محمد علي عناش -
ليست المرة الأولى التي يطل بها علينا الشيخ عبدالمجيد الزنداني ببياناته التي تتضمن في آن معاً النصح وتتضمن شروطاً وتحذيرات دينية وسياسية كثيرة، بل ففي كل منعطف خطير يمر به الوطن يظهر الشيخ الزنداني بمثل هذه البيانات التحذيرية والتي غالباً ما تنتهي بالبلاد الى أزمة أو إلى حروب ومواجهات.
غير أن بيانه الأخير حمل في طياته مدلولات مرحلية خطيرة، وجاء في ظرف يمني معقد وحساس، وفي مرحلة تحولات خطيرة تعيشها البلاد، بقدر ما فيها من طموحات وملامح ايجابية، بقدر ما فيها من فوضى طاغية وأهداف نفعية، وأجندة تآمرية وتدميرية ممتدة على طول البلاد وعرضها، والغريب أنها جميعاً تتكلم باسم الثورة والتغيير وثورة الشباب.. حتى تنظيم القاعدة يطرح نفسه بهذا الشكل بل ويرتكب عملياته الارهابية والاجرامية البشعة تحت هذه الذريعة، كجريمته في السبعين التي يندى لها جبين الدين والتاريخ والانسانية..
الشيخ الزنداني الذي سجل للشباب في الساحات براءة اختراع، لم يأتِ بيانه الاخير هذا بحلول ومخارج حقيقية وموضوعية لأزمة البلاد، ولم يأت ليعزز الايجابي في المرحلة ويعزز إرادة الشباب وطموحاتهم في بناء الدولة المدنية الحديثة وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية ودولة المؤسسات، وإنما أتى بمطالب واشتراطات هي على النقيض تماماً من إرادة الشباب وتطلعاتهم المستقبلية، بل أتى أيضاً وبلغة الإلزام والحتمية، ليعزز واقع التطرف والارهاب، ويضع النقاط على الحروف في شكل الدولة ونظامها السياسي، لكنها الدولة الدينية التي يضع تصوراتها ويحدد أركانها الزنداني وجماعته من أهل الحل والعقد- كما يحلو لأنفسهم أن يتسموا به.
محاولات الزنداني في ترويض الحكام ليست وليدة لقائه الاخير بالرئيس عبدربه منصور هادي، بل هي محاولات عتيقة لم يمل من تكرارها وبأساليب متعددة منذ الأشهر الاولى لثورة سبتمبر 1962م فيما كان الضباط الاحرار يخوضون معارك الدفاع عن الثورة ضد قوى وفلول الملكية التي جمعت قواها وإمكاناتها للانقضاض على الثورة والجمهورية الوليدة، وفي سبيل ذلك قدم أولئك الضباط أرواحهم الطاهرة انتصاراً للثورة وأهدافها ومبادئها الخالدة، كان الزنداني وبعض القوى التقليدية يحضرون لعقد المؤتمرات الجماهيرية ومشغولين بها، كمؤتمر عمران وخمر، لممارسة ما يشبه الابتزاز السياسي على حكومة السلال وترويضها والضغط عليها، لفرض أمر واقع على مرحلة ما بعد الثورة، وفرض أهداف مغايرة ومتناقضة مع أهداف الثورة ولا تعبر عن مضمونها وجوهرها التحرري والشعبي، وإنما أهداف تلتف على الثورة وتحتويها لصالح القوى التقليدية والدينية، الكثير من هذه الاهداف تضمنها بيان الزانداني الأخير، وتكررت نفس التوجهات والمساعي لترويض كل مرحلة جديدة وتطبيعها ومحاولة احتوائها والسيطرة عليها، فمنذ الايام الاولى لتحقيق الوحدة المباركة ظهر الزنداني ببياناته وجمهرته وتحريضاته وكثرت تحركاته وأنشطته في كل الاتجاهات على المستوى السياسي والمنبري والقبلي ووصلت الى داخل معسكرات الجيش والامن، والتي بدورها أفضت الى حرب صيف 1994م..
هذه الحرب التي كانت لها انعكاسات سلبية خطيرة على المستوى السياسي والاجتماعي، لعبت الفتوى الدينية دوراً كبيراً وخطيراً في تأجيجها وتعميقها، لأن رجال الدين بخطابهم الديني المتطرف تعاطوا مع هذه الحرب وكأنها حرب مقدسة بين دار كفر ودار إيمان، ووصل الامر الى حد إصدار فتاوى تكفير وقتل جماعي وفتاوى استباحة وفيد، وكأننا في حال غزوة من غزوات الفتح الاسلامي.
بهذه الطريقة يفكر رجال الدين المتطرفين بقيادة الزنداني، ويقدمون حلولهم ومعالجاتهم لمشاكل وقضايا البلاد والأزمة الخانقة التي يعيشها ويكتوي بنارها الشعب اليمني..
بهذه الطريقة يقدم الزنداني حلوله ومعالجاته لإشاعة روح السلام والإخاء والتوحد بين أبناء الوطن والدين الواحد، ففي حين كان بالأمس القريب وفي الحرب السادسة مع الحوثيين من أكثر الداعين والمحرضين على ضرورة الحسم العسكري مع الحوثيين، ومن أكثر المعترضين على قرار إيقاف الحرب ونزيف الدم في صعدة، نراه اليوم عبر بيانه وفي لقائه الاخير مع رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي يدعو الى وقف الحرب على تنظيم القاعدة الاجرامي، ويدعو الى الحوار مع هؤلاء القتلة، وكأن جريمة ميدان السبعين المأساوية لم ترف لها جفون الزنداني، لذا لم يدنها ويستنكرها، ولم يدنها ايضاً الشيخ الزنداني الصغير، بل أفتى بواجب قتال الامريكيون الذين يقتلون المسلمين في أبين، والامريكيون هؤلاء الذين يقصدهم الزنداني الصغير، ليسوا إلا أبطال الجيش اليمني الذين يخوضون معركة الدفاع عن الوطن والشعب ضد الارهاب، وضد هذا الشر والكفر والاجرام المسمى تنظيم القاعدة.
