أحمد الحبيشي -
مما له دلالة عميقة أن يرتبط التشوه الذي أصاب المسيحية بعقائد التثليث والألوهية والربوبية والتجسيم التي تجعل الله والمسيح والروح القدس عنوانـا للاتحاد المقدس بين الله والملك ورجال الدين (الربانيين) الذين يرثون الرسل والأنبياء بحسب إنجيل لوقا الذي تم تدوينه في عهد بولس وتحت وصايته .. لكن أخطر ما دخل على العقيدة المسيحية من انحرافات كانت تلك التي افترى فيها بولس على المسيح بن مريم بقوله في إحدى رسائله إن يسوع المسيح قال : (أيها الناس أطيعوا سادتكم بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم)، ثم يقول في رسالة أخرى (جميع الناس الذين هم تحت نير ملوكهم وسادتهم فليحسبوا الملوك والسادة مستحقين كل إكرام لئلا يفترى على اسم الله وتعاليمه بالفتن الدائمات)، ثم يكتب إلى تلميذه تبطس (ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا) (تاريخ المسيحية - مقارنة الأديان) د . أحمد شلبي - الطبعة العاشرة 1998م.
وبسبب هذه الروايات التي نسبها بولس إلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، انقسم المسيحيون إلى مذاهب وضعية متناحرة، وتميز تاريخ المسيحية الجديدة على أيدي بولس والملك قسطنطين والأباطرة اللاحقين بالقسوة والاضطهاد والحروب والظلم والقمع.
سبق لنا أن أوضحنا في الحلقة السابقة من هذا المقال، أن رسائل الكاهن شاؤول بولس أعادت صياغة جوهر الديانة المسيحية بعد أكثر من مائتين وخمسين عامـا من وفاة المسيح عليه السلام وحوارييه ورسله الأوائل. مع العلم أن بولس لم يعرف ولم ير المسيح إطلاقـا، ولم يعاصر حوارييه وأتباعه الأوائل بل اعتمد على نقل الروايات عنهم بواسطة رواة موتى . وبموجب ذلك أصبحت المصادر الرئيسة للديانة المسيحية تتكون من قسمين : الأول وهو الأسفار التاريخية وبضمنها الأناجيل التي وصفت حياة المسيح وتحدثت عن معجزاته وتعاليمه، أما القسم الثاني فهو أعمال الرسل التي وصفت حياة الرسل وجهود الرسول بولس شاؤول على وجه الخصوص في جمع وتدوين الكتب المقدسة للعهدين الجديد والقديم .
وبالرجوع الى الترجمة العربية لدائرة المعارف الفرنسية (الجزء الخامس - ص 117) يتضح إن هذه المصادرــ بقسميها ــ من عمل بولس الرسول وأتباعه ، فيما يرى كثير من الباحثين المسيحيين أن عدد الأناجيل التي دونت حياة وتعاليم المسيح تزيد على الأربعين أنجيلا، ولم يعتمد منها سوى الأناجيل الأربعة التي يتكون منها العهد الجديد. ولا يستبعد هؤلاء الباحثون أن تغييرا حدث على الأناجيل الأربعة بالحذف والإضافة من قبل أتباع بولس بعد ترجمتها من اللغة الآرامية إلى لغات الأمم التي دعاها بولس والملك قسطنطين لاعتناق المسيحية سلمـا أم حربـا. بيد أن أهم ما يتضمنه العهد الجديد ـــ بالإضافة إلى الأناجيل الأربعة ـــ هو الرسائل الملحقة بها ، وبضمنها رسالة الرؤيا التي يقال إن بولس هو الذي كتبها باسم يهوذا، وترك فيها بصماته وأفكاره وتعاليمه الملكية التي تناقض سيرة المسيح. وتشتمل الرؤيا على ميثولوجيا تقول إن المسيح تنبأ بها بعد أن منحه الله القدرة على العلم بالغيب. وتنطوي هذه الميثولوجيا على نذير ووعيد بمصير ماحق لكل من يخالف عقيدة التثليث وعقيدة التجسيم، حيث سيرتبط ظهور المسيح المنتظر بعقاب أزلي ينزله الله بالمارقين والخارجين عن الناموس الإلهي، والذين سيلقون نارا محرقة في معركة ستندلع على تخوم بيت المقدس، وستقاتل فيها الأشجار والأحجار إلى جانب جيش الرب، حتى أنه لن يكون بمقدور أعدائه الاختباء خلف شجر أو حجر.
