عبدالرحمن مراد -
كنا تحدثنا عن موضوع الالتباس في المفاهيم بين الأجيال وجدليته عند ساسة المرحلة الراهنة، والالتباس قضية شائكة لا ينتج عنها إلاّ ضيق الأفق، وضبابية الموقف وازدواجية النظرية والفعل، والوقوع في الوهم وهو القضية الأخطر لأنه يعمد إلى ملء الفراغات بقيم نقيضة تعمل على إخلال المنظومة القيمية وتفسد الثقافات ولا تتورع عن ليِّ عنق النصوص المقدسة للقيام بأفعال التبرير.. وقد رأينا في واقعنا ما أنتجه فقه الواقع وما أنتجه فقه الثورات، وكيف تفاعل القرضاوي مع قضايا الموت وسفك الدم وكيف أباح استخدام المال المشبوه لتلك الغاية في سوريا، مع أن علة التحريم في مسألة الخروج على الحاكم في مرجعيات أهل السنة هي حرمة الدم المسلم الذي يُراق،
ولم نستبنْ من فتوى القرضاوي عِلل الخروج ولا مقاصد ذلك الدم الذي يسفك ولم نسمع إلاّ كلاماً إنشائىاً خالياً من التبرير الشرعي والتبرير المنطقي، وهو الأمر الذي يجعلنا نسبح في فلك التيه، وندور في أبراج الوهم التي وصلنا إليها بحكم التضخم الذي أصاب الشخصية المحورية في هذا الربيع العربي، إذ أخذتها العزة بالوهم فرفرفت فوق واقعها ولم تدرك حقيقة واقعها أو جوهره وموقعها منه.
لقد نشأ- على إثر حالة التماهي مع الغليان الثوري- نوع من التضاد الذي يزداد عمقاً كلما استمرت حالة الالتباس وسوء الفهم، فالشخص المحوري- رمز ديني أو سياسي- يمارس ازدواجاً ظاهرياً في شلال إيحاءاته المتناثرة، لكن ذلك الازدواج لا يتصل بالتناقض أكثر مما يتصل بالحرص على بعث رسالة مشبعة بالرموز والقرائن، فإذا تمكن المتلقي من تنضيدها على نحو سليم، فإنه بالضرورة سوف يفهم مقاصدها.. فالمنطق الثوري في الحالة اليمنية مثلاً وقف من «جمعة الكرامة» في 18 مارس 2011م موقف الباكي والمتألم وموقف المسفوك دمه والمصادرة حقوقه، مشبعاً فعله بالرموز الإنسانية والقرائن التسلطية والاستبدادية، مستفيداً من وسائل الاتصال التي تعتبر وسائل التفاعل الأساسية بين الأفراد والجماعات للتحكم بالأنظمة المادية والرمزية التي تتعامل فيما بينها من خلالها، فكانت رسالة ذلك الحدث الدامي إحداث صدمة نفسية وأخلاقية تداعت على إثرها جدران النظام، إذ استقال عدد من الوزراء وانضمَّتْ فئات اجتماعية فاعلة إلى حركة الاحتجاجات وانشق فصيل من الجيش اليمني، وضعف موقف النظام السياسي أمام المجتمع الدولي، وخرجت بعثات دبلوماسية عن جادة الصواب لتقدم بلدها بصورة أكثر قبحاً وأكثر وحشية، وما يزال النظام حتى لحظة كتابة هذه الأسطر بريئاً من ذلك الفعل الإجرامي المتوحش، فالوقائع الاستدلالية مازالت تومئ إلى غيره ولا تشير إليه، ونتائج التحقيقات ضاعت تفاصيلها بين أروقة «الفرقة» والمستشفى الميداني، وثلاجة مستشفى العلوم والتكنولوجيا وبين الخيام، وختم كل ذلك دخول مجموعة مسلحة من الفرقة إلى مكتب النائب العام وسرقة ملف القضية وطمس معالمه..
