نصر طه مصطفى -
حسنا فعل الزميل والصديق الأستاذ إسكندر الأصبحي عندما تطرق لموضوع (المواطنة) في مقالته الجميلة قبل أسبوعين في هذه الجريدة الغراء مدشنا بذلك ملفا من أهم وأخطر الملفات المرشحة لأن تشكل بمجموعها واحدة من أهم الوثائق الفكرية والسياسية إذا كانت التناولات جادة ومشبعة بالروح الوطنية بما فيه الكفاية بعيدا عن الحسابات الضيقة والصغيرة أيا كانت.
فالمواطنة بمفهومها الشامل كانت الهدف الأساسي لنضال الآباء من الوطنيين الأحرار ليس فقط منذ أوائل القرن السابق بل منذ ظهور أول حركة تحرر من ظلم وجور الأئمة قبل مئات السنين ، حتى تكللت جهود تلك الأجيال المتعاقبة من المناضلين باندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة وقيام النظام الجمهوري كخطوة أولى على طريق تجسيد مفهوم (المواطنة) ومتطلباتها وقيمها سواء من حيث ما تقتضيه من ولاء للوطن بعيدا عن مفهومات الولاءات الضيقة بكل أنواعها وصورها ... أو من حيث جوهرها كمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات بين كل أبناء الشعب الواحد ، وهذا بلاشك كان أحد أعظم إنجازات الجمهورية ونظامها الوطني الذي أعاد الاعتبار للمواطن اليمني ولكرامته التي أهدرها الأئمة ، والذي أعاد الاعتبار لجوهر الإسلام وقيمه التي أهدرها الأئمة بعنصريتهم وطائفيتهم ، والذي أعاد الاعتبار للمجتمع اليمني بأكمله ولوحدته الوطنية وتماسكه وألفة أبنائه.
اليوم ونحن نستعد لاستقبال العيد الخامس والأربعين للثورة اليمنية المباركة في هذا العام نستغرب أن نجد بين صفوفنا من يريد أن يخدش مبدأ (المواطنة) بحجج ودعاوى سخيفة وآفاق ضيقة ... البعض من هؤلاء يعلم تماما ماذا يريد ولا تخلو نواياه من مقاصد سيئة لأنه اعتاد أن يعيش في أجواء الفتن ويعلم بلاشك أن تدمير مفهوم المواطنة هو أعظم أبواب الفتن وأشدها فتكا ... البعض الآخر من هؤلاء لا يعلم خطورة ما يفعله – كما نظن ذلك – فهو يندفع لغرض تحقيق مكاسب سياسية حزبية أو مناطقية دون أن يعي فداحة الثمن الذي يطلبه مقابل هذه المكاسب المحدودة ... والأكيد أن واجب الدولة هنا أن تأخذ بأيدي هؤلاء فتمنعهم عن ظلم أنفسهم وظلم وطنهم وظلم الشعب الذي ضحى كثيرا من أجل الاستقرار والمساواة والحرية ، والأخذ بأيدي هؤلاء ومنعهم عن الظلم لا يقتصر على أسلوب واحد فهو يبدأ بالحوار ودعوتهم بالتي هي أحسن استخدام كل الوسائل والأساليب العلاجية العادية ، على أن يكون الكي والجراحة آخر المعالجات المستخدمة مع كل من يريد تدمير الوحدة الوطنية أعظم إنجازات الثورة وأنبل مقاصد المواطنة وعنوان استمرارها ورسوخها.
