عبدالرحمن مراد -
< عام مضى بأتراحه وأفراحه، بدمائه وتضليله، بحقائقه وبأوهامه، بنزواته وبنزقه الثوري، وأتى عام آخر فيصله (21فبراير) نقطة البداية للخروج من الشرنقة والانبعاث من جديد لصناعة عالم آخر لا يشبه الذي كان ولكنه يؤسس للذي سوف يكون.
ما يحدث لا يدل أننا نؤسس للانتقال وتكاد كل الدلائل تشير الى ذلك التراكم من الألم ومن المآسي التي تركها في عمقنا النفسي الماضي، إن وعينا بالمستقبل يتطلب وعياً موازياً بكيفية صناعته وبكيفية النسيان لذلك التراكم الذي تلبّد في وعينا الجمعي وحتى لا نكون تكراراً مقيتاً ىتوجب علينا تفكيك بناه والاشتغال على المحددات الموضوعية التي تمنع تكراره في غدنا.
ما الذي يحد من الصراع؟ ما الذي يحد من العنف؟ ما الذي يصنع الابتسامة في شفاه الاجيال القادمة؟ ما الذي يجعلنا نشعر بالرضا؟ ما الذي يجعلنا ننام ونحن في غاية الاطمئنان؟ ما الذي يعيد في كوننا الداخلي روح التنافس ويجدد فيها طاقات الابداع والابتكار؟ ما الذي يجعلنا نفكر في قول القائلين إن مزيداً من العلم والاختراع يفضي الى مزيد من الانتاج والتوزيع.. ومثل ذلك يجعلنا في عالم من الرفاه والتقدم والحداثة وخارج دائرة الوعي الصحراوي القائم على الغنيمة وتعطيل قيم الانتاج.
إن صناعة المستقبل تعني التجرد من علائق الذات لصالح الموضوع.. تعني إيماننا بقدراتنا وتفجير كل الطاقات وتوظيفها التوظيف الامثل وهي لا تعني بالضرورة شبح علي عبدالله صالح الذي يقض مضاجع رموز أحزاب اللقاء المشترك الذين لم ينتقلوا من وعي الأمس الى وعي ما بعد 21 فبراير.
اللون الأحمر
إن الوعي بالمستقبل لا يقبل الفسيفساء والألوان المتعددة لعلي محسن، ولا يرى إلا اللون الأحمر في أولاد الأحمر، ويرفض ذلك التلاعب المقيت بالنص المقدس، ولا يقر سقوط الايديولوجيا، لأن الاشياء حتى تصبح أشياء لابد أن تبدأ كفكرة، وحين تسقط الفكرة لا يكون شيء في الوجود سوى العدم.
لقد كتبت قديماً في هذه الصحيفة عن ثورة العدم وقلت إن الذين يتحدثون عن مشروع مؤجل هم لا يملكون مشروعاً ولن تكون لهم ثورة، لأن العدم لا ينتج الا عدماً مثله، فكان حظنا من العذل واللوم والالفاظ النابية حظاً وافراً، وها نحن الآن نقرأ المقالات المتعددة المنددة بالانتكاسة والنافية للثورة حد الابتذال وصفاً، والألفاظ السوقية تعبيراً، وبلغ الاحساس ذروته بتشكيل مجلس إنقاذ الثورة من قوى متعددة هي الاكثر صدقاً مع الذات ومع الحالة الثورية الحقيقية.
وقد أصبح واضحاً الآن أن شعار الدولة المدنية لم يكن الا غطاءً لمرور مرحلة والقول بسقوط الايديولوجيا لم يكن الا ابتزازاً لمرور مرحلة، وقد كشر الواقع الجديد عن أنيابه، فالدولة المدنية عند القوى الراديكالية الدينية كفر، ويرون أنها تقول بالمساواة وتبيح المثلية، والذين قالوا بسقوط الايديولوجيا لم يكن حظهم من الحالة الثورية الا الشعور بالاغتراب وفقدان القوة وتكفير شركائهم لهم، وتأليب المجتمع عليهم، والشباب تماهت أحلامهم كسراب في ضيعة حسبوها ثورة ولم يجدوا ثورة، وقد تناثرت دموعهم على أوراق الصحف المتعددة.
إذاً فالصورة المقروءة الآن للحالة التي يصفها د/ياسين بالحالة الثورية هي كالتالي:
قوى راديكالية تبحث عن الثروة والسلطة وتوسع من جبهات مواجهاتها اقصاءً للآخر واستحواذاً على الأمر، فهي لا ترى الا نفسها في إقامة حاكمية الله في الأرض وهي الآن إعلامها تناهض من يقولون بالدولة المدنية بعد أن رفعت شعار الدولة المدنية مدة عام كامل كنوع من التقية القائمة على المعنى الظاهر والمعنى الباطن للنص.. وقد خرج فقهاؤها عن صمتهم ينضحون الفتاوى كلٌ بما في إنائه وأغرب أولئك هو الشيخ محمد عبدالمجيد الزنداني الذي لا يرى في الدولة المدنية الا جزئيتها البسيطة وهو جزئية اشتغالها على المساواة وقصر هذا المبدأ على الجنس، فهي عنده لا تعني اكثر من المثلية، أي جواز زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، وهكذا هم فقهاؤنا ظل اشتغالهم الفقهي طوال قرون من الزمان على المنطقة المحصورة بين السرّة والركبة (شهوة بطن وفرج) ولو كان اشتغالهم على القضايا الجوهرية كقضايا التحول وقضايا الانسان والتحديث وقضايا الانتاج لكانت الأمة على حال هو على النقيض تماماً من الحال الذي هي عليه الآن..