وتعود جذور هذه الرؤيا إلى ميثولوجيات التلمود الذي بشر في إحداها بمعركة (هرمجدن) المزعومة في فلسطين بين اليهود وغير اليهود . حيث زعم التلمود أن الأشجار والأحجار والطيور الجوارح ستقاتل في هذه المعركة إلى جانب اليهود عند ظهور المسيح المنتظر الذي بشرت به التوراة، وستبلغ جواسيس جيش الرب بكل من يختبئ خلفها!!
يتميز إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا - وهما من تلاميذ بولس - بالإضافة إلى الرسائل الواردة في العهد الجديد، بأنها تتطابق مع أفكار بولس والملك قسطنطين وأتباعهما الذين لم يكتفواـــ بعد ربط الديانة المسيحية بالملكية ــــ بإعادة صياغة مبادئ العقيدة المسيحية وشعائرها وشرائعها ، بل تجاوزوا ذلك الى إصدار أحكام تشريعية، والزعم بأن الله أوحى بها للمسيح الذي أورثها بدوره للرهبان والكهنة بواسطة الروح القدس بعد فرض عقيدة التثليث وتكفير وملاحقة وقتل كل من لا يؤمن بها.
ومن بين هذه التشريعات القول بوجوب طاعة الملوك والسلاطين ورجال الدين، والحط من مكانة المرأة وتحقيرها، والزعم بأن المسيح قال لأتباعه[ (أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح وأما رأس المرأة فهو رجل، ورأس المسيح هو الله، وعلى الرجل ألا يغطي رأسه لكونه صورة الله الذي خلقه على مثاله، وأما المرأة فعليها أن تغطي رأسها لأنها مجد الرجل، والرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل، لأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة خلقت من أجل إمتاع وخدمة الرجل) (رسالة كورنتوس - الإصحاح الأول - 3 - 10).
وبحسب دائرة المعارف الفرنسية ، فإن بولس ومن بعده الرهبان والكهنة كانوا يخترعون الروايات التي تعبر عن آرائهم ومصالح الملوك، ثم ينسبونها بعد ذلك إلى عيسى المسيح عليه السلام ، وكانوا أحيانـا يقولون إنهم استنبطوا تلك التشريعات من تعاليم عيسى التي أوحى بها الله إليه.
ولما كانت عقيدة التثليث موروثة من الثقافات الوثنية في أوروبا القديمة التي كانت تؤمن بوجود ثالوث مقدس هو الإله والملك والكهنة، فإن هذه العقيدة أصطدمت بعقيدة التوحيد التي بشر بها موسى والمسيح عليهما السلام . فقد زعم الملوك والرهبان الذين ساروا على خطى بولس والملك قسطنطين بأن الله هو الركن الأول للثالوث المقدس، كما قالوا بألوهية المسيح فأصبح ثاني الآلهة، ثم أضافوا القول بألوهية الروح القدس التي زعم الكهنة والرهبان ورجال الدين القديسون أنهم ورثوها عن أنبياء الله، وأنها تؤهلهم للاتصال بالله وتلقي العلم منه، ومعرفة ما لا يعرفه غيرهم من البشر وهو ما يفسر قيام بولس والملك قسطنطين على فرض صفة الربانيين على رجال الدين.
وعليه فإن عقيدة التثليث تفسر تأليه المسيح بأن أقواله ليست وصايا وتعاليم فقط ، بل شرائع واجبة التنفيذ لأنها من الله .. كما أن الأحكام والتشريعات التي يستنبطها الكهنة ورجال الدين (الربانيين ) هي من إلهام الروح القدس التي نقلها المسيح من الله إليهم. بعد أن أورثهم رسالته من بعده ، وجعلهم في منزلة قريبة من الرب.
ولا ريب في أن ذلك يندرج ضمن الكفر بالله القائل: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ} (المائدة 73).والقائل {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} (المائدة 72). ناهيك عن أن الله سبحانه وتعالى ندد بالذين {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} {التوبة 31).
