الميثاق نت - احمد الحبيشي- الميثاق نت

الخميس, 19-يناير-2012
أحمد الحبيشي -
أثبتت تجارب المجتمع الدولي ان مواجهة التطرف لايمكن أن تنجح بالقوة فقط بل بوسائل مختلفة .. وعندما يكون التطرف إشتغالاً في مجال الأفكار لابد من مواجهته بوسائل النقد والحوار النقدي.. اما عندما يتحول الى إرهاب دموي فلا يكون هناك امامنا من طريق آخر للتعامل معه سوى طريق إخضاع الجريمة ألإرهابية ومرتكبيها الذين أفرزتهم ثقافة التطرف للقوة المشروعة.. أي قوة الدستور والقانون . الثابت ان بلادنا اكتوت بنارالإرهاب المتستر بالدين شأنها في ذلك شأن بلدان عربية عديدة.. وقد ارتبطت ظاهرة الإرهاب بنوع مدمر من العنف الديني والسياسي المنظم، وأخذت مداها عبر فتاوى فاشية تجيز سفك الدماء وقتل النفوس ونشر الرعب وتقويض أسس الدولة المدنية والمجتمع المدني، سواء تم ذلك من خلال ضرب وتفجير المصالح الأجنبية والمنشئات الوطنية ، أوغتيال المفكرين والمثقفين والتلويح بقوائم الموت .

من نافل القول ان الهدف الرئيسي لهذا الإرهاب الدموي هو إزاحة العقبات التي تحول دون قيام دولة دينية وإحياء السلطة الكهنوتية للإكليروس إستنادا ً الى فكرة " التفويض الإلهي " .. ومثل هذه الدولة لا يمكن ان تقوم الا ّ على تعصب رجال الدين وهم جماعة من البشر لتأويلهم الخاص للنصوص وفق مصالحهم الدنيوية , وقمع معارضيهم وتصفيتهم وإقامة ما يزعمون انه حكم الله فيهم من خلال محاكم تفتيش ميدانية كتلك التي شاعت في العصور الوسطى في أوروبا .

اننا لا نتعرض في اليمن لإرهاب مدمر فحسب .. بل لقمع متجسد في أفكار متعصبة تغذي منابع الإرهاب وتصنعه.. وحين تتحول هذه الأفكار المتعصبة الى جرائم إرهابية يرتكبها بعض الجهلة من ضحايا التعبئة الخاطئة التي يمارسها حرّاس هذه الأفكار ، ينهض القانون بوسائل سلطة الدولة لمواجهة الجريمة ومرتكبيها .. لكن ينبوع الجريمة لا يتوقف عن إعداد المزيد من المجرمين ، والتمهيد لجرائم إرهابية جديدة .

والحال ان سلطة الدولة لا تكون فاعلة خارج هذا السياق.. فهي لا تنفع لمواجهة سلطة الثقافة القائمة على التعصب والتطرف ، الأمر الذي يستوجب نقد هذه الثقافة وتفكيكها، وهي عملية لا بد ان تتم بالأدوات الفكرية على أساس من المباشرة والعلنية والوضوح وعدم المداهنة .

تهدف هذه العملية الى تفكيك العلاقة بين التعصب والقمع .. وفي تقديري ان العلاقة بينهما هي العلاقة بين السبب والنتيجة ، فالتعصب يولّد القمع ، والقمع يبقى مغلقا ًفي مدار التعصب .. وأخطر ما في هذه العلاقة هو قيامها على نهج إتباعي نقلي لثقافة تلح وتصر على ضرورة الإجماع وترفض الإختلاف ولا تعترف بالتنوع والتعدد والمغايرة ، وتقرن الدخول الى الفرقة الناجية بالخضوع المطلق لما تؤمن به الجماعة وتتعصب له .

هكذا نكون امام جرائم دموية ناتجة عن ثقافة قمعية ومتطرفة لا تعترف بالمغايرة أو الحوار او الخروج على ما يُسمّى " إجماع جمهور العلماء " وهو إجماع لا يحتمله العقل ، ولم يتحقق ولن يتحقق عبر التاريخ !!

وبالنظر الى الأضرار السياسية والإقتصادية والأمنية والبيئية التي ألحقها الإرهاب ببلادنا ، وما زالت تداعياتها وآثارها تفرض ظلالا ً ثقيلة على حاضر النظام السياسي الديمقراطي والإقتصاد الوطني والسلم الإجتماعي ، وعلى علاقات اليمن بمحيطه الإقليمي والعالمي ، أصبحت مواجهة هذا الخطر مهمة وطنية تستلزم مواجهة ً شاملة ً من قبل الدولة والمجتمع ، بعيدا ً عن المكايدات السياسية والحسابات الضيقة .

