احمد مهدي سالم -
يزهو الفرح في مواكب الخلود وتتدفق شلالاته غامرة بالبهجة الملونة المصحوبة بأنوار مبهرة تضيئ اللحظة الحاضرة وتنير الزوايا القاتمة في قيعان النفوس فتشرق الوجوه بملامح انتعاش.. وومضات بشرى وعلامات اشتهاء لاحتضان الطبيعة البكر ومغازلة مفاتنها الآسرة بعشق طفولي ومعانقة الحياة بأمواج الشوق الجارف وترنيمات طقوس الحنين في رحلة الإبحار الى شواطئ المحار الى ضفاف الأمل والأمان وأجواء العيشة الهانئة، والهدوء النفسي المريح.. الذي فيه شفاء القلب الجريح، ذلك ما نأمل.. ذاك ما نحلم، ومن حقنا ان نحلم، وكل شيء عظيم يبدأ بحلم أو بفكرة.
بالفرح.. الانسان يتجدد ويشحن طاقته بحيوية الاصرار على البقاء ومقاومة قطعان الوحوش وصلابة العزم المتين وقوة الارادة الفولاذية لاحتمال مشاق السير في درب الحياة الطويل وفي وهاد صحارى الدنيا القاحلة حتى الوصول الى قطف عناقيد العنب وثمار السبول.. الى حيث تزهر الآمال ويرقص الانتماء النبيل ورغبة العيش الجميل، والنور من عينيك يسيل كماء عذب سلسبيل.
الأعياد.. مواسم الافراح وولائم البوح والبشرى ومتعة الاكتشاف للجديد للاصيل للتقييم المفيد للسير البهيج بتشابك الايدي على خطوط السير والجو عابق بالاريج وفلسفة الاعياد تقوم ضمن ما تقوم على أسس اذكاء جذوة الفرح وطرد سوداوية القرح، والانغماس في أجواء فرح تسعد القلب الذي انجرح في زمن ولَّى وفات وصار من أرشيف الذكريات.
وشهر اكتوبر عندنا أروع عيد بمذاق فريد وطابع جديد، فيه انجز اعظم انتصار على اسرائيل نصر (اكتوبر) 1973م وبطله الزعيم الشهيد محمد انور السادات ذاك على المستوى العربي او العروبي.. أما مع النطاق المحلي فثورة 14 أكتوبر التي انطلقت من جبال ردفان الشماء في م/لحج عام 1963م لتقتلع الوجود الاستعماري البغيض الذي دنس التراب وخلف لنا الارض الخراب والصحارى اليباب، وأذاقنا سوء العذاب ومعه العملاء والسلاطين لتفتح امامنا صفحات كتاب جديد او سفر نضالي مجيد بأنامل يمنية حرة، وأفواه مزمجرة تغني في حبور ومسرة بلاد حرة، »على ارضنا بعد طول الكفاح تجلى الصباح لأول مرة«، كما قال لطفي جعفر امان بصوت موسيقار اليمن احمد قاسم، ثورة اكتوبر على جنوب الوطن الابنة الوليدة والوريثة الشرعية لثورة 26 سبتمبر وكل حركات التغيير، تلازمت الثورتان في تأكيد ساطع على واحدية النضال اليمني، وامتزجت دماء مقاتلي جنوب الوطن وشماله في مختلف السهول والبطاح طوال فترة الكفاح حتى اشرق فينا الصباح وودعنا ليل النواح وسنوات الأسى والجراح.
وعقب الاستقلال الوطني الناجز مضى الزحف الاكتوبري المجيد بخطوات متئدة في ارساء اسس وملامح دولة مدنية تحقق فيها للمواطن منجزات كثيرة وتعثر انجاز اشياء اخرى وبما تحقق لايستهان قياساً بظروف الزمان والمكان، مجانية التعليم والتطبيب شق الطرق ارسال البعثات استخدام الخبرات اقامة المشاريع توافر الكثير من الخدمات وتقليم اظافر القبيلة او بالاحرى الحد من طغيانها، والأهم ان الانسان اليمني صار حراً على أرضه مستقلاً بقراره، لايتحكم به مستعمر غاصب او عميل ناهب، ثمة محاولات تحرص على إحقاق العدالة والمساواة والقضاء على الثأرات وانفاذ القانون ووأد النزعات العصبية والقبلية.