والثابت أن عقيدة التثليث جوبهت بمعارضة من الكنائس الشرقية التي كان أتباعها مشبعين بعقيدة التوحيد، ما أدى إلى قيام الملك قسطنطين إمبراطور الروم بعقد مجمع نيقيه (NEACIA) سنة 335م، ليضع حدا لهذه الاختلافات من خلال قرارات هذا المجمع التي أكدت على ألوهية المسيح، وربانية رجال الدين فيما تركت موضوع ألوهية الروح القدس مفتوحـا للنقاش بعد أن فرضت عقيدة تأليه المسيح كشريك لله في التشريع واطلاق الصفات الربانية على رجال الدين. كما فرضت قرارات هذا المجمع عقيدة تجسيم صفات الله وزعمت أن المسيح هو ابن الله الذي خلقه من روحه وعلى صورته.
ومما له دلالة أن مجمع (نيقيه) بدأ مسيرة تثبيت عقائد بولس الملكية بإقرار عقيدة تجسيم صفات الله، وإقرار عقيدة التثليث، كمدخل لصياغة فكرة التفويض الإلهي الذي يستمد شرعيته الدينية مما يسمى الاتحاد الرباني المقدس بين الله والمسيح من جهة، وبين الملك ورجال الدين القديسين الذين يجسدون ظل الله وصورته على الأرض من جهة أخرى (راجع موسوعة المعارف الفرنسية - الترجمة العربية - ص 213) وهو ما فعله ملوك وأحبار بني إسرائيل الذين تعود إليهم عقيدة تجسيم صفات الله من خلال الزعم بأن الملوك والأحبار هم صورة الله على الأرض بعد أن نسبوا إلى موسى عليه السلام أن ربه أوحى له في التوراة قائلا : (إن الله خلق الإنسان على مثاله ). وقد رد الله سبحانه وتعالى على هذا الضلال الذي أصاب العقيدة اليهودية والعقيدة المسيحية بقوله في القرآن الكريم : (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير ) { (الشورى 11) و(قل هو الله أحد* الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحدٌ ) (سورة الإخلاص).وبقوله جل وعلا: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) (الأعراف 180)..بمعنى أن القول بتجسيم صفات الله هو ضرب من الإلحاد ، حيث لا يجوز وصف الله جل وعلا بغير ما وصف به نفسه، بحسب قول فضيلة العلامة اليمني الشيخ محمد معافي المهدلي في كتابه القيم (منهج الغلو والتطرف في ميزان اليهودية والنصرانية والإسلام). وفي وقت لاحق قام الإمبراطور تاديوس الكبير بعقد مجمع القسطنطينية عام 381م الذي أصدر قرارا بألوهية الروح القدس، وأطلق الصفات الربانية على رجال الدين والملوك ، وزعم أن هذه الصفات انبثقت من الله (الأب) وسكنت في المسيح (الابن). وبعد مرور حوالي مئتي عام من تاريخ فرض عقيدة ألوهية المسيح وعقيدة تجسيم صفات الله ، عقد رجال الكنيسة بدعم من الملك أوغستاين الثالث في القرن السادس الميلادي مجمع طليطلة عام 589م، وقرروا فيه أن الروح القدس تنبثق من الابن أيضـا وتسكن في رجال الدين الربانيين بوصفهم ورثته ، وهو ما أدى الى صراع دام بين الكنائس الشرقية والغربية بعد فرض هذه القرارات بالقوة وملاحقة وتعذيب وقتل كل من لا يعترف بقداسة رجال الدين والكهنة الذين كانوا يزعمون بأن الروح القدس والصفات الربانية موجودة فيهم، وهي التي ترشدهم وتعلمهم وتمنحهم القدرة على التنبؤ بالمستقبل، بعد أن نقلها إليهم المسيح الذي افترت عليه الأناجيل والرسائل والروايات بأنه كان يعلم الغيب ويمنح رسله وأتباعه القدرة على معرفة الغيب والمغيبات قبل الموت. وهو ما ندد به القرآن الكريم الذي أكد بأن الله وحده هو علام الغيوب ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ) (النمل 65).كما أمر الله رسوله الكريم : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون ) (الأعراف 188).و(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ) (الأنعام 50) .
