الإثنين, 23-أبريل-2012
الميثاق نت -   محمد علي عناش -

«المتلاعبون بالعقول» هو عنوان كتاب للمؤلف الأمريكي «هربرت شيللر»، الكتاب بشكل عام يعتبر دراسة بحثية مهمة تكشف الكثير من الوسائل والمناهج التي تستخدمها وتوظفها الأنظمة من أجل توجيه شعوبها والتأثير عليها بما يتماشى مع سياساتها وتوجهاتها، وتشكيل وعيها وثقافتها تجاه مختلف القضايا والظواهر وتنميط السلوك والمواقف وأمزجة الناس بما يخدم الأنظمة وتوجهاتها، وغالباً ما تتسم هذه المواقف بالسلبية، والسلبية هي الغاية النهائية المراد تحقيقها لدى من يمارسون سياسة التلاعب بالعقول. الكتاب دراسة مركزة على السياسة الامريكية وطريقة تلاعبها بالعقول في الداخل الامريكي وخارجها، وكيف تمارس الشركات الكبرى، مختلف وسائل الدعاية والاعلان الهادفة الى تحقيق أكبر قدر من التأثير على رغبات وأذواق وقناعات المواطن الامريكي تجاه ما تنتجه أو تسوقه.
حقول مناهج تضليل الوعي والتلاعب بالعقول كثيرة منها التربية والتعليم وبرامج الاطفال ومختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية وطغيان مؤسسات الترفيه، غير أن المؤسسات الاعلامية تعتبر من أهم الأدوات المستخدمة في التأثير على وعي الشعوب وتوجيهها وتصدير الوعي المعلب إليها.
لا نهدف في هذه التناولة أن نستعرض الكتاب أو نقدم دراسة نقدية عليه، وإنما سنحاول أن نقارب ما تضمنه من وسائل ومناهج وتقنيات التلاعب بالعقول مع ما يحدث في بلادنا باسم الثورة والتغيير من أحداث فوضوية وتضليل إعلامي وتلاعب بالعقول وتدمير للضمائر وتزييف للوعي، من قبل بعض القوى السياسية والقنوات الفضائية وعلى وجه الخصوص تنظيم الاخوان المسلمين، وأيضاً قناة «سهيل» كنموذج يمني وقناتي «الجزيرة» والـ«بي. بي. سي» كنموذج عربي، والتي تعتبر من أهم القنوات التي مارست هذا التوجه واستخدمت بحرفية عالية تقنيات التضليل والتلاعب بالعقول في تغطياتها وتناولاتها الاعلامية للأحداث الثورية في البلدان العربية والتي تم وضعها واختزالها منذ البداية في مصطلح ساحر ومهيّج عُرف بـ«الربيع العربي».
إن الأنظمة أو القوى السياسية تلجأ الى التضليل الاعلامي عندما تشعر بمنافسة أو قوى مؤثرة وعندما ترغب أن تسوق مشاريعها وتحقق منافعها، وايضاً عندما تواري فضائحها وعيوبها.
والتضليل الاعلامي يهتم بالشكل دون الجوهر ويهدف الى خلق واقع مزيف، لذا دائماً ما ينكر الحقائق أو يزيفها أو يخرجها بشكل مشوه لا يعبر عن الظاهرة في مضمونها وشكلها الكلي، كما يهدف التضليل الاعلامي الى أسر شخصية المتلقي وتطبيعها في نسق محدد بحيث تصبح سلبية وعاطفية وسريعة الانقياد والتأثير وتستخدم تفكيرها بسطحية وداخل أطر معينة لا تحاول أن تتجاوزها.
من المؤكد أن النزعة أو اللجوء الى تضليل عقول البشر هو من أجل التسلط وتحقيق أكبر قدر من المصالح والمنافع، هذه النزعة يؤكدها «باولوفرير» أحد أهم الباحثين في علم السياسة، بأن تضليل عقول البشر هو «أداة للقهر».
عملية التلاعب بالعقول وتضليلها ليست عملية عشوائية وإنما عملية منظمة ومتكاملة البناء، وتتم بوسائل وتقنيات متعددة ودقيقة.
يشير «تشيللر» في كتابه الى تقنيتين تشكلان الوعي- والمقصود هنا هو الوعي المعلب- تتمثل هاتان التقنيتان في:
1- التجزيئية: ويسميها فرير «الحصر في بؤر» وهي متعلقة بالمشكلات والقضايا والظواهر التي تحدث وتنشأ في مجتمع ما يمارس عليه القمع الثقافي، وللتوضيح أكثر لمسألة الحصر في بؤر حسب فرير «إن احدى السمات المميزة للعمل الثقافي القمعي، والتي لا يدركها أبداً المتخصصون والمخلصون والسذج في وقت معاً، والمشاركون في النشاط الدائر، هي التأكيد على النظرة التي تحصر المشكلات في بؤر بدلاً من رؤيتها بوصفها أبعاداً لكل واحد».