يضيق البعض عندما تتناول بعض الاقلام وباسلوب ناقد شخصية مثيرة للاهتمام كالشيخ عبدالمجيد الزنداني، فيأتي الرد الجاهز من هؤلاء بأن لحوم العلماء مسمومة، رغم أن النقد لم يكن فيه ابتذال وإسفاف، وإنما نقد فكري وسياسي لأفكار ورؤى وتصورات الشيخ الزنداني الفكرية والدينية، ومواقفه السياسية تجاه مختلف القضايا والمسائل..غير أن هذا الضيق الذي يختصر الرد في ثلاث كلمات «لحوم العلماء مسمومة» يحمل في مضمونه اكثر من دلالة، وهي أن هذا النقد من وجهة نظرهم موجه ليس لبشر من الناس العاديين الذين يصيبون ويخطئون وإنما لشخص معصوم من الخطأ، وفي ها هنا تكمن المشكلة الحقيقية في استلابنا وخلل تفكيرنا ووعينا، وهي أن إرادة التفكير الحر لدينا معطلة ومستلبة لأنها مأسورة ومرهونة بإرادة تفكير ووعي اشخاص بعينهم، نعتقد أنهم معصومون من الخطأ وأنهم يمتلكون الحقيقة، فنغدو مجرد وعاء لأفكارهم وأوامرهم، فنفكر كما يفكرون ونعتقد كما يعتقدون ونصرح كما يصرحون، وبالتالي ننفذ ما يلزموننا به من أوامر وتوجيهات..
وهذا الامر هو غاية ما يسعى اليه رجال الدين لتكريس سلطتهم الدينية والسياسية الرديفة لسلطة الحاكم المستبد..
ومن هنا أتت فكرة أهل الحل والعقد لفقهاء السلطة طوال مراحل عصور الانحطاط والاستبداد في تاريخنا الاسلامي..
ومن هذا المنطلق يرفض رجال الدين مشروع الدولة المدنية ويعتبرونها توجهاً ضد الدين وضد القيم الاسلامية، لأن الدولة المدنية تسلبهم سلطتهم وتحول دون استبدادهم، لانها دولة المجتمع التي يتساوى فيها الجميع امام القانون، ويحترم فيها العقل والعلم وإرادة الإنسان وتفكيره الحر والمسئول، كما ان الدولة المدنية هي دولة العقد الاجتماعي التي ترسخ سلطة الشعب ونهج التداول السلمي للسلطة، لا سلطة الأفراد والجماعات والكيانات والهويات القاتلة، لذا فهي الضمان الرئيسي لحماية الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية من الاستبداد ومن الانقسامات والصراعات والتناحرات على أسس طائفية أو حزبية أو مذهبية.. الخ.
من هنا فمفهوم الدولة المدنية يعاني من اختلال وتشوه كبير في بنية الوعي، لذا يرفضها رجال الدين ومختلف الجماعات الاسلامية المتطرفة وعلى رأس هذه الجماعات أنصار الشريعة، وبالتالي يتوحدون في الدعوة إلى إقامة الدولة الدينية التي يقوم فيها الحكم على سلطتين مستبدتين، سلطة سياسية مطلقة للحاكم، وسلطة دينية مطلقة لرجال الدين أو فقهاء السلطة، والذين قد يتسمون بعدة مسميات كأهل الحل والعقد أو هيئة الفضيلة او هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلى هذا الأساس يتم إلباس الحكم في الدولة الدينية ثوب القداسة والعصمة الالهية التي لايجوز شرعاً معارضتها او انتقادها، فتلغي بذلك ارادة الرعية وتصادر حريتهم وتنتهك حقوقهم وتعطل لديهم مقومات العقل الواقعي والتفكير العلمي والمنطقي.
بهذا النمط من التفكير والثقافة تأسست ونشأت الأنظمة والدول العربية والإسلامية التي وضعت الشعوب بين مطرقة الاستبداد السياسي وسندان الاستبداد الديني، فخرجنا مبكراً من العصر وهربنا من حقائقه ومنجزاته العلمية والمعرفية الهائلة في جميع المجالات، إلى تاريخ السلف وإلى تصورات وحلول غيبية ومثالية، فتدنى لدينا مستوى التفكير وتضآلنا معرفياً وعلمياً، فتأخرنا وتخلفنا، فتطرفنا، ثم أخذنا نبحث عن هويتنا وحلولنا في المذهب والطائفة والفرقة والعشيرة، ونلبس مَنْ نشاء من هذه الفرق من تتوافق مع مصالحنا وأهوائنا ونزعاتنا، رداء الفرقة الناجية من النار، ونجعل من بقية الفرق وقوداً لها، ليغدو الحزام الناسف أداة التعبير والحوار لدينا..
لذا أجزم بيقين مطلق أن حلول ومعالجات هذه الأزمة اليمنية الخانقة، وهذه الظروف العصيبة التي نمر بها ونكتوي بنارها، ليست متوافرة لدى الشيخ عبدالمجيد الزنداني، وإنما في إعادة الاعتبار للعقل والتفكير الواقعي والعلمي، وفي النظر إلى مشاكلنا وقضايانا كحقائق على الأرض اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وفي الحوار الوطني البنَّاء وترسيخ قيم السلم والحرية والديمقراطية وفي بناء الدولة المدنية، دولة المؤسسات والنظام والقانون.