د‮. ‬قــائد‮ ‬محمد‮ ‬عقـــلان‮ ‬ -
من الملاحظ أن رقعة الأنظمة الديمقراطية باتت في تزايد مستمر، لتشمل معظم دول العالم وفي مختلف القارات، بما في ذلك أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية واللاتي كُن يشكلن حتى الأمس القريب أكبر معقل لجيل من الأنظمة العسكرية السلطوية ذات الحزب الواحد،‮ ‬والتي‮ ‬يحكم‮ ‬زعماؤها‮ ‬مدى‮ ‬الحياة،‮ ‬ويراهنون‮ ‬بازدياد‮ ‬على‮ ‬الحلول‮ ‬العسكرية‮ ‬والقمعية‮ ‬لمشاكل‮ ‬هي‮ ‬ذات‮ ‬طبيعة‮ ‬سياسية‮ ‬واقتصادية‮ ‬بالمقام‮ ‬الأول،‮ ‬بالضبط‮ ‬مثلها‮ ‬مثل‮ ‬كثير‮ ‬من‮ ‬الأنظمة‮ ‬العربية‮.‬ بيد أنه على الرغم من مثل هذه المقاربة بين المنطقة العربية وتلك المناطق الجغرافية، إلاّ أن البلدان العربية- على عكس تلك المناطق- تبدو وحتى اللحظة بأنها ليست على وئام مع الديمقراطية، لعدة أسباب منها ماهو ذاتي، ومنها ماهو خارجي، إلاّ أننا هنا لن نذهب مع كل تلك الأسباب مجتمعة، وإنما سنقصر الحديث على نمط الأفكار والإدراك المتبادل بين القوى السياسية الرئيسية التي هيمنت على المشهد السياسي في المنطقة العربية، بوصف ذلك من وجهة نظري يعد العامل الأبرز والحاسم في رسم المحددات الأساسية للفضاء العام لمجرى الحياة السياسية‮ ‬في‮ ‬البلدان‮ ‬العربية‮ ‬سلباً‮ ‬أو‮ ‬إيجاباً‮.‬ وفي هذا السياق نجد ان القوى السياسية الرئيسة التي شهدتها المنطقة العربية على اختلاف مشاربها الفكرية وتوجهاتها السياسية سواءً في سياقها الإسلامي أو القومي أو الاشتراكي قد تقاسمت ورعت نوعاً من الأيديولوجيا الشمولية التي تقوم على نوع من الادعاء أو الإيمان المطلق باحتكار الحقيقة وصواب الرؤية وسلامة المنهج، مع تبني المواقف المسبقة لاقصاء واستبعاد الآخر والنيل منه لا استيعابه، بالطبع مع الاختلاف في الطروحات الفكرية والفلسفية التي تستند إليها هذه القوى في تبرير مواقفها ونُهجها السياسية، والتي هي في الأساس متناقضة مع‮ ‬بعضها‮ ‬البعض‮.‬ وفي إطار ذلك كان الحديث عن الديمقراطية والحكم الصالح وعندلة النظام وشرعيته أو ظلمه واستبداده في خطابات وطروحات ومواقف هذه القوى لايستند عادةً إلى معايير موضوعية وثابتة من شأنه التأسيس للحياة الديمقراطية والانتصار لهموم وتطلعات الجماهير في العيش بحرية ورفاهية في كل الأحوال، وإنما كان ومازال يتحدد سلباً وإيجاباً تباعاً لموقع هذه القوى أو تلك من السلطة أو النظام قرباً أو بعداً، فإذا كانت من المقربين كان النظام من وجهة نظر هذه القوة مثالاً للعدالة والحرية، الحكم الصالح الذي يجب ان ترفع الأكف تضرعاً لبقائه، وإذا‮ ‬كانت‮ ‬هذه‮ ‬القوة‮ ‬من‮ ‬المبعدين‮ ‬بصرف‮ ‬النظر‮ ‬عن‮ ‬أسباب‮ ‬هذا‮ ‬الابعاد‮ ‬عُدَّ‮ ‬هذا‮ ‬النظام‮ ‬نموذجاً‮ ‬للأنظمة‮ ‬القمعية‮ ‬سيئة‮ ‬الصيت‮ ‬والسمعة‮ ‬التي‮ ‬يتوجب‮ ‬اسقاطها‮ ‬والتخلص‮ ‬منها‮.