من باب التأكيد على المؤكد أقول أنه بمجرد انتهاء الحرب التي شنها الإماميون طوال سبع سنوات على الجمهورية فقد شرع النظام الجمهوري بالعمل على ترسيخ وتأصيل وتجذير مبدأ المواطنة نظريا وعمليا من خلال المضي في إنجاز المناهج الدراسية والأحكام الشرعية انطلاقا من رؤية اجتهادية متقدمة كان اليمن أول من أنجزها على الصعيد العربي والإسلامي ... هذه الرؤية الاجتهادية القائمة على فكرة الأخذ بالدليل الأرجح من المذاهب الإسلامية المعتبرة – بما فيها المذهبين الشافعي والهادوي الشائعين في اليمن – قصدت إلى إنهاء العصبية المذهبية التي انبثقت منها بقية العصبيات المناطقية والقبلية والسلالية ، ولم تقصد حقيقة حتى إلى إلغاء المذاهب فهذا أمر يعلم الجميع استحالته كونها تراث يمتد عمره لمئات السنين ، إلا أنها أخذت في الاعتبار أن هذه المذاهب كتراث تعتبر وسيلة تعين على الاسترشاد إلى الرأي الأصح والأصوب ... ومع تطبيق هذه المنهجية في مناهج التربية الإسلامية وفي تقنين أحكام الشريعة نشأت أجيال لا تعرف إلا أنها أجيال يمنية مسلمة متساوية المواطنة ولاؤها لله ولليمن الكبير العظيم ، حيث ذابت مع السنين تلك العصبيات البليدة التي لم يعرف شعبنا معها وفي ظلها إلا الخراب والدمار والشقاق والتمزق!
ورغم المتغيرات التي حدثت منذ قيام الجمهورية اليمنية في 22مايو 1990م من حيث الاستفادة من أجواء التعددية السياسية والحزبية في الانجرار نحو استحداث أنواع مختلفة من التعليم الفقهي المذهبي ، إلا أنه – رغم تعارضه مع منهجية الأخذ بالدليل الأرجح – ظل محدود التأثير ، ولم يثبت على أي من الذين تبنوا هذه المدارس الفقهية المذهبية أي نزوع للعنف حتى عام 2004م عندما تفجرت المواجهة الأولى في صعده مع حسين بدرالدين الحوثي وأنصاره من أعضاء تنظيم (الشباب المؤمن) والتي لازالت أذيالها قائمة حتى الآن ونرجو الله تعالى أن يحسمها أبطالنا في الجيش والأمن بأسرع وقت ممكن ... فقد أعاد هذا التنظيم البائس إلى الذاكرة العامة شيئا من مخلفات الفكرة الإمامية الأكثر بؤسا بكل مخرجاتها سيئة الذكر من عصبية عنصرية ومذهبية ومناطقية المتصادمة مباشرة مع مبدأ (المواطنة) ، وأكدت أعمال العنف التي مارسها هذا التنظيم أن العنف هو المرادف الطبيعي والنتاج التلقائي لكل الأفكار والمبادئ ضيقة الأفق عصبية المنطلقات ، فلا خير يمكن أن يأتي منها على الإطلاق لا على الوطن ولا على المجتمع ولا حتى على أتباعها!
إن خلاصة الفكرة الإمامية التي يريد هؤلاء إحياءها تتصادم مباشرة مع مبدأ المواطنة (بما هي ولاء للوطن وبما هي مساواة) ، وفي الحقيقة فإن ما جرى في صعده هو أول تحد حقيقي للنظام الجمهوري في هذا المجال منذ مصالحة 1970م ليس لأنه يهدده بالسقوط فهذا أبعد على الإماميين من عين الشمس كما يقال ، ولكن لأن إحياء الفكرة من جديد بتلك الجرأة والصفاقة هو أمر يهدد الوحدة الوطنية على المدى البعيد ، والسكوت عنه سيحيي أفكارا أخرى ربما ليست بنفس القدر من السوء لكنها بنفس القدر من الخطورة على السلم والاندماج الاجتماعيين ... وأتصور أنه لابد من استحضار تجربة السبعينيات والثمانينيات فيما يخص المعالجة الموضوعية الهادئة الناضجة للأمراض الاجتماعية التي خلفتها عصور الإمامة ، الأمر الذي يمكنه أن يساعد الحكومة في وضع رؤية استراتيجية لمعالجة وطنية شاملة – بعد انتهاء فتنة صعده – لقضايا التعليم المذهبي وكيفية ترشيدها وتوجيهها بما يعمق الوحدة الوطنية ويعزز مبدأ المواطنة ويحفظ الأجيال اليمنية القادمة من فتن العصبيات بمختلف أشكالها وألوانها ... وكفانا بما جرى حتى الآن عظة وعبرة!