المقصود بذلك ان المؤسسات الاعلامية والثقافية التي تمارس تضليل عقول البشر تقوم بحصر مشاكل المجتمع في مشكلات بعينها وتهمل مشاكل جوهرية أخرى تعتبر المشاكل الحقيقية التي لا يمكن ان تعالج بقية المشاكل دون معالجتها، أو تختزل أسباب هذه المشاكل في أشخاص بعينهم أو فئة بذاتها، أو ترجع قضية ما الى بعد واحد وسبب واحد، وهذا يعتبر تضليلاً معرفياً مقصوداً للحقائق الكلية للمشكلة، لأن القضايا والمشاكل تحتوي بداخلها أبعاداً وعلاقات كثيرة مترابطة ببعض.
2- التتابع الفوري للإعلام: وهو القيام بتغطية الوقائع والقضايا بشكل تتابعي وسريع دون أن يترك فرصة للمتلقي أن يقوم بالتقصي والتحليل وتكوين رؤية كاملة وواضحة للقضايا نظراً لتسارعها وتتابعها، عندئذٍ تصبح الرؤية التي تسوقها المؤسسات الاعلامية حول هذه القضايا هي التي سوف تسود وتعمم على علاتها وانحرافاتها وما تحمله من شائعات وأكاذيب أيضاً.
في الاحداث العربية التي تفجرت فجأة بشكل مذهل وغير طبيعي، لعب الاعلام دوراً رئيسياً ومحورياً فيها، حيث كان المحرض والموجه للأحداث واللاعب الأبرز والفاعل في ساحات الاحداث أكثر من القوى السياسية والمدنية، باستثناء الاحزاب الدينية الراديكالية وعلى رأسها الاخوان المسلمون الذين كانوا على صلة وثيقة بهذه القنوات على مستوى المراسلين الخطاب الاعلامي الذي حصر الاشكال في بؤرة واحدة وهي الحاكم، وقدم القوى الدينية كقوى ثورية ودعاة حرية وديمقراطية ودولية مدنية، في حين أنها في الواقع تبدو عكس ذلك تماماً.
كان واضحاً منذ البداية ان الترسانة الاعلامية الضخمة للاخوان المسلمين والقنوات الفضائية القريبة منها أو المتحالفة معها، خاطبت هاجس وإرادة التغيير لدى الشعوب ولكن من خلال عواطفهم لا عقولهم، في ظل ماكينة تنظيمية هائلة في الميدان تعمل على تسارع الاحداث وتتابعها، كي تحصر إرادة وفكرة التغيير في بؤرة واحدة وبشكل يتجاوز حتمية التراكم والتدرج في قضية التغيير، ولكي لا تترك فرصة لاكتشاف التناقضات الحادة في المسار الثوري، أو التمعن في الظروف الاجتماعية والثقافية التي تطوق هاجس التغيير من جميع الاتجاهات، فهذه الظروف الاجتماعية والثقافية هي من حددت بالفعل مسارات الاحداث وصنعت النتائج في كل البلدان العربية التي شهدت أحداثاً ثورية، ووفقاً للمستوى الاجتماعي والثقافي في كل بلد تجلت الصورة الحقيقية.
لن ندافع عن الانظمة على حساب الشعوب وحقها في التغيير لأننا بالفعل نؤمن بالتغيير وحتميته الراهنة، لكننا في نفس الوقت لن ننجر وراء وهم التغيير أو المسار الفوضوي للتغيير على حساب الوطن والأمن والاستقرار والسلم الأهلي للشعوب.
عدمية الفعل الثوري هي التي تقود الى إنتاج مستبد جيد وتعيد عقارب الساعة الى الوراء، كأن تتمخض الحالة الثورية عن سيطرة للقوى العشائرية والطائفية أو الجماعات الدينية المتشددة والتي لم تتصالح بعد مع العصر ومع قيم الحرية والديمقراطية والدولة المدنية ولم تتحرر من نزعتها الاقصائية تجاه المختلف معها، لذا تشعر اليوم القوى السياسية والجماهيرية في مصر بخيبة التغيير، وتسودها حالة من التذمر الشديد تجاه الاخوان المسلمين الذين بدأوا يظهرون وجهاً آخر لشركائهم في الثورة وبسعيهم الى «التكويش» على كل شيء حسب التعبير السائد اليوم في مصر، وايضاً تجاه السلفيين الذين حلوا في المركز الثاني، فهم الى الآن لم يتكيفوا بعد مع أهداف الثورة ولا يبدو أنهم متفاعلون مع مضامينها، فمازالوا مشغولين بفقه التنزيل، وإزالة المنكر في الجامعات بالاضافة الى أن لهم أهدافاً ومشاريع خاصة من نوع تطهير المكتبات من روايات نجيب محفوظ، وهدم الاهرامات كونها مجرد أصنام تفتن المصريين.