‬ ولذا لاغرابة مطلقاً ان نجد ان كثيراً من الأنظمة العربية، بل وحتى بعض القوى الغربية قد استغلت مثل هذه التناقضات والمواقف النفعية والانتهازية لهذه القوى في تدعيم بقائها ومصالحها من خلال تسليطها ضد بعضها البعض عبر توزيع المواقع والأدوار المرحلية والمتبادلة بما‮ ‬يتفق‮ ‬والتوازنات‮ ‬المطلوبة‮.‬ فإذا كانت مرحلة الستينيات وجزء من السبعينيات قد صبت في صالح الصحوة القومية بزعامة رائدها الأول الزعيم العربي دون منافس الرئىس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وبعض من التوجهات الاشتراكية، على عكس التوجهات الإسلامية التي توارت قليلاً أمام الهالة الناصرية، بل ومُنيت أحياناً لأسباب مختلفة بالقمع والاقصاء، فإن مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، قد سارت على الضد من ذلك وربما بشكل أشد وقعاً، إذ حينها كان القوميون والاشتراكيون هم من يجب ان توجه لهم الضربات تحت الحزام لأسباب ودوافع غربية في معظمها، ومع الأسف الشديد فقد تلقوا ذلك وزيادة، وكان يتم ذلك عادةً على أيدي اخوانهم من الإسلاميين، الذين أتى دورهم في التمكين من القرب والنفوذ من مواقع صنع القرار والسلطة في معظم الدول العربية، اتساقاً مع نغمات الرغبة في (الجهاد) الإسلامي لتحرير أفغانستان من قبضة الشيوعية في ذلك الوقت، والتي‮ ‬كانت‮ ‬في‮ ‬غالبها‮ ‬تسير‮ ‬بدوافع‮ ‬وإعازات‮ ‬غربية‮ ‬أيضاً،‮ ‬وتحديداً‮ ‬أمريكية‮ ‬لامجال‮ ‬للاسترسال‮ ‬معها‮ ‬هنا‮.‬ مع ذلك كانت الفاتورة الأبرز والأكثر كلفة ليست من نصيب القوميين أو الإسلاميين فقط وإنما قد تحملتها كل الشعوب العربية التي ظلت تراوح مكانها في دائرة البؤس والشقاء نتيجة مثل هذه الرؤى والمشاريع السياسية التي لم تسفر وعلى مدى عدة عقود إلا على ركام من رماد الصراعات الداخلية التي عملت على استنزاف وتآكل رصيد الدولة الوطنية وإمكانياتها المحتملة في البناء والتطور والتأسيس لحياة الحرية والديمقراطية، على الرغم من ان المشكلة ليست كامنة لا في الإسلام ولا في القومية العربية، بل على العكس من ذلك فالأصل واحد والغاية واحدة،‮ ‬وإنما‮ ‬المشكلة‮ ‬تكمن‮ ‬في‮ ‬الإسلاميين‮ ‬والقوميين‮ ‬أنفسهم‮.‬ ولذا فإن تباكي مثل هذه القوى اليوم على الديمقراطية ليس مثيراً للاستغراب والاندهاش فحسب، بل باعث على السخرية والضحك أيضاً، وذلك لسبب بسيط، وهو أن هذه القوى قد شاركت بصورة أو بأخرى وبنسب متفاوتة في التآمر على الحرية والديمقراطية وشاركت في تشييعها أكثر من مرة، وبالتالي على مايبدو انه ليس هناك من طرف سياسي في الساحة العربية يستصرخ ببراءته من الاستبداد ويستحق التعاطف معه، بل تبقى كل القوى والأطراف السياسية وبنسب متفاوتة تنتمي إلى النادي العربي نفسه نادي (الديمقراطية بلا ديمقراطيين)، الذي اتسمت به الحياة السياسية‮ ‬العربية‮ ‬طوال‮ ‬المراحل‮ ‬السابقة‮.