وما من شك في أن التحالف بين الملوك ورجال الكنيسة لم يتسبب فقط في نقل الدين من مجال الإيمان النقي إلى مجال السياسة الملتبسة بتلوث المصالح والأطماع الدنيوية، بل أنه تسبب أيضا في استخدام الدين كغطاء لممارسة حروب التوسع الإمبراطوري والاضطهاد والاستغلال في عصر اقتصاد الخراج، بما في ذلك ممارسة أقسى صور الاضطهاد والتحقير بحق النساء، استنادا إلى آراء منسوبة إلى المسيح عليه السلام في بعض الرسائل التي صاغها بولس وأتباعه من رجال الدين بعد مائتين وخمسين عامـا من وفاة المسيح، وهي آراء موروثة من التراث الإقطاعي الإغريقي والوثني، وتتناقض جملة وتفصيلا مع السيرة النبوية للمسيح عليه السلام، والتي حظيت فيها المرأة بالتوقير والاحترام وعلو المكانة.
وبوسع كل من يقرأ إنجيل لوقا وهو من أتباع بولس وتلاميذه المخلصين، أن يجد في سطوره أفكار هذا الكاهن الذي لعب دورا محوريا في تغيير مجرى المسيحية. وهي أفكار تتناقض مع رسالة المسيح الذي كان يدعو للناس المسرة وللأرض السلام. حيث يعتبر إنجيل لوقا كل الأمم بل وكل المسيحيين الذين يخالفون آراء رجال الكنيسة كفارا ينبغي قتالهم وقتلهم. وقد أورد لوقا على لسان المسيح المفترى عليه (جئت لألقي نارا على الأرض فماذا أريد لو
اضطرمت.. أتظنون أني جئت لألقي سلاما على الأرض، كلا أقول لكم بل انقساما، لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن والابن على الأب والأم على البنت والبنت على الأم) (لوقا - الإصحاح 12 / 49 - 53).
ولا يكتفي إنجيل لوقا بهذا التحريف المنسوب إلى المسيح، بل يصل إلى الحد الذي يزعم بأن المسيح قال: (أما أعدائي الذين لا يريدون أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هناك واذبحوهم قدامي) (إنجيل لوقا - الإصحاح 19/ 27).. ومما له مغزى عميق أن هذا القول المنسوب إلى النبي عيسى عليه السلام كان الشعار الذي يزين عروش أباطرة روما منذ أن اعتنق الملك قسطنطين المسيحية في القرن الثالث الميلادي ، وحتى التوقيع على معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر الميلادي .
وعلى قاعدة هذا الانحراف والتشوه اللذين أصابا الديانة المسيحية شهد العالم المسيحي أبشع صور الاضطهاد الذي مارسه الملوك ورجال الدين ضد المخالفين، ووصل ذروته بعد ظهور الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية واختراع الآلات الميكانيكية وبضمنها آلة الطباعة التي مهدت الطريق لتطور المعارف وانتشار الأفكار الجديدة والعلوم التطبيقية، حيث أصبح بمقدور الناس رجالا ونساء التعلم واكتساب المعرفة وتكوين صورة جديدة عن العالم الواقعي، وقراءة الكتب المقدسة ، وعدم الاعتماد على تفسيرات رجال الدين القدامى للكتاب المقدس والروايات المنسوبة إلى المسيح عليه السلام .
وبتأثير هذه التحولات اكتسبت الصراعات القديمة بين المذاهب المسيحية أبعادا جديدة، وظهرت مذاهب جديدة تدعو إلى الإصلاح الديني، ولا تعترف بالحق الإلهي في الحكم، وتنكر قدسية رجال الدين ولا تقر لهم بوراثة الرسل والأنبياء عن طريق الروح القدس، ما أدى إلى ظهور محاكم التفتيش التي أراقت الدماء في مجرى التاريخ المسيحي، وقتلت آلاف المفكرين والعلماء وأحرقت عشرات الآلاف من الكتب والمؤلفات والتراجم القيمة.
وقد كان الشاعر الايطالي دانتي عميقـا في تحليله لمحنة المسيحية، خلال عصر محاكم التفتيش، حيث أعادها إلى جذورها في المحنة الأولى عقب الانقلاب الذي قام به في روما القديمة كل من الملك قسطنطين والكاهن بولس على رسالة المسيح بعد مائتين وخمسين عامـا من وفاته، وما ترتب على ذلك من تحريف لهذه الرسالة والانحراف بها الى مسار ضال.