ففقه الواقع كحالة تحدث لم ينتج الا زواج المسيار، وزواج فرند، والزواج السياحي وفيما سوى ذلك لا أثر له والتحديث الأخير المسمى فقه الثورات، لم ينتج الا ذلك التناقض العجيب بين المعتقد المقدس وبين الممارسة، وذلك التماهي الغريب بين الفعل السياسي والمعتقدات الصرفة ولم يكن المزج بينهما الا إفساداً للدين وتدميراً متعمداً ومتكاملاً للمنظومة القيمية والمسلكيات الاخلاقية، وكما أنه -أي فقه الثورات - يعادي التحديث بحجة الانحلالية الاخلاقية والمدنية بحجة المثلية وهكذا كل تحديث لا يدور الا في ذات الدائرة التي أوضحنا حدودها الموضوعية في الأسطر الآنف ذكرها.
وفي مقابل هذه القوى التي أشرنا إلماحاً الى معالمها الفكرية هناك قوى تحديثية علمانية تمردت على الحالة الثورية التي يسيطر عليها الاقطاعي، والانتهازي والراديكالي، وقوة هذه القوى التحديثية تكمن في سطوع فكرتها ووضوح منهجها وفي ثورتها على امتداداتها التنظيمية التي تستظل خيمة الخنوع للاقطاعيين والتقليديين والرجعيين ثم تبعث من بين الأوتاد رسائل التنظير والتبرير للحالة الثورية وبصورة انتقائية تحجب كل الحقيقة لتقول بعضها.
وهذه القوى التحديثية ربما كانت اكثر ذكاءً في تفاعلاتها السياسية وتحالفاتها مع قوى أخرى لها حضور جماهيري أكبر كالحوثية والحراك أو بعض فصائله وهو الامر الذي جعل منها قوى موازية للقوى الراديكالية التي بدأت قاعدتها الجماهيرية تنهار باستمرارها في دوامة العنف ومساندتها للقاعدة.
إذاً التحالف المدني وقوى إنقاذ الثورة هما التعبير الأمثل للقوى الحية التي تجاوزت الاجساد الميتة المستظلة خيمة الاقطاعي والتقليدي، وهذه القوى هي الاكثر قدرة على صناعة المستقبل، لأنها تعرف من أين تبدأ؟ وكيف تبدأ ولها مشروعها الحضاري التحديثي وبتفكير هذه القوى بالتحالف مع المؤتمر وبتفكير المؤتمر بالخروج من دائرة المدافع الى دائرة الهجوم، أي دائرة صناعة الحالة الثورية الحقيقية بتحالفه مع تلك القوى ستكون صناعة المستقبل قضية جوهرية تتهاوى تحت أشعتها بقايا أشلاء الاقطاعيين والانتهازيين والتقليديين.
المؤتمر والمستقبل
لقد أصبحت الفرصة مهيأة أمام المؤتمر كي يعيد صناعة نفسه ويتفاعل مع بقية القوى الفاعلة والحية لصناعة لحظة ثورية حقيقية تضع المستقبل على طاولة الفعل الثوري والسياسي وتتجاوز باللحظة السياسية حالة النكوص التي وصلت اليها.. وباشتغال المؤتمر على هذا البعد يجعله أكثر قدرة وتأثيراً في مسار صناعة المستقبل ولن يترك لبقية القوى المناوئة له الا غبار الاحداث.
لا شيء يمنع المؤتمر أن ينتقل الى صناعة حالة ثورية باعتبارها حالة انتقالية تحديثية وليست بعداً انقلابياً كما يتراءى لنا في الفعل السياسي الذي يحدث في عموم الوطن.
ولا شيء يمنعه من التفاعل مع التحالف المدني ومع قوى الثورة المضادة والمجلس الوطني لإنقاذ الثورة، والقوى الفاعلة الاخرى في الساحة الوطنية لتحقيق الغايات المثلى لصناعة المستقبل.. وقبل هذا وذاك يتوجب على المؤتمر إعادة ترتيب نفسه متخذاً (المأسسة والإنتاج) بعدين أو مرتكزين أساسيين في تكوين وترتيب أوضاعه بما يتواكب والحالة السياسية والوطنية الجديدة التي تفرض واقعاً جديداً، وتعاملاً وتفاعلاً أجد.
فصناعة المستقبل لا تخص طرفاً دون آخر ولكنها قضية وطنية مشتركة وعلى القوى الأكثر تفاعلاً مع العصر أن تكون الأكثر تأثيراً في صناعة المستقبل، وتحقيق مثل ذلك يفرض تحالفات وطنية وعلى قوى التحديث الوطنية أن تدرك ذلك وأن تعمل جاهدة في تحقيق غايات واهداف وطموحات الجماهير المشرئبة أعناقها الى التغيير الحقيقي.