‬ وفي مطلع التسعينيات عندما أخذت المنظومة الاشتراكية في التداعي والسقوط التتابعي كقصور من رمال، أخذت التباشير تلوح في الأفق مفصحتةً عن موجة جديدة من الديمقراطية، وان هناك إمكانية أمام مختلف القوى والأنظمة السياسية غير الديمقراطية لاغتنام الفرصة وركوب هذه الموجة وبدعم غربي لم يكن متاحاً من قبل. وبالفعل- وكما سبق القول- استطاعت كثير من دول العالم الثالث اغتنام مثل هذه الفرصة وتحقيق انتقالة نوعية إلى حدٍ ما في مجرى حياتها السياسية سيما دول أمريكا اللاتينية أو الجنوبية التي عمدت قوى المعارضة فيها إلى مد جسور التعاون مع أنظمتها العسكرية القمعية بهدف التمهيد لانتقال السلطة سلماً وتدريجياً دون التلويح بمعاقبة أو الاقصاء الشامل للنخب السياسية الحاكمة والمتنفذة، بل استفادت من نظالها الطويل تجاه هذه الأنظمة السلطوية، ووصلت إلى قناعة ان الأسلوب الأفضل والأكثر نجاحاً للتداول‮ ‬السلمي‮ ‬للسلطة‮ ‬يعتمد‮ ‬على‮ ‬تأمين‮ ‬سلامة‮ ‬هذه‮ ‬النخب‮ ‬وليس‮ ‬ترويعها‮ ‬ودفعها‮ ‬إلى‮ ‬نقطة‮ ‬عدم‮ ‬قبول‮ ‬أمر‮ ‬سوى‮ ‬المواجهة‮.‬ بيد ان قوى المعارضة في المنطقة العربية، قد سارت ولاتزال كذلك على العكس من ذلك، فعلى الرغم من أن كثيراً من الأنظمة قد أبدت استعداداً وبدرجات متفاوتة للإصلاح والانفتاح السياسي الديمقراطي مجاراةً لوقع حركة التمدد الديمقراطي العالمي، إلاّ أن قوى المعارضة في كثير من الدول العربية لم تحسن استغلال مثل هذه الفرصة، وأظهرت أنها لاتزال تعيش بعقلية الماضي الاقصائية المغرمة بالاقتصاص والثأر من الخصوم، وذلك من خلال استعراض القوة في حشد الجماهير وتعبئتها في إطار نوع من الخطابات البلاغية والمتشنجة والتي لم تخل من التهديد والوعيد لأنظمتها السياسية دافعةً هذه الأنظمة إلى كبح مثل هذه التوجهات الديمقراطية التي بدأت بها، بل وربما اسقاط ورقة الضغط والدعم الغربي لمثل هذه التوجهات، على نحو باتت مثل هذه القوى بتحركاتها العشوائية وغير الممنهجة تشكل أكبر عقبة في طريق التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، بل لا مغالة في القول بأن قوى المعارضة هذه المغرمة بالتغيير الجذري والشامل هي من تمد هذه الأنظمة بما يمكن وصفه بـ»شرعية الابتزاز« داخلياً وخارجياً، بمعنى أن بقاء هذه الأنظمة على الرغم من علاتها تبقى من وجهة نظر الكثيرين أفضل من عملية التغيير‮ ‬التي‮ ‬تعد‮ ‬به‮ ‬مثل‮ ‬قوى‮ ‬المعارضة‮ ‬هذه‮ ‬في‮ ‬ظل‮ ‬سوابقها‮ ‬التاريخية‮ ‬وواقعها‮ ‬ومنطقها‮ ‬المبتذل‮ ‬والانتهازي‮ ‬للديمقراطية‮.‬ ولذا فإن قوى المعارضة العربية معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى بمواجهة نوعين من التحديات، الأول: التكيف والتغيير الذاتي بما من شأنه ان يفتح صفحة جديدة من العمل السياسي الذي يجعلها أهلاً لكل ماتقول وتدعي، والتحدي الثاني: يكمن في قدرتها في بلورة برنامج عمل واقعي يقوم على المصالحة لا المخاصمة مع النخب السياسية وترتيب عملية التداول السلمي للسلطة تدرجياً، ومن دون ذلك تبقى العملية الديمقراطية والمطالبة بالتغيير مسألة مفتوحة على كل الاحتمالات وليس هناك من يؤكد ان المنطقة على موعد حقيقي للتحول الديمقراطي الذي نتطلع إليه‮.‬