جميل مفرح - أية فجيعة نحتمل التعايش معها؟! وأي حزن يستطيع القلب احتماله؟! أي خسران وحسرة وأي ألم وافتقاد تصلاه المشاعر مذعنة للقضاء الإلهي والمشيئة الربانية التي لا مناص من تقبلها والإيمان بها؟!
أية أهات حزن وعبارات أسف نستطيع بها أن نجبر ما أدركه الكسر وأحاط به القدر من مشاعر أجبرها على الانهزام والخضوع وجبلها على الاعتراف بالخسران الفادح لا شيء دونه ولا أقل مرتبة منه..
الأستاذ والزميل الأخ والصديق محمد عبدالإله العصار على غير عهدنا به يمضي بعيداً دون تلويحة وداع نستأنس به في غيابه أو وعد بالرجوع نعقد عليه آمال تجديد اللقاء..
رحل هذا الأستاذ القدير وكأنه مصر على أن تبلغ الخسارات ذروتها، وأن تحكم الأحزان والحسرات قبضتها على قلوبنا المتآكلة المتهالكة.. إيه.. إيه.. لو أن الحبر يستطيع أن يرسم الحزن، ولو أن الكلام يستطيع أن يقول الحسرة، ولو أن العويل والدموع والرثاء يستطيع أن يجسد ما يعتمل في صدورنا، ونحن نسلم بواقع هذا الرحيل المفجع، فتسود في وجوهنا الجهات ويذوب في أعيننا الجليد لينهمر جمراً حارقاً ورصاصاً خارقاً لجدران الصمت..
أستاذ محمد العصار على من سأستطيع أن أبكي الحسرات فيك؟
أعليك شاعراً داعب بعشقه الكلمات والخيال واللغة منذ رهافة حرف وبواكير غرام؟ أم عليك صحفياً حقيقياً حراً شجاعاً مواجهاً، تجتذبه المثل حتى قراراتها ويتحاشاه رهبة ما سواها أو دونها؟
زميلاً، صديقاً حد التماهي مع أحزان وأفراح زملائك وأصدقائك، وحد مواقفك ووقفاتك، تعصبك وتعاطفك، تآلفك إنسجامك، حميتك وغيرتك، حد ما أفرطت به من حب وما جدت به من وفاء؟.. إن ذلك لعمري صعب على بشر مثلنا مهما اعتقدنا أننا ندرك المثل ونجيد الوفاء، مهما أدعينا الشجاعة وائتزرنا بالحقيقة، ومهما أدعينا الشبه بك والاقتداء بمواقفك وبشخصيتك التي لا يستطيع سواك أن يرتديها.
أستاذي العزيز.. أيها الراحل جسداً والباقي اسماً وقيماً وذكريات لن تجرؤ الأنواء والتعريات والأسباب أن تنال منها، ولن تستطيع حتى أن تدنو من قدسيتها ومثاليتها وحميميتها في إدراكنا.. أعلم يقيناً لو أن دوري كان سابقاً لك في الوداع وذهب عنك كما ذهبت أنت عنا لفعلت أنت أكثر مما افعله ولقلت وكتبت أروع وأصدق مما أقوله وألفظه ولكنت الآن أنام قرير العين مطمئن الأثر، ولكانت صداقتك وزمالتك وأستاذية جوهرك الناصع النقاء من ثمين ما أتركه من بصمة اعتزاز وفخر وما كتبته من قصائد عشق وحنين..
محمد العصار.. منذ مطلع فبراير الماضي فقط اقتربت من شغاف قلبك وقرأت ما بداخلك من شعر وحب ووفاء، ولكنه قدر لا يستهان به على الإطلاق، إنه بحجم أزمنة من الترحل في الكتابة والحب.. كانت وصاياك الأبوية الحنونة دفاتر تجربة راجعنا فيها الكثير من دروس الحياة والمهنة، وكانت مخاوفك وعواطفك الجياشة تجاهنا وتجاه المهنة وتقاليدها وفنونها إيماءاتك وتصريحاتك، ابتساماتك وصرامتك، أحزانك وتربيتاتك..، كل ذلك كان بمثابة إشراقة عهد جديد في علاقتنا بك.. هكذا كانت أو هكذا كنا نظنها، لم نكن نعلم أنها وصايا الأب الذي يحزم وصديقنا الحميم أنك لم تكن تعتني بنفسك قدر اعتنائك بأوردة التقائك بنا وبالآخرين من حولك.. ولكن مع ذلك علينا الاعتراف بأننا لم نأبه جيداً بما أنت عليه.. كان علينا أن نهتم بك ونعتني بكل ما كنت تتمثله من وهج الحب والوفاء..
على كل حال تجهش الكتابة عنك في هذه اللحظات بالبكاء فلا تستطيع أن تقول شيئاً مما تريد، ولا أظنها ستستطيع إلا أن تذعن للمشيئة والقدر وتتجرع بمطلق الحزن تلويمة وداعك..
|