هذا التنضيد لمسار (18 مارس.. جمعة الكرامة).. يجعلنا أمام اشكالية تاريخية تبدأ من خلال تداول الخبر أو الحدث التاريخي ثم إعادة انتاجه في وسط ثقافي مماثل، فدم عثمان رضي الله عنه هو الاشكالية ذاتها التي تلتقي مع «جمعة الكرامة» وتتقاطع، فالدم في الحالين لا يبعد عن كونه مطية للوصول إلى السلطة، وما كان مسكوتاً عنه في الأمس التاريخي سيكون مسكوتاً عنه اليوم، فجمعة الكرامة حمل النظام تبعاتها ولكنه حتى اللحظة لم يُدن بأدلة مادية دامغة بل دلَّت مجموعة الوقائع والاستدلالات أنه بريئ منها، فتعطيل إجراءات التحقيق والمحاكمة وفق التداولات الإعلامية كان من طرف واحد وكانت تعليلاته تضليلية أكثر منها بحثاً عن العدالة، فالازدواج الظاهر في التفاعل مع حمامات الدم بين جمعة الكرامة، وحي النهضة، وحادث بنك الدم، والحصبة، وفرضة نهم، وأرحب، لا يتصل بالتناقض أكثر مما يتصل بالحرص على استثمار الرسالة المشبعة بالرموز والقرائن، وهو الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى القول إن «جمعة الكرامة» لم تكن إلاّ تفاعلاً مع حدث تاريخي متداول في الذاكرة الجمعية، أعيد إنتاجه بهدف الوصول إلى السلطة، ولم يكن للدم أي حرمة دينية أو إنسانية بدليل أن أنهاراً من الدم انتفت قرائنها ورموزها لم يدنها المنطق الثوري ولم يتفاعل معها، مثال ذلك حادث حي النهضة الذي أودى بحياة (53) شاباً وحادث بنك الدم الذي ذهب ضحيته (17) شاباً وغير ذلك من الأحداث التي تعامل معها المنطق الثوري بازدواج ظاهر في شلال إيحاءاته المتناثرة وهو ازدواج لايتصل بالتناقض- كما أسلفنا- بل بالحرص على بعث رسالة مشبعة بالرموز والقرائن ولا يسع متلقيها- أي تلك الرسالة- إلا ترتيبها وفق نسقها المنطقي ليدرك حينها غاياتها ومقاصدها، وإذا استسلم لمضامينها كما هي فإنه يقع في الوهم ولن يصل إلى حقيقة الغايات ولا جوهرها.
فإذا كانت القضية قضية دم حرام سفكه، كقضية دينية وقضية إنسانية مجردة عن الغايات والمقاصد الأخرى فقد يصبح الازدواج حينها غير مبرر أخلاقياً ودينياً وإنسانياً، إذ أن كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه، فالذين استباحوا دم الجنود في فرضة نهم، وفي أرحب، وفي تعز، والحصبة ثم بعد ذلك في أبين وفي دوفس، واستنفروا الناس في دماج، وفي كتاف، وفي العشة، وفي عاهم، لذات الغاية، إنما يسعون إلى هدم المنظومة العقائدية والقيمية للدين، ويملأون الفراغات بمبررات وقيم نقيضة، فدينهم لم يكن إلاّ شكلاً خالياً من المضامين، وثورتهم لم تكن إلاّ تماهياً مع تاريخ يحاولون إعادة انتاجه، فلم يكن حظ الصورة الثورية إلاّ التطابق مع الماضي التاريخي، ولا قيمة أو معنى لها إلاّ في صيغة التكرار واجترار ذات القيم المستبدة والانتهازية والمتفردة.. طغيان قديم في جلباب ثوري.
فجدلية الصراع تخلق لنفسها منظومة ثقافية بديلة، وبها ومن خلالها يحدث الالتباس، وعلى ذلك دلت شواهد التاريخ من دم عثمان رضي الله عنه إلى نقطة الانحراف في المسار في زمن معاوية.
