عبدالرحمن مراد -
تمثل الانتخابات الرئاسية حدثاً ديمقراطياً شكلياً من حيث ملمحها العام لكنها ذات دلالة عميقة من حيث السياق النفسي والثقافي والاجتماعي لأنها في مضمونها العام تؤصل لقيم جديدة ومبادئ انتقالية واعية، وبها ومن خلالها يشرعن الشعب لسلطته ويتمكن خلالها من استعادة وعيه بذاته ووعيه بقدراته في صناعة التحولات بعيداً عن مراكز القوى التي ظلت تهيمن ردحاً من الزمن على خياراته وتطلعاته وتفسد- ما أمكنها- آماله ومستقبله.
وعلينا ان ندرك تمام الإدراك اننا أمام لحظة تاريخية فارقة في حياة هذا الوطن وصل بها التوازن الى طريقين لا ثالث لهما.. طريق يؤسس لمستقبل آمن ومزدهر، وآخر يحاول ان يجد له مكاناً ليفسد علينا مستقبلنا ويعيد إنتاج نفسه بكل مآسيه وطغيانه واستبداده ولن يقف مكتوف الايدي لانه سيحاول زراعة الألغام في طريقنا حتى لانصل الى شاطئ الحياة.. ذلك ان تجار الموت يتربصون بنا الدوائر، وينسجون المؤامرات ويعتقدون ان ذلك واجب ديني وأمر إلهي، وهم في ذلك يقعون في سوء التأويل وتحت طغيان افكار زائفة ليست من الدين في شيء.. ولعلهم في ذلك يلتقون مع قوى تشعر بالخوف من المستقبل وقد تتضافر تلك الامكانات تحت شعارات غوغائية ومضللة لتعمل على زعزعة الاستقرار واغراق سفينة الحياة بأمواج المصالح الذاتية، وهو الأمر الذي نأمل أن نتجاوزه بحكمة وروية وصبر ومثابرة واصرار على الخروج من عنق الزجاجة الذي كاد أن يخنق ارادة الحياة فينا.
فالذين يظنون ان مشكلة الوطن لا تتجاوز «الجنوب» و«صعدة» و«القاعدة»، يتجاوزون حقائق الواقع ومعطياته، ذلك ان الجنوب وصعدة والقاعدة ابرز مظاهر الازمة الوطنية، ولن تكون كلها مطلقاً، والقضية الوطنية قضية تاريخية ولن يحدث انفراج فيها إلا بالحوار والعدل والتسامح والمصالحة مع ذلك التاريخ الممتد فينا وفي ذاكرتنا الجمعية.
فالذين ظُلموا لابد ان تنتصر لهم هذه اللحظة الوطنية الفارقة، والذين طحنتهم عجلة الصراع السياسي يتوجب علينا ان نجبر كسرهم، لابد من بلسم شافٍ لكل جراح الماضي، وعلينا ان ندرك ان قيم الخير والحق والعدل والحرية الملاذ القادر على صناعة الحياة الآمنة والمستقرة، وبدون تلك القيم لن تكون الحياة إلا اشتغالاً فائضاً عن حاجة هذا الوطن الذي عاش أزمنة متوالية من الحقد والخوف والكراهية والصراع الدامي، وقد تهيأت له المناخات الملائمة كي يتجاوز خوفه وحقده ويضع مكانهما الأمن والسلام والحب كقيم بديلة تحترم الآخر وتحترم خياراته وتدافعها فيه تدافع حق وحقيقة ومنطق وعقل، لانيران عدوة أو صديقة.
ثمة رأي يصدمك الآن وأنت تنساب في وسط الناس يرى في العملية الانتخابية ترفاً اجتماعياً وسياسياً وعبئاً اقتصادياً.. والحقيقة التي لايدركها اولئك أن الاستحقاق الدستوري ضرورة تفرضها حركة الحياة وضرورات المستقبل والمشاركة فيها صناعة واعية لمستقبل هذا الوطن الذي أثخنته الجراح وأودى به الصراع الى مهاوي الانزلاق والتطرف، وعاث فيه الفساد حتى كاد ان يخنق عنق الحياة فيه.. لذلك فالمشاركة التزام اخلاقي أمام سلطة شعبية أنت من يملكها وثورة حقيقية في المحك العام أنت من يصنعها، ولن تكون ترفاً أبداً لان الترف الحقيقي هو ذلك التماهي العجيب في فوضى اللاالتزام وفي التحلل القيمي وفي التعامل اللامسئول مع الحياة.. وينبغي على اولئك الذين دأبوا طوال عام من الزمان على رفع السبابة والوسطى ان يدركوا ان الثورة الحقيقية تبدأ من العمق النفسي للأنا ومن قدرتها على إحداث المتغير الثقافي والقيمي والاخلاقي، فجوهر الثورة لن يكون شكلاً خالياً من المضمون الحقيقي والجوهري الذي يملأ كل الفراغات التي تركتها الازمنة، لذلك فقد اصبح من الضرورة القول ان التعامل مع مفردات اللحظة يجب ان يكون بقيم ومبادئ المستقبل وبروح التعايش وقبول الآخر، ولايمكن ان تستمر الحياة بتلك الروح التي مانزال نشاهدها في مظاهر الحقد والاقصاء والاستبداد ومصادرة حرية الآخر في التعبير عن موقفه ولو كان مناهضاً، لانه ليس من المنطق ان نشكو شيئاً وننهى عنه ثم نأتي مثله بل وأسوأ منه.. ما ندعو اليه ونؤكد عليه هو ان يكون الانتقال الى المستقبل بقيم المستقبل نفسه، فاجترار الماضي لايكون إلا تكراراً له وحينها لن نصل الى شيء ذي بال يمكننا التعويل عليه.
دعونا نصنع غداً أجمل وواقعاً أكثر ترجمةً لطموحات الإنسان لننظر أبداً الى الغد ولنترك الماضي في ذاكرة التاريخ.. والانتخابات هي الباب الذي نلج منه الى اليمن الجديد.. فاجعلوها نقطة عبور آمن لا بداية نكوص.