعداً غائباً عن تفاصيل الواقع وتموجاته إذا ظل التراث بمضامينه المعرفية هو المعيارية التي يمكن الاحتكام اليها كما نلحظ ذلك في خطاب المثقف السلفي الذي حاول دحض وتفنيد آراء وأفكار حسين بدر الدين الحوثي الاستدلالية العقلية فلم يبلغ غايته لغياب المماثلة بين العقلي والنقلي، ومثل ذلك قرأناه في صحيفة الواقع العدد رقم (1) وهي صحيفة صادرة عن أهل العقيدة السلفية.
ومجمل القول: إن إثارة الجدلية التاريخية لزمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ليس الا هروباً من سؤال اللحظة الحضارية المعاصرة، ولا نظن مطلقاً أن الماضي سنجد فيه حلولاً لجل المشاكل العصرية الحضارية، والثقافية والذهنية، فالمجتمعات لا تعيش ظرفاً زمنياً متسقاً ومتوازياً ولكن تحدث في حياتها انتقالات إما بوعي منها أو بدون وعي، وتبعاً لتلك الانتقالات تنشأ الفرق والنحل والملل كنوع من الفرز التاريخي وهو الأمر ذاته الذي أفضى الى قول المثقف السلفي بضرورة تفاعل الدين مع السياسة في لحظتنا المعاصرة، وهو بصدد إعلان حزب «رابطة النهضة والتغيير» كما تواترت الاخبار وسيكون الاعلان تعبيراً عن تفاعل المثقف السلفي مع السياسة بعد أن كان نابذاً لها ورافضاً الخوض في تفاصيلها، ومثل هذا البناء الاضافي في جدار المجتمع المدني سيقابله انهيارات في بناءات قائمة، فالتيار الليبرالي في التجمع اليمني للاصلاح قد يتحالف مع التيار البراجماتي (التقليدي/ القبلي) تحسباً لانهيار المؤتمر وأملاً في الحلول مكانه (كما توحي بذلك الصحف الأقرب وجداناً الى التيار) وقد يعلن عن نفسه كحزب تقدمي قادر على استيعاب طاقات الشباب، وبذلك يتعدد الخطاب الاسلامي السني وقد يتحالف في المستقبل في إطار قائمة واحدة يقابل ذلك بروز التيار الحوثي، حيث سيعلن عن تشكيل حزب لا أظنه الا أنه يستلهم نموذج (حزب الله) اللبناني، لذلك فالجدل السياسي قد يعود الى ثنائيته الاولى (معتزلي/ أشعري) وقد يذهب رموز التيار العلماني (قومي/ اشتراكي) الى عالم التصوف لفقدانهم فاعليتهم.
وأمام حالة الفرز التي تركتها موجة 2011م سيكون المؤتمر مطالباً بإلحاح شديد بالتجديد والتغاير حتى في قياداته، فالقيادات الحالية وقعت تحت تأثير هول الصدمة وتبعاً لذلك فقدت قدرتها على التعاطي مع حالة الفرز السياسي، وإذا استمرت فإنها لن تفيق من هول الصدمة الا بعد أن يصبح المؤتمر أشلاءً ممزقة، وفي ظني أنه أصبح هناك ضرورة ملحة للمؤتمر ان يعكف على صياغة مشروع حضاري يتفاعل مع تطلعات الغد الحضارية بكوادر شابة قادرة على ترجمة مضامين المشروع، فبقاء المؤتمر رهن المعادلة الموضوعية التي توازن بين حكمة وتجربة الرئيس علي عبدالله صالح واستثمار رمزيته وشعبيته وبين الطاقات الشابة التي تملك قدرة التعبير عن لحظتها التاريخية الجديدة.
وكما سلف معنا القول.. فإن الوظيفة الاجتماعية التي يقوم بها المثقف الديني حيوية وفاعلة لاستنادها على الهوية الاقوى التي قال عنها ابن خلدون انها أساس انتظام عقد الانسان العربي الذي يتميز بطبيعة هدامة وهي الهوية «الدينية»، الامر الذي يجعل المثقف الاسلامي (على تعدده) في محك الاختبار، وخياره الفاعلية والعقلانية أو الطائفية والتعصب، وبين الخيارين تكمن وحدة الوطن وأمنه واستقراره بل وتكمن اليمن.