ولخص دانتي في ملحمته الرائعة (الكوميديا الإلهية) التي تسببت في ملاحقته واضطهاده من قبل رجال الاكليروس المسيحي في محاكم التفتيش ، مشاعر مئات الملايين من المسيحيين الذين ابتلوا بهذا التحريف، حيث شن دانتي في هذه الملحمة هجومـا على عقيدة التجسيم التي فرضها الملك قسطنطين والكاهن بولس، ووصفهما بأنهما لم يجسما بهذه العقيدة الضالة صورة الله على الأرض، بل صورة الشيطان الذي تقمص رسالة المسيح ليمارس غوايته الأبدية في الكيد والتضليل باسم الله تارة، وباسم المسيح تارة أخرى، وبواسطة فكرة التفويض الإلهي للملوك ورجال الدين ( الربانيين) دائما وأبدا.. وهي ذات الفكرة التي تسللت إلى العالم الإسلامي من خلال الفكر الملكي السني والفكر الإمامي الشيعي .
في هذا الاطار التاريخي يمكن فهم الاختلافات والصراعات الدموية التي دارت بين أتباع المذاهب المسيحية على تربة الفكر الملكي المسيحي بعد تدوين الأناجيل والرسائل والكتب المقدسة، وما تضمنته من تشويه وتحريف لرسالة النبي عيسى عليه السلام بعد فرض عقائد التثليث والألوهية والربوبية والتجسيم.
وبتأثير تلك الصراعات الدموية انقسم العالم المسيحي إلى ثلاثة مذاهب رئيسية ، اثنان منها قديمان، وهما المذهب الكاثوليكي والمذهب الأرثوذكسي وتتبعهما طوائف أخرى أبرزها السريان والنساطرة واليعقوبيون والموارنة والمورمون، بالإضافة إلى مذهب معاصر جديد وهو البروتستانتي وتتبعه ثلاث طوائف هي الأدفنست وشهود يهوه والإنجيليون.
وتختلف معتقدات هذه المذاهب والطوائف بمستويات جذرية وثانوية، حيث يؤمن الكاثوليك بالنظام البابوي الذي يعطي الحق للبابا ومجمع الكنائس في إصدار فتاوى وإرادات بابوية هي في نظرهم (إرادات إلهية)، لأن البابا هو وصي المسيح، وبالتالي فهو يمثل الله. ولذلك فإن إرادته لا تقبل النقاش أو الجدل كما أن مقامه المقدس لا يقبل النقد ، ولحمه مسموم وعصي على الجرح .. وقد سبق أن وردت هذه الفكرة في التلمود الذي زعم بأن النبي موسى قال لأتباعه :(من يجادل أحباره ومعلميه فقد أخطأ، وكأنه جادل العزة الإلهية واشتهى لحوم الملائكة) (الكنز المرصود في قواعد التلمود ص 52).
وبالمقابل يحصر الأرثوذكس الإرادة الإلهية في رجال الأكليروس التابعين للكنائس الشرقية فقط ، بعد انفصالها عن كنيسة روما الغربية منذ اعتناق الملك قسطنطين المسيحية. ويتمحور الخلاف بين هذين المذهبين حول طبيعة المسيح، حيث يعتقد الكاثوليك بتجسيم صفات الله وبعقيدة التثليث . فيما لا يؤمن الأرثوذكس بعقيدة التجسيم ولا يقرون بالصياغات التي أقرتها المجمعات الكنسية الغربية لعقيدة التثليث . لكنهم يؤمنون بإله واحد في ثلاثة أقاليم غير متساوية في الخواص، لأن طبيعة المسيح من وجهة نظرهم تتميز باتحاد لاهوته وناسوته بغير اختلاط أو امتزاج بطبيعة القديسين والملوك الربانيين، على العكس من الكاثوليك الذين يؤمنون بأن الروح القدس هي من طبيعة الله والمسيح، ومنبثقة عن كليهما، ومنقولة إلى رجال الدين والملوك الربانيين الذين يطيعون أوامر ونواهي الكنيسة. حيث يتوجب على الناس بالضرورة طاعة ملوكهم الذين يمنحهم رضا رجال الدين عنهم قبسـا ربانيا من الروح القدس بصفتهم ورثة المسيح والرسل والأنبياء.. ويتفق الكاثوليك والأرثوذكس في أن الخلاص من الخطايا يكون بواسطة الإيمان بالله وبالمسيح ربـا ومنقذا.
