الثلاثاء, 31-يناير-2012
الميثاق نت -  محمد علي عناش -
توصف حركة النهضة الاسلامية في تونس بزعامة راشد الغنوشي بأنها من أنضج الحركات الاسلامية في الوطن العربي وأكثرها انفتاحاً ووسطية، كما تعتبر حالة متقدمة على حركة الاخوان المسلمين التي مازالت محل توجس وريبة من قبل مختلف الاطراف في الداخل والخارج، وتمثل هاجساً مقلقاً ومثيراً للمخاوف على الحياة السياسية والتحولات الديمقراطية واحترام الحريات وحقوق الانسان، ومبدأ التداول السلمي للسلطة من الانتكاسة والتراجع وتعثرها مستقبلاً، خاصة بعد اكتساح الاخوان المسلمين وحزب النور السلفي في الانتخابات التشريعية في مصر بثلثي مقاعد البرلمان، وفي ظل سيطرة الاخوان على التحولات الثورية والسياسية في سوريا واليمن وغيرها من البلدان العربية.. مبعث هذه المخاوف هو ضبابية المشهد الثوري العربي الذي لم يعبر حتى الآن عن حالة ثورية تقدمية حداثية، وإنما عن حالة يتسيدها التطرف والاتجاهات العشائرية والطائفية، وكون حركة الاخوان المسلمين مازالت مثقلة بإرث تاريخي متعلق بالعنف الديني والارهاب الفكري والسياسي الذي يشغل حيزاً كبيراً من تاريخها لم تعمل الحركة على تسويته والتخلص منه بمختلف الأدوات السياسية والفكرية والتنظيمية.. فظاهرة الارهاب من منطلق ديني قد تأسست وتخلقت مبكراً في المنطقة العربية منذ الستينيات من قبل تنظيمات وجماعات دينية إرهابية ومتطرفة خرجت جميعها من حاضنة الاخوان كالقطبيين - تنظيم الجهاد - الهجرة والتكفير، واكثر من عشرين فصيلاً مارس العنف وانتهج التطرف والتكفير والتشدد الديني، متأثرة بشكل كبير بآراء وأفكار سيد قطب خاصة في كتابه «معالم في الطريق» الذي مايزال يُعتبر من أهم المراجع والأدبيات الفكرية للاخوان وأكثرها تداولاً وتدريساً في المستويات التنظيمية الدنيا والوسطى.
كما أن مواقف الاخوان تجاه الدولة المدنية وملامح مرحلة ما بعد الثورات العربية مازال يكتنفها الغموض والضبابية واللاواقعية.. في ظل هشاشة وضعف القوى والاحزاب الليبرالية واليسارية خاصة في مصر، مقابل الحضور الطاغي للاخوان والسلفيين، فثورة الربيع العربي في هذا البلد الذي يعتبر مركز التحولات العربية، لم يتمخض عنها تيار مدني حداثي قوي، بمعنى أن المعادلة السياسية مختلة والتوازن السياسي شبه مفقود حسب ما أظهرته نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في مصر، الأمر الذي يعزز اكثر هذه المخاوف على مستقبل الديمقراطية والحريات السياسية والمدنية وايضاً على الأمن والاستقرار والتعايش السلمي في مصر.
لاعتبارات عدة تُعتبر حركة النهضة الإسلامية في تونس حالة متقدمة على حركة الاخوان المسلمين، فحركة النهضة لا تمت بصلة لسيد قطب وإنما للمفكر الاسلامي الكبير مالك بن نبي، هي امتداد لمدرسة الطهطاوي ومحمد إقبال ورواد حركة الاصلاح الديني، والأهم أنها ابنة جامعة الزيتونة بمنهجها الوسطي وتوجهها التعليمي والتربوي الذي يحترم العقل والعقلانية ويحترم حرية التفكير والتنظيم وإرادة التعدد والتنوع والتعايش السلمي.. هذه المبادئ إذا تخلت عنها الحركة كما يحاول بعض رموزها وأجنحتها سندرك أنها قد بدأت تميل نحو «معالم في الطريق» ونحو أبي الأعلى المودودي والقرضاوي وغنيم.. لكن المرجح أن هذه المبادئ والقيم سوف ترسخ أكثر في ظل التوازن السياسي الموجود في الحالة التونسية، فالحضور الشعبي الكبير لحركة النهضة يقابله حضور قوي للأحزاب والتيارات الليبرالية واليسارية والثقافية التقدمية، لتغدو العقلانية هي السائدة لدى الجميع كمنهج في التفكير والعلاقات وأداة مهمة للتحولات في المجتمع.