تحصلت المرأة على حقوق أوسع وكان مشاركتها أكثر فاعلية حتى شطحت بعض الاحيان على الرجل استناداً الى قانون وكله بقانون، حتى الذبح بقانون وشطحات التأميم واحراق الشياذر »العبايات« ومسيرات تخفيض الرواتب عدا سحل زوار الفجر بقانون، وهذه اخطاء او خطايا لاتقلل من حجم المنجز المحقق على الارض.. وعودة الى المرأة والتي لايحلو أي حديث إلا بها، كان الرجل في جنوب الوطن يناضل من أجل المساواة بها بعد ان قفزت وصارت ثلاثة أرباع المجتمع..!! وأزعم ان المرأة في اليمن الجنوبي نالت من الحقوق مالم تنله امرأة اخرى في البلدان العربية، وتكاد تنافسها او تساويها المرأة التونسية في ظل الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الاسبق.
في نصر اكتوبر.. تفجر نبع القصيد وعلت في الأفق الأناشيد وصدحت الموسيقى في جو مفرح سعيد، اعتصرت الذكريات واذكر بعضها او اشهرها في الاناشيد والاغاني الثورية - صباح منصر: »شعبنا حقق مناه.. شعبنا عانق هناه«.
محمد صالح عزاتي : »بالنار والحديد والكفاح المديد تهنئة له فجره من جديد«.
يوسف احمد سالم : »الله الله يا أكتوبر الله على نورك يابلدنا.. ياسلام بلدنا تنورت«.
محمد سعد عبدالله : »أوعدك اني أعيش العمر مخلص لك أمين.
أنتِ اللي تستحقي
كل حبي والحنين
مسكنك وسط قلبي انتِ في عيني اليمين
يابلادي يابلادي الثائرين«.
محمد مرشد ناجي : »أنا الشعب زلزلة عاتية
ستخمد نيرانهم غضبتي
وستخرس أصواتهم صيحتي
أنا الشعب قضاة الله في أرضي«.
محمد علي ميسري : »غني ياعدن الثورة
ارسمي لنا أجمل صورة
غني يا صنعاء يابلادي
غني لأجمل احفادي
غني وهنئي عدن الثورة
غني يانقم خو شمسان
ردد الاناشيد
غني للشعب اللي وحد
يمني السعيد
غني ياصنعاء يابلادي..«
ونصل الى انشودة الاناشيد وأيقونة النصر الاكتوبرية رائعة محمد محسن عطروش التي هزت الاستعمار البريطاني وعملاءه ورددت صداها كل جبال وهضاب اليمن:
عطروش :»برع يا استعمار
من أرض الأحرار
برع وإلا الليلة
يكويك التيار
تيار القومية.. تيار الحرية
برع برع يا استعمار«
ولجمال وروعة هذه الاغنية او الانشودة ماتزال بعض الفضائيات الحراكية تستخدمها في تجيير سياسي خبيث للتحريض على نزعات انفصالية رغم ان محمد محسن عطروش تبرأ من ذلك التوظيف الجديد لأغنيته في احد لقاءاته الاخيرة المتلفزة.
وبقدر ما تحقق في الجنوب في عهد الثورة الاكتوبرية من منجزات كان الشعب محروماً منها ارتكبت بعض الجرائم الجسيمة بسبب زيادة جرعات النزق الثوري والطيش النضالي والحقد الشيطاني والفكر التدميري، إلا ان ذلك لايقلل من عظمة الثورة وتضحيات شهدائها والاسهامات السياسية والفكرية لرجالاتها.. وقد حصل احتقان شديد في الجنوب المسترشد بالنظرية الماركسية منهجاً وسلوكاً في اواخر 1989م مع تفكيك الاتحاد السوفييتي المكون من خمس عشرة جمهورية وتخلي روسيا عن اليمن الديمقراطية وايقاف معوناتها المادية واحتساب قروض مساعداتها السابقة الى ديون مستحقة، فتهيأت ارضية صالحة لتحقيق الوحدة اليمنية الحلم الأعظم ونجح الزعيم علي عبدالله صالح الرئيس السابق للجمهورية اليمنية في تحقيق هذا الحلم لا التغني به، حققه مع شركائه في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني في 22 مايو 1990م، هذه الوحدة العظيمة التي تتأرجح هذه الايام بفعل دخول عبوات ناسفة على اجندة المشهد السياسي، ولكن العقلاء في كل الاحزاب والتنظيمات والتجمعات ومكونات المجتمع المدني في مؤتمر الحوار الوطني الشامل سيصنعون الاساس الوحدوي او نظام الحكم الصحيح الذي سيحافظ على وحدة اليمن، وازاحة المظالم القاهرة أينما كانت في الجنوب او في الشمال وسيعطي اعتباراً او وضعاً خاصة لأبناء الجنوب الذين تعرضوا لظلم لاينكره أحد.