لم تفضِ الفعاليات الى تغيير حقيقي، ولم تعبر عن التطلعات المستقبلية للقوى التقدمية الليبرالية واليسارية الذين هم أيضاً ساهموا في صناعة الوهم وصناعة خيبات التغيير، عندما تفضي الحالة الثورية الى نتائج من هذا النوع التي تعتبر تجسيداً حقيقياً لما خطط له صانعو الاوهام والمتلاعبون بعقول البشر وفي المقدمة «أكاديمية التغيير» التي تأسست في بريطانيا سنة 2006م وأنشأت لها فرعاً في العاصمة القطرية الدوحة برئاسة «هشام مرسي» زوج ابنة الشيخ القرضاوي، وهو رجل مصري يحمل الجنسية البريطانية، وكان قد سبق اعتقاله في 31 يناير الماضي في ميدان التحرير بالقاهرة وتم اطلاق سراحه بضغوط بريطانية قوية.. اكاديمية التغيير في الدوحة تستمد خطوطها الفكرية ومنهجها في التغيير من مشروع آخر يسمى «النهضة» برئاسة الاخواني القطري الدكتور جاسم سلطان..
هي في حقيقتها لا تهدف الى تغيير الشعوب العربية باتجاه تعزيز الحريات وإقامة أنظمة ديمقراطية ودول مدنية، والا كان من الاولى إحداث التغيير الديمقراطي بدءاً من قطر، حيث النظام العائلي في قطر يحكم بدستور من أكثر دساتير أنظمة الحكم تخلفاً وامتهاناً للرعايا، فالمادة الأولى منه تحصر الحكم في أسرة حمد بن خليفة أمير قطر، وينتقل الى الأبناء وفقاً لمن يضع الأمير ثقته فيه، لذا فالهدف الحقيقي لهذه الاكاديمية في الدوحة هو اسقاط الانظمة وإقامة أنظمة بديلة مرتبطة بالمشروع القطري في المنطقة، ولا يهم نوع الوسائل والادوات المستخدمة في تحقيق هذه الغاية، حتى ولو كانت على حساب زعزعة الأمن والاستقرار وإحداث الانقسامات الاجتماعية والثقافية والعرقية لدى الشعوب.
من هنا لم يكن عفوياً اندلاع الثورات العربية بهذا الشكل المتسارع في عام واحد، وإنما كان عام 2011م هو عام تثوير الشعوب كما هو مرسوم ومحدد في أجندة أكاديمية التغيير القطرية، فكل شيء كان جاهزاً ومعداً مسبقاً بشكل دقيق في إطار منظومة متكاملة من الترتيبات والمستويات والأدوار بدءاً من إعداد فرق إعلامية هائلة، أخضعت لدورات تدريبية مكثفة منذ ما قبل 2009م على مختلف وسائل تضليل عقول البشر، ووسائل الاثارة والتحريض والتغطية الاعلامية الفورية للأحداث، وطرق عرض الاحداث والقضايا في سياق تقارير تحليلية مليئة بالفبركات والتكهنات والاتهامات المباشرة والمبطنة التي ترسم في النهاية شكلاً معيناً للأحداث، وتصدر وعياً معلباً زائفاً حولها، بل وتحول المجرمين واللصوص الى قديسين وصانعي أمجاد وتاريخ للشعوب، كما تزامن مع هذا الإعداد الإعلامي الهائل إنشاء الكثير من المؤسسات المدنية والحقوقية التي تعمل بنفس الآلية وضمن شبكة إعلامية وحقوقية عربية وعالمية واسعة الانتشار، وقد تجلت لنا كل هذه الامور هنا في اليمن من الشلفي الى غراب الى منظمة هود الى سهيل إلى نقابة الصحفيين الى توكل كرمان التي مُنحت جائزة نوبل للسلام وهي لا تمتلك مقومات ورصيداً موازياً يؤهلها لذلك، وإنما مُنحت الجائزة لأنها أجادت الدور وجسدت النموذج الثوري المطلوب والذي سيعمم في وعي وذاكرة شريحة واسعة من الشباب في الساحات.