إذاً العقلانية ضرورية، والتوازن السياسي مطلوب كي تتسارع خطى التحولات الديمقراطية والاجتماعية، وتتسارع وتيرة بناء المجتمع المدني الذي يحول دون عودة الاستبداد بأي شكل من أشكاله، ويحمي المجتمعات العربية من الانقسامات والصراعات التي تهددها على أسس طائفية ومذهبية ودينية والتي لا يمكن ان تكون بدائل إيجابية للحاكم المستبد، ولا يمكن ان تكون أدوات ثورية منطقية للتغيير واسقاط الحاكم، وهذه مسلَّمات منطقية يجب أن لا نستبعدها أو نتجاهلها عندما نقدم على فعل التغيير.. هذه هي الموضوعية والعقلانية التي يجب أن تسود في تفكيرنا وقراراتنا وقراءاتنا المستقبلية.
في خضم المشهد الثوري العربي الذي تجلت في معظم جوانبه حالة اللاعقلانية بوضوح، كمنهج اخواني عتيق في إدارة الأزمات وإنتاجها.. الحالة اليمنية كانت هي الأسوأ والأكثر تعقيداً وبإجماع دولي وبتقييم مختلف المنظمات والخبراء السياسيين باستثناء «قناة الجزيرة» وطابورها الطويل من الاعلاميين والمزاجيين، فقد تمكنت طوال هذا المشهد من تدمير المعيارية في التحليل وبناء الأحكام وتدمير أسس التفكير العقلاني والمنطقي لدى جيل عربي كامل، لتعمم حالةً من اللاعقلانية في الحوار وفي التفكير والسلوك واتخاذ القرارات وتبني المواقف، ولتكرس نمطاً من الجدل العقيم الشبيه بالجدل البيزنطي السفسطائي الذي لا يقود الى نتائج منطقية وإيجابية، لذا كانت الضبابية وعدم الوضوح هي عنوان المشهد، وهي من مكنت انتهازيي الثورات أن يتسللوا الى الساحات، وأن يتلاعبوا بالمواقف وينحرفوا بالثورات وحركات التغيير عن مسارها الطبيعي، الى مسارات تحقيق المصالح والطموحات الشخصية والحزبية..
نعم الحالة اليمنية كانت هي الاسوأ واستمرت بسوئها طوال عشرة أشهر الى أن صار المستهدف بالإسقاط هو الوطن لا سواه، هل يعرف الجميع لماذا؟
ببساطة، لأن ساحات شباب الثورة امتلأت ايضاً بقوى التخلف والتطرف، بالفاسد والسياسي الانتهازي والمثقف النفعي ورجل الاعمال المحتكر والمتهرب، وتجار الحروب والسلاح، والقاعديين والانفصاليين، الجميع صاروا قوى ثورية في قلب الحدث، وصارت القبيلة والمنطقة والطائفة والمذهب والكيد السياسي والتضليل الاعلامي وضرب أبراج الكهرباء صارت أدوات ثورية رئيسية.. الجميع أقروا بشرعيتها وباركوها حتى الشباب أنفسهم باركوها، لأنهم منذ البداية احتسوا جرعات زائدة عن حدها من جرع الحسم الثوري لم يفيقوا منها حتى الآن، جعلتهم غير مدركين ومستوعبين حقيقة ماجرى في الحصبة وأرحب ومأرب وتعز، وغير قادرين على أن يوجهوا جزءاً يسيراً من ثوريتهم صوب من يعتقل الشباب في الساحات ويعتدي عليهم بالهراوات وأعقاب البنادق، وصوب الفاسدين من عجت بهم الساحات، ليكون الرد العملي والمنطقي المفترض من قبلهم تجاه هذا الوضع الثوري، هو إعادة تقييم الفعل الثوري وإعادة صياغة أدواته واصطفافاته وخطابه.. إذاً هي اللاعقلانية هي التي سادت، عمل الاخوان على تعميمها وتكريسها، ومحاصرة الأزمة بأجواء مضطربة حتى لا يصل الجميع الى نقطة التقاء حقيقية وفقاً لما تفرضه طبيعة الواقع اليمني، وتحويلها الى الحظة ثورية حقيقية وبإرادة وطنية جمعية، لأن الاخوان وبقواهم المتعددة لم يكونوا يريدوا أن يصلوا الى السلطة فقط بل وأيضاً القضاء على التوازن السياسي في الساحة اليمنية مستقبلاً من خلال اجتثاث المؤتمر الشعبي العام وبمختلف الوسائل والأدوات، مستغلين في ذلك الكثير من الثغرات وجوانب الخلل المختلفة التي يعاني منها المؤتمر..
اللاعقلانية التي ينتهجها ويكرسها الاصلاح مصدرها تركيبته غير الطبيعية، شكلت له خللاً بنيوياً في العمق جعلته غير قادر على أن يبدو في حالة حزبية وسياسية سوية..