لقطات
< في أدبياته وتوجهاته الحزب الاشتراكي اليمني أكثر قرباً من المؤتمر الشعبي العام في منهجه الوسطي وانفتاحه الاجتماعي وبُعده عن التطرف الديني، إضافة إلى انهما شريكا صنع أعظم مآثره في تاريخ اليمن الحديث.. ربما بوادر تقارب وعناصر تجاذب.. بدلاً من ترك الحبل على الغارب..
< يكاد يكون اللون الاحمر أكثر صبغة يجمل الأوضاع والمكونات في الجنوب اثناء التشطير، فالنجمة الحمراء والدماء التي تنهمر بغزارة أكثر احمراراً، وما انتفاضه ورأس الفأس يقطر بدم.. حياك وبياك باعبدالرحمن الحداد
< مفهوم خاطئ كان لدى أهل الشمال ان الجنوب الماركسي كان كله شيوعياً.. صحيح ان الماركسية كانت نظرية الحكم وهي مناقضة لأديان، ولكن بقي معظم الاهالي متمسكين بتعاليم الدين حوالى جانبهم تسير الشطحات المستوردة فأنت من جنبنا.
< الجنوب لم يقض على القبيلة قضاء نهائياً او متوسطاً وانما حد من طغيانها وتأثيرها السلبي على الحياة المدنية، أما النخب السياسية تدرك ان قوة النفوذ القبلي التحالفي او الشللي هي التي تحكم من وراء الستار وكانت مسعرة الحروب، أما العامة فكانت مغيبة لاترى.. حبين بيره يا وليد ورقصني يا جدع..
< أكثر خطأ وقع فيه نظام الحكم عندما حارب القطاع الخاص، وأمم كل شيء فهرب هايل سعيد انعم وبقية رجال المال والأعمال الى الشمال، ودول الجوار.. تأميم لكل شيء من المعمل الصغير الى مفرش الخضرة فتحملت الدولة أعباء كبيرة، فيما اذا سمحت للقطاع الخاص بمستوى معين ستستفيد منه ضرائب وتشغيل أيدٍ عاملة واشياء اخرى ولكنها الشطحات..
< الظاهرة الشائعة موضة الطوابير المنقولة من بلد المنشأ »الاتحاد السوفييتي« طوابير حتى على المكانس.. وقانون الالتزام حديدي ولا أحد يملك شجاعة الممثل السوري الراحل ابو عنتر المعروف بقوته وحزمه المستمر للطوابير وكلمته اللازمة »باطل«، تجدها منقوشة في كتفه الأيمن.. فعلاً باطل.
< تسع وأربعون نجمة مرصعة في جبين التاج الاكتوبري ستظل ذكراها الوهاجة اليوم حاملة اصداء طيبة وروائح عاطرة من البخور العدني والبن اليافعي والفل اللحجي.
< حاول الاشتراكي بجدية بناء دولة مدنية اهتداء بنظرية مستوردة من بيئة اخرى قد فشلت فيها واقترب الى حد ما من خلف هذا الكيان المدني لولا رياح واعاصير الصراعات الدموية كل اربع او خمس سنوات ومع ذلك معظم اهالي الذين ذابت فيهم القبيلة تشربوا قيم الحياة المدنية واهمها الانصياع الى القانون لا العرف، والنقطة الاخيرة محسوبة للاشتراكي.
< في ظل موجات التغيير احتفل الاشتراكي بذكرى تأسيسه الرابعة والثلاثين وهو اعتراف وفخر لأول مرة يقام احتفال عن هذه المرة بشكل ثاني حبك انت شكل نار »مذوبة نار ضحايا اللحس الثوري«.
ملحوظة
ليتهم يدرون ان