عبــــده محمد الجندي -
لاشك أن التعامل مع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية بموضوعية يحتاج- بعد أن شكلت حكومة الوفاق الوطني واللجنة العسكرية وانتخب رئيس الجمهورية- إلى تقديم الأهم قبل المهم في تحديد الأولويات كبديل عقلاني للرغبات الانتقائية التي تظهر غير ما تبطن، غايتها الحصول بأسرع وقت على أكبر قدر من المكاسب التي تمكنها من السيطرة المتفردة على حقائق القوة وإقصاء الآخرين بأساليب شمولية وغير ديمقراطية..
لأن الموضوعية تقتضي الشروع في إزالة التوترات السياسية والأمنية من خلال رفع الاعتصامات والمسيرات والمظاهرات من الشوارع مروراً بتوحيد القوات المسلحة والأمن وإعادة الجيش إلى ثكناته العسكرية واخراج المسلحين من المدن وإعادتهم إلى مناطقهم وتجمعاتهم القبلية والشروع الفوري في انتهاج سياسة إعلامية هادئة وغير مستفزة تساعد على تحرك الاستثمار والشروع في التنمية الاقتصادية وإعادة تعمير ما خلفته الأزمة من اضرار كارثية ومعاناة معيشية..
أقول ذلك وأقصد به أن إعادة الأمن والاستقرار والهدوء إلى طبيعته السابقة يفتح الأجواء الهادئة للدخول في الحوار الوطني الشامل ومشاركة جميع القوى السياسية الموقعة وغير الموقعة على المبادرة الخليجية والرافضين لها وغير الممثلة في حكومة الوفاق الوطني التي قاطعت الانتخابات الرئاسية، لاسيما ونحن بحاجة إلى الاستفادة من وجهة نظرها في الاتفاق على نوعية النظام السياسي والنظام الانتخابي وفي قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية وهيكلة القوات المسلحة وغيرها من التدابير والتعديلات الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات ومصادر التشريع ذات الصلة بمرحلة ما بعد الفترة الانتقالية التي ستشهد الانتخابات التنافسية البرلمانية والرئاسية وما سينتج عن ذلك من إعادة الحياة إلى الشرعية الدستورية القائمة على تعدد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتنافسها لوقف فساد السلطة بالسلطة في ظل مؤسسة عسكرية تتحدد مهمتها في حماية السيادة والشرعية الدستورية شارك الجميع في هيكلتها وتحديد النظام الذي يحقق الفاعلية العسكرية ويرسخ الولاء الوطني.
نعم إننا بحاجة إلى الاتفاق على تحديد الأولويات الخاصة بتطبيق ما تبقى من بنود المبادرة الخليجية من خلال الالتزام بمنهج تقديم الأهم قبل المهم بدلاً مما هو سائد من فوضى انتقائية تعكس رغباتنا الذاتية غير الديمقراطية في الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من المواقع القيادية وفق منهج إقصاء وتغيير الاشخاص الذين لا يتفقون معنا باستبدالهم بأشخاص ينتمون إلى ما لدينا من أحزاب وتحالفات سياسية بصورة لا تتفق مع وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب قد لا تؤدي إلى تحقيق ما نصت عليه التسوية السياسية من رغبة موضوعية في حوار سياسي مفتوح على الجميع، غايته الاتفاق الديمقراطي على ما نحتاجه من دولة مدنية حديثة قادرة على تحقيق المواطنة المتساوية وسيادة القانون ذات النظام السياسي والنظام الانتخابي الديمقراطي والمصالحة الوطنية بصورة لا تتمكن فيها الأحزاب والأفراد من تكرار الأزمات السياسية التي تؤدي إلى الصراعات والحروب الأهلية لأن التوترات السياسية قد تكون ناتجة عن الغرق في ثأرات الماضي وقد تكون ناتجة عن اختلافات حزبية حول شكل النظام، وهل هو نظام رئاسي أو نظام برلماني أو نظام مختلط يأخذ بأفضل ما في النظامين الرئاسي والبرلماني.. وقد تكون التوترات السياسية ناتجة عن اختلاف على النظام الانتخابي، وهل هو نظام يقوم على نظام الفائز الأول، أو يقوم على نظام القائمة النسبية أو هو نظام مختلط يأخذ بأفضل ما في النظامين الفائز الأول والقائمة النسبية.. إلى غير ذلك من الأنظمة الأخرى السياسية والانتخابية المتعددة والمتنوعة في جميع البلدان الديمقراطية..