فهو مذهبي التوجه مثير للنعرات الطائفية والمذهبية، ويخوض مواجهات مسلحة مع الحوثيين انطلاقاً من هذا الاساس في الجوف وكتاف ودماج حتى في حجة التي أزعجته بهدوئها وسلمها وميولها المدني الفطري، وهو متطرف يشن حملة إعلامية ومنبرية تكفيرية ضد الإعلامية والقاصة المشهورة بشرى المقطري والكاتبة منى صفوان، وهو موقف ثابت لديه ومتأصل في توجهاته ومواقفه تجاه قوى التنوير والحداثة منذ السبعينيات حتى اليوم.. وهو ينتمي للقبيلة أكثر حتى وهي تتمرد ضد الدولة وتقطع الطرقات وتضرب أبراج الكهرباء وتنهب المنشآت..
وأحياناً يبدو قاعدياً، كما تجلى مع ابن رئيس المكتب التنفيذي للاصلاح بمحافظة مأرب والذي وجد مقتولاً مع جثث مسلحي القاعدة في زنجبار، وتجلى أيضاً في «أن من بين جثث عناصر القاعدة التي تم انتشالها من حطام مبنى إدارة أمن مودية جثة (الكدر) وهو شخصية معروفة في مودية وكان إمام وخطيب مسجد مودية وهو من قيادات التجمع اليمني للاصلاح، واتضح بعد مقتله أنه أمير المال لتنظيم القاعدة في مديرية مودية».. صحيفة الشارع العدد (203) 6 أغسطس 2011م..
وهو مع الدولة المدنية وضدها في نفس الوقت، ومع المبادرة الخليجية ويعمل ضدها ويعيق خطوات وأدوات تنفيذها، لأن المبادرة الخليجية كانت هي المخرج للأزمة وتجاوز حالة الضبابية وعدم الوضوح، وجسدت حالة عودة العقلانية والموضوعية الى الطاولة، بعد أن تم محاصرة وتطويق كل الحلول والتسويات بسياج لا عقلاني ولا منطقي وبمستويات متعددة، منذ مبادرة الملعب في مارس 2011م والتي تضمنت «النظام البرلماني- القائمة النسبية - نظام الأقاليم» وتشكيل حكومة إنقاذ وطنية، وتحديد سقف زمني للانتقال السلمي الآمن للسلطة، حينها تجلت حالة اللاعقلانية عندما رُفضت هذه المبادرة على الفور، دونما أسباب منطقية تُذكر، ودون أن تخضع للدراسة والتقييم، أوحتى طلب توسيط طرف ثالث لمعرفة جديتها ومن ثم ضمان تنفيذها..
باسندوة عندما وجد أنه حتى المبادرة الخليجية تتعرض للإجهاض والتسويف والمماطلة في التنفيذ، لم يجد أبلغ ما يعبر به عن موقفه مما تتعرض له المبادرة من رفض ومن تداعياتها الوطنية الكارثية، إلا أن يجهش بالبكاء أمام أعضاء مجلس النواب، في لحظة مكاشفة عقلانية واستشعار منطقي متأخر جداً، بحجم المشاكل والمخاطر الوطنية، بعد عشرة أشهر من التعامل الفج وغير المنطقي مع قضايا الوطن، ومن تغييب للحقائق، ومن المواقف التي بدت أنها ثأرية أكثر منها وطنية.. اللاعقلانية والمزاجية المفرطة أدركتها واستوعبتها تماماً، وأنا أتصفح صحيفة «الجمهورية» الرسمية وما طرأ على خطابها من تغير جذري بحيث أصبحت لاتعبّر إلا عن طرف واحد لا فرق بينها وبين المصدر أو الناس، رغم أنها صحيفة رسمية، وأننا في لحظة وفاق وطني، حينها أدركت أن المهنية في خطر، ورأيت مستقبل الحرية والديمقراطية ماثلاً أمامي، مثلما أنا مدرك أن المرتكزات المعنوية والوطنية والنفسية لمبادرة مارس أقوى وأمتن من مرتكزات المبادرة الخليجية، وأراهن بقوة ويقين أن الاصلاح سوف يعمل وينشط ضد إقرار النظام البرلماني والقائمة النسبية، لأنه في الأساس لا يريد أن ينعش الحياة السياسية، ولا يريد توازناً سياسياً في البلد، وهو ما يجب أن تستشعره وتعمل حسابه القوى الليبرالية والمدنية التي يجب أن تصطف لتشكل قوة ضاغطة لحماية المشروع الديمقراطي من التراجع، وحماية التحولات السياسية والمدنية والاجتماعية من التعثر والتوقف.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 03:13 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-24961.htm