نعم كل شيء كان معداً مسبقاً، ولم يكن مطلوباً إلا أن تبدأ حركة الاحتجاجات العفوية التي غالباً ما كان يقوم بها شباب متحمس للتغيير من ذوي التوجه الليبرالي واليساري، ثم يأتي نزول الاخوان المسلمين لاحقاً كقوة تنظيمية وجماهيرية كبيرة كي تعمل على احتواء الحالة الثورية بطرق مباشرة وغير مباشرة وعلى تصعيد الحدث الثوري في الساحات والميادين بمختلف الوسائل والآليات.
اليمن كانت هدفاً رئيسياً من أهداف المشروع القطري الفوضوي والمتخلف، وعلى الرغم مما ارتكبه وأحدثه هذا المشروع من فوضى وجرائم وتخريب وتضليل للعقول وتزييف للحقائق، الا أن المهمة كانت مكلفة ومخزية للغاية وبمثابة الورطة والفضيحة، فها هنا في اليمن تكشفت الاوراق والأدوات وتجلت الأبعاد والحقائق وانتزعت الكثير من الأقنعة، ومع ذلك فالأزمة مازالت قائمة، لا حلول تظهر على السطح، لا فرز جديد للقوى والافكار، بل تستمر التجاذبات السياسية التي لا معنى لها ويستمر التيه والعمى والنزيف اليومي.. وفي وسط هذا الركام الذي أخذ شكل الثورة، تفاجئنا القاعدة كل يوم بضربات موجعة وفتح جديد، حتى أصبحت مدينة تعز في مرمى تفكير وأهداف تنظيم القاعدة لاتخاذها ولاية جديدة، قد يبدو تفكير كهذا مبالغاً فيه، لكنه في ظل الموقف المختل من القاعدة لن يكون الامر مبالغاً فيه، فالانفلات الأمني الحاصل فيها وكثرة الحوادث الامنية التي أصبحت بشكل يومي، سيخلق أنصاراً للقاعدة ويوفر لها بيئة مناسبة لتواجدها وعملياتها الارهابية.
القاعدة إحدى القضايا والمشاكل التي وُظفت واستخدمت كورقة سياسية، لممارسة الكيد السياسي وتضليل وعي الناس بحقيقة القاعدة.. في البدء رددوا كثيراً أن لا وجود للقاعدة، ثم قالوا فزاعة صالح، وها هم اليوم يقولون قاعدة المخلوع، حتى وهي تنفذ عمليات انتحارية وتقتل بالعشرات والمئات من ابطال الحرس الجمهوري والأمن البواسل.. هكذا تم التعامل وطرح قضية القاعدة ومنذ ما قبل الازمة حتى اليوم، وكأن عناصر القاعدة مجرد دمى يحركها شخص واحد لم يتمكن حتى وهو في قمة السلطة من أن يحمي نفسه في عقر داره من هجوم إرهابي.. هكذا تم اختزال القاعدة في بؤرة ضيقة وتم تضليل العقول كثيراً بحقيقة القاعدة لإخفاء حقائقها الجوهرية وارتباطاتها المتعددة.
لم تُطرح قضية القاعدة كمشكلة وطنية تهم الجميع وفي سياق مشروع معرفي وثقافي، لم تُطرح كتنظيم عقائدي سلفي التوجه، يحمل مشروعاً جهادياً ومتطرفاً، لم تفكك منظومته الثقافية والفكرية المتطرفة، أو تدرس وتحلل البيئة الثقافية والاجتماعية التي يترعرع وينمو فيها.
هذه حقائق وأسس جوهرية تم تجاهلها وعدم التطرق إليها كونها ستقود الى سلسلة من الحقائق المرتبطة بها والتي من المؤكد أن علي محسن الاحمر والزنداني وجامعة الايمان من حلقاتها الرئيسية.. وما يحدث في المحافظات الجنوبية من تمدد وتنقل غير طبيعي لتنظيم القاعدة يثبت حجم الإفلاس السياسي والوطني للمشترك، وحجم التضليل الذي يمارس على الشعب اليمني، فالحقيقة التي أصبحت مؤكدة بكل المقاييس المنطقية والمعرفية أن هذا التمدد والتنقل يحدث ويتم على راحلة تنظيمية يمثلها الجناح المتطرف في الاصلاح للسيطرة على المحافظات الجنوبية والشرقية.






تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:14 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-26267.htm