فالدين ليس انتقائياً يحرم في مواطن ويجيز في الأخرى ولكنه منظومة متكاملة البناء يلتقي بشكل شبه كلي مع مجموعة المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، لذلك فموقفنا من سفك الدم ثابت وهو القول بحرمته وتجريم من يقدم عليه، وهو في الإسلام كأنما قتل الناس جميعاً، وبالتأسيس على تلك القاعدة فنحن نستغرب كل الاستغراب موقف بعض أطراف العملية السياسية من ازهاق أرواح (183) جندياً في دوفس وموقفها من أعمال الفوضى والتخريب وازهاق الأرواح في أبين وقطع الأطراف والصلب وكأن مايحدث مبرر شرعاً في حين تكاد الدنيا برمتها تقف على رجلٍ واحدة بشأن ما يحدث في «عاهم».. وبالقياس وفقاً للتقارير الإعلامية هناك ما يزيد عن مائة ألف نازح من أبين وفي المقابل هناك خمسة آلاف أسرة نازحة في عاهم، وهناك إمارة إسلامية تنتهك آدمية الإنسان في أبين وهناك حرب كر وفر بين جماعات في عاهم كل جماعة فيها تعترف بالدولة المركزية وتوقع محاضر السلم والتعايش وتنتهك تلك المواثيق من قبل طرف ولا يسع الطرف الآخر إلا المواجهة والصد كدفاع عن النفس وهو حق سواءً لهذه الجماعة أو تلك، وما يمارس من ازدواج على مستوى الفعل والموقف في شلال الايحاءات لا علاقة له بالتناقض بقدر اتصاله بالحرص على سفك الدم واتخاذه كمطية لإيقاظ رسائل مشبعة بالرموز والقرائن إلى المحيط الاقليمي لاستدرار عطفه وأمواله وتأكيد فاعلية بعض الرموز في الأمن الاقليمي.. وبتنضيد الأحداث وقراءة الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي نجد الأمر على نقيض كل الإيحاءات المتناثرة.
ما يحدث في عاهم ليس كما وصفه الفريق الإعلامي والحقوقي الذي زار المنطقة وأذاع تقاريره وانطباعاته وقد جانب في وصفه الحقيقة والعدل ونظر إلى القضية من زاوية واحدة وبعين واحدة وأغمض الأخرى حتى لا ترى الحقيقة ذاتها، إذ ما يحدث له علاقة جوهرية بلعبة التناقضات التي أتقنها اللواء المنشق علي محسن في الشريط الحدودي، هناك كيانات اجتماعية لحقها من الضيم والإجحاف الشيء الكثير فتحالفت مع الحوثي انتصاراً لقيمتها ومعناها وكيانها، وسبق لنا التحذير من عواقب ذلك في أعداد متفرقة من صحيفة «الديار» في عام 2010م.
ويمكننا من خلال التنضيد للمتنافر من الأحداث في اليمن بدءاً من جمعة الكرامة، وانتهاءً بما يحدث الآن في عموم اليمن القول إن ما يحدث له جذر واحد وإرادة فاعلة واحدة ولن تكون تلك الانتقائية في المواقف إلاّ تعبيراً عنه وجلاءً له..
يقول الدكتور ياسين: (إن القوى التي تأخذ الثورة، أي ثورة، إلى طريق العنف والانتقام لابد أن تتضخم عند منتسبيها الذات، على حساب الفكرة الثورية، ويستحيل عليها أن تستعيد التوازن بين المكونات السياسية والثقافية والأخلاقية للثورة في «صلتها بالمكون الدخيل» المتمثل في العنف والعدوان لأن هذا الأخير لا يلبث أن يعيد بناء المكونات كلها لصالحه وبشروطه، بحيث يصبح تمجيد القوة والعنف شرطاً ضرورياً للانتماء الثوري.. وفي هذا السياق تصبح القوة والمغامرة والعنف هي الصفات المقبولة ثورياً، ويغدو أصحابها هم الثوريون، ويسجل التاريخ حالات مشابهة كثيرة، ويهمنا أن نستدل منها بما أسفر عنه العنف من نتائج كارثية على مسار هذه الثورات فيما بعد وعلاقة النخب الثورية ببعضها، وكيف أن هذه النخب استسلمت جميعاً للقرار المغامر ما تمخض عنه من تصفيات «ثورية» واختزال الجميع في «واحد»)..
وفي توصيف الدكتور ياسين ما يغني عن الإسهاب وكم نتمنى على محمد قحطان أن يتأمله وأن يعقله حتى لا تأخذه مشاعره الثورية إلى العنف النفسي والأخلاقي وأن يترجل.. فالثورة المضادة قادمة ولا مناص له منها.