صحيح ان ثمة تجاذبات حزبية وسياسية أحاطت بطرق تناول خطر ثقافة العنف على وعي وسلوك المنفعلين بهذه الثقافة التي تجسدت في أشكال مختلفة من التعبئة الخاطئة لضحاياها ، بيد ان هذه الثقافة المشوهة لاتنحصر فقط في الخطاب السياسي الذي تورِّط فيه بعض رجال الدين والدعاة المشتغلين في الحقل السياسي ، إذ ْ ان هؤلاء يمارسون نشاطا ًسياسيا ً وحزبيا بإمتياز ، رغم محاولة التماهي مع مشروعية دينية ولا تحظى بإجماع كافة قوى المجتمع المدني ، خصوصا ًوإن الضالعين في توظيف الدين لأغراض سياسية بحتة ، يمارسونه من خلال أطر حزبية في ظل نظام ديمقراطي تعددي ، يتيح لكافة قوى المجتمع السياسية وفاعلياته الفكرية والثقافية فرص التمتع بكافة الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية التي يكفلها الدستور للمواطنين ، وفي مقدمتها حرية الصحافة والحق في تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ، وإستخدام الآليات الديمقراطية للتعبير عن أفكارهم وبرامجهم السياسية ، وتداول السلطة او المشاركة فيها سلميا ً من خلال الإنتخابات المباشرة والحرة التي تشارك فيها الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية والمواطنون والمواطنات عموما ً .

ولمّا كان قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية يمنع قيام أي حزب او تنظيم سياسي على أساس الإدعاء بإحتكار تمثيل الدين أو الأمة أو الوطن ، إنطلاقا ًمن حرص المُشرَّع على سلامة الممارسة الديمقراطية ، ومراكمة المزيد من التقاليد والخبرات التي تصون مرجعية الأمة كمصدر للسلطة ، فإن أي إدعاء بإحتكار تمثيل الدين أو إستخدامه لممارسة وصاية غير مشروعة على الدولة والمجتمع ، يعد تجاوزا ً خطيرا ً للدستور الذي ينظم قواعد الممارسة السياسية ، وإنتهاكا ً خطيرا ًلمبادئ الديمقراطية وقيمها ، الأمر الذي يلحق ضررا ً بالأسس الدستورية للنظام السياسي القائم في البلاد ، ويفسح الطريق لزعزعة الوحدة الوطنية والسلم الإجتماعي والأمن والإستقرار .

ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط تطورها اللاحق ، عبر تراكم خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الإستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات إستبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم بإحتكار الحقيقة ، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه ، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع إستبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية ، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال إستخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والإنفراد .

لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية ، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الإستبداد والإقصاء والإلغاء والإنفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب .

بوسعنا القول أن ثقافة الإستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية إمتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي إشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيا ، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم وإستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها .

ولمّا كانت الآيديولوجيا سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو إشتراكي تنزع دائما ً الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْ تزعم بإحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تُعطَّل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل ، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد للموضوعية والعجز عن معرفة الواقع وإكتشاف الحقيقة !!

من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية وبدون إستثناء توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة إستبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التترس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة المتتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفة (( المرتدة )) فرصة التترس .. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن (( العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !!

لم يعد الإعلان عن قبول الديمقراطية والتغيير كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية،ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد ، والتوقف عن الهروب من الإعتراف بالأخطاء ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعا ً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي ، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات العصر والحضارة ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية .

يقينا ًأن ثقافة العنف والتعصب لاتنحصر في طرف سياسي بعينه أوطبعة محددة من طبعات الآيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا، بل تتجاوز ذلك بالنظر الى مفاعيلها المتنوعة في البيئة الفكرية والثقافية والتعليمية والإجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تحصى ، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في إنتشار وإستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الخصوصية !!

تأسيسا ًعلى ما تقدم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة الإرهاب والتطرف من شأنه أن يفسح الطريق لبناء إصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق ، وصياغة إستراتيجية وطنية شاملة لتجفيف منابعه ، وصولا ًالى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والإقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والإعلام على طريق الخروج من فجوة التخلف والإنقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب .

تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 02:52 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-24776.htm