وبموازاة هذين المذهبين والطوائف التابعة لهما يعتقد البروتستانت والإنجيليون وشهود يهوه والأدفنتست بأن المسيح كان إنسانـا كاملا، وبصفات بشرية خالصة لا تشبه صفات الله. وأن ولادته تمت مباشرة من الله. ولذلك فإنهم لا يؤمنون بوحدة لاهوته وناسوته ، وينكرون أن المسيح هو ابن الله ويحمل صفاته أو حتى بعض صفاته، كما أنهم لا يؤمنون بأن الخلاص من الخطايا يكون بواسطة الإيمان بربوبية المسيح بل بواسطة الإيمان بالله والبعث في يوم القيامة والأعمال النافعة للناس في الدنيا.
وفيما يعتقد الكاثوليك والأرثوذكس بأن الكتاب المقدس يتكون من الأناجيل والأسفار والرسائل والرؤيا، كما وردت في العهدين القديم والجديد باعتبارها كلها (وحيـا ثانيـا )من الله، بالإضافة إلى (الوحي الأول)الذي أنزله الله على النبي موسى وأمه الخائفة ، والنبي عيسى وأمه العذراء ، لا يؤمن البروتستانت والإنجيليون والأدفتست وشهود يهوه بما يسمى (الوحي الثاني) حيث يشككون بصحة الأسفار والروايات التي نسبها الرسل والملوك إلى المسيح استنادا الى رواة موتى، ويعتقدون بأنها محرفة ومدلسة، كما أنهم لا يعتقدون بحصر تفسير الكتاب المقدس على رجال الدين القدامى واللاحقين فقط، لأنه - بحسب وجهة نظرهم - حق وواجب لكل مؤمن يتمتع بصحة قواه العقلية وبالقدرة على التعلم واكتساب المعارف .
وإذ يتفق الكاثوليك والأرثوذكس في الاعتقاد بمعرفة المغيبات قبل الموت وبقداسة رجال الدين وبشفاعة المسيح والعذراء والقديسين يوم القيامة، فإن البروتستانت والإنجيليين وشهود يهوه والأدفتست لا يعترفون بالكهنوت ولا يؤمنون بقداسة رجال الدين وينكرون الشفاعة والمغيبات، لأن الروح القدس هي من صفات الله والمسيح فقط ، أما الشفاعة والعلم في الغيب فإنها من ملكوت الله وحده لا غير، ولا يمكن لأحد غير الله أن يعلم بها حتى المسيح والانبياء الذين سبقوه.
في هذا السياق التناحري يختلف الكاثوليك والأرثوذكس على حدود الحق الإلهي في الحكم ووصاية رجال الدين الذين يرثون المسيح والأنبياء على الدين والدولة، حيث لا يؤمن البروتستانت والإنجيليون وشهود يهوه والأدفنتست بالحكم الإلهي، ولا يعتقدون بأن رجال الدين هم الورثة الحصريون لتعاليم المسيح، ويقولون بضرورة الفصل بين الدين والسياسة ، وبين الكنيسة والدولة التي يعتبرونها شأنـا دنيويـا لا شأن لمن يحكمها بفكرة التفويض الإلهي والحكم الالهي .
ويبقى القول أن جذور الكثير من المعتقدات المذهبية الوضعية التي سادت التاريخ المسيحي تعود إلى الموروث الوثني والإسرائيلي الTسابق لظهور المسيح عليه السلام، لكن بعضـا من هذه المعتقدات انتقل إلى المذاهب الإسلامية التي تأسست ـــ في النصف الثاني من القرن الهجري الأول ـــ على تربة العلاقة بين الدين والنظام الملكي الوراثي بعد وفاة الرسول وانتهاء الخلافة الراشدة والانتقال إلى الحكم السلالي الوراثي، وما ترتب على ذلك من تشوهات وانحرافات وصراعات وثورات تميز بها التاريخ الإسلامي ، وانعكست آثارها السلبية على توتر العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع ، منذ البدايات الأولى لنشوء المذاهب الدينية حتى الآن، حيث لا يزال الاستخدام السياسي لموروث هذه الصراعات المذهبية يلعب دورا ضاغطـا على مشاريع بناء الدولة المدنية الحديثة في العالم الإسلامي وبضمنها اليمن.
|