إخلاء المعتصمين أولاً
أقول ذلك وأقصد به أن مؤتمر الحوار الوطني الهادف إلى احلال الاتفاق محل الاختلاف بين شركاء الحياة السياسية الممثلة بحكومة الوفاق الوطني والمشاركة في انتخاب رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة يحتاج أولاً وأخيراً إلى رفع الاعتصامات والمسيرات والمظاهرات والحوار في أجواء هادئة وخالية من الاثارة الناتجة عن القلق الإعلامي والدعائي.. كما أن إزالة التوترات الأمنية تحتاج إلى وحدة القوات المسلحة والأمن وإعادة العسكريين إلى ثكناتهم والمسلحين القبليين المتمترسين في المدن إلى مناطقهم باعتباره المدخل الصائب والصحيح لإزالة الحواجز والنقاط والمتاريس العسكرية والقبلية التي اضعفت هيبة الدولة واسفرت عن سلسلة من الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتوترات العسكرية والأمنية بصورة أدت إلى سلسلة من المعاناة التي كدرت صفو الحياة المعيشية وما رافقها من تفشي المظاهر المسلحة واستفادة الحركات المتمردة التي يقودها الإرهابيون والانفصاليون والحوثيون المشدودون إلى ما لديهم من مشاريع صغيرة تتنافى مع المشروع الوطني الديمقراطي الكبير.. الذي يستمد مقوماته الحضارية من الثوابت الوطنية المتمثلة بالثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر والنظام الجمهوري والوحدة اليمنية والديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة وحرية الصحافة وحقوق الإنسان، ناهيك عن المنجزات التنموية القائمة على تعدد القطاعات الاقتصادية وتنافسها على قاعدة العدالة الاجتماعية مثل القطاع الخاص والقطاع العام وما بينهما من القطاع المختلط والتعاوني الدائمة التنافس والتطور والمؤسسات العسكرية والأمنية المعنية بحماية الشرعية الدستورية والسيادة الوطنية والقادرة على حماية المتحاورين من الإملاءات العسكرية والضغوط السياسية والاقتصادية بتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في أجواء خالية من كافة اشكال التوترات الباعثة على القلق و الخوف..
خطورة إلغاء الآخر
أعود فأقول إن الانتهاء من هذه المهام العاجلة أو الشروع فيها كمهام ملحة ذات الصلة بالبنية التحتية يفتح المجال للدخول في المهام الآجلة ذات الصلة بالحوار السياسي والتعديلات الدستورية والعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية وإعادة الهيكلة العسكرية والأمنية الموجبة لتوافر الحد الأدنى من الثقة المتبادلة بين اطراف العملية السياسية على قاعدة المساواة بين الجميع.. أما أن يحاول البعض تقديم المهم على الأهم في أجواء مليئة بالهواجس والشكوك وطاردة للاستثمارات الداخلية والخارجية فذلك أسلوب لا يتفق مع طبيعة الأشياء، نظراً لما ينطوي عليه من المخاوف التي يحاول فيها البعض أن يحقق ما في جعبته من الاطماع والإملاءات على نحو يمكنه من إقصاء الآخر والغائه من المشاركة السياسية يبدأ بما لديه من شركاء التوقيع على المبادرة الخليجية وينتهي إلى مصادرة حق الرافضين للمبادرة الخليجية وغير الموقعين عليها من الذين قادتهم مواقفهم إلى مقاطعة العملية الانتخابية الرئاسية المبكرة التي انحصرت في نطاق المؤتمر وحلفائه والمشترك وشركائه ومعهم الأغلبية الصامتة من المستقلين الذين صوتوا على الأمن والاستقرار وإزالة كافة التوترات السياسية والاقتصادية والأمنية وتجنيب البلد مغبة الصراعات والحروب الكارثية على الوطن والمواطن.
لقد آن الأوان أن نقول صادقين لشركاء الحياة السياسية والمشرفين على تطبيق المبادرة الخليجية من الأشقاء والأصدقاء: إن هناك مخاوف حقيقية تدل على عدم مصداقية البعض من شركاء الحياة السياسية وعدم استعدادهم لتقديم أي نوع من أنواع التنازلات السياسية مقابل ما حصلوا عليه من المكاسب الناتجة عن تنازلات البعض الآخر لأن الاستمرار في الانتقائىة السائدة التي يفرضها المشترك على المؤتمر سوف تؤدي إلى عواقب كارثية وخيمة تعيد الجميع إلى مربع البداية من خلال:
1- استمرار الاعتصامات والمسيرات والمظاهرات في جميع الساحات وتقديم ما تحتاجه من الرعاية المادية والمعنوية والحماية العسكرية من قبل الوحدات المنشقة.
2- من خلال سوء استخدام نفوذهم في الوزارات التي حصلوا عليها للاطاحة بالقيادات التنفيذية المدنية والعسكرية والأمنية من خلال ما تتخذه الساحات من القرارات المرتجلة والفوضوية تحت مبرر تحقيق أهداف الثورة المستمرة..
3- من خلال الحفاظ على ما يعتمل في القوات المسلحة من انشقاقات عسكرية وأمنية وتقوية ما لديهم من المليشيات الإسلامية والقبلية والحيلولة دون إعادة البلد إلى ما كان عليه من حياة آمنة وإضافة قوة الأمن العام إلى قوتهم.
4- من خلال استمرار الخطابات الإعلامية الحزبية والخطابات المثيرة والمحرضة على الفتنة ودفع ما لديهم من الشباب للمطالبة بمطالب تتنافى مع المبادرة الخليجية مثل المطالبة بمحاكمة رئيس الجمهورية السابق وغيره ممن يطلقون عليهم بقايا النظام.. أي- رموز نظامه العسكريين والمدنيين، ضاربين عرض الحائط بما صدر من قانون الحصانة وعدم المساءلة وما حصلوا عليه من المكاسب السياسية الكبيرة التي نقلتهم من موقع المعارضة إلى موقع الحكم.
5- من خلال إنهاء بقايا النظام بدعم الممارسات الفاسدة والفوضوية والإرهابية وعدم استعدادهم لتحمل ما يقع على كاهلهم من شراكة في تحمل المسئوليات والاستقواء بما حصلوا عليها من التنازلات السياسية إلى درجة قد تغريهم بعدم التعاون مع رئيس الجمهورية في تحمل المسئولية والدعوة إلى انتخابات مبكرة ترجح كفتهم وتلحق الهزيمة بمعارضيهم بعد ان يحققوا أهدافهم..
6- المطالبة باستبعاد الرئيس السابق من رئاسة الحزب الذي ينتمي إليه وبحرمانه من المشاركة في الحياة السياسية كمقدمة للمطالبة بنفيه إلى خارج الوطن.
7- لذلك نجدهم يطالبون مستعجلين بسرعة هيكلة القوات المسلحة قبل توحيدها كوسيلة للتخلص من القيادات العسكرية المؤثرة المؤيدة للشرعية الدستورية بصورة تتنافى مع المبادرة الخليجية نظراً لما تنطوي عليه من خطوة استباقية للتعديلات الدستورية وللحوارات السياسية مع الحوثيين ومع الحراكيين، ناهيك عن تصوير الهيكلة بأنها إقصاء خصومهم من مواقعهم والابقاء على مؤيديهم فقط.
8- إذا لم يكونوا طرفاً في دعم الإرهاب فإنهم قد يحجموا عن المشاركة الفاعلة في الحرب على الإرهاب والاستمرار بتسويق الدعايات المكشوفة التي ألقت عليه باللائمة وتحمل المسئولية عن القاعدة والحوثيين والحراك الذين استمالوهم إلى الشوارع للمشاركة في اعتصاماتهم ومسيراتهم ومظاهراتهم أمام العالم إلى حين من الوقت، في وقت أكدت فيه التجربة والممارسة العملية أن هناك توسعاً ملحوظاً في كافة الأنشطة الإرهابية والانفصالية والحوثية بدليل ما يحدث اليوم من مواجهات دامية بين الحوثيين والإصلاحيين حيناً وبين الانفصاليين والاصلاحيين حيناً آخر، ناهيك عما يحدث من مشاركة بعض عناصر من الاخوان المسلمين في الحرب إلى جانب القاعدة.
9- السعي المستمر لاخضاع السلطة المحلية للتقاسم في مطالب شمولية لا تتفق مع ما حققته السلطة المحلية من مكاسب ديمقراطية وانتخابية وصلت إلى انتخاب المحافظين.
10- وإذا اضفنا إلى ذلك ما حققوه من نجاح في حرمان المؤتمر الشعبي العام من الاستفادة من اغلبيته البرلمانية واخضاعه للقرارات التوافقية تبين لنا من ثم ان نواب الشعب يقفون عاجزين عن الاستفادة من صلاحياتهم الدستورية في سحب الثقة من الحكومة كأحد أهم المكاسب التي حصلت عليها الاقلية لتفتيت الأغلبية بحكم ما لديها من الامكانات الداخلية الناتجة عن سيطرتها على المالية، والخارجية الناتجة عن الدعم الخارجي.
أخلص من ذلك إلى القول إنه لابد من وقفة مراجعة تبدأ بالتقييم وتنتهي بالمصارحة وما يجب أن ينتج عنها من المصالحة الكفيلة بإعادة المصداقية والموضوعية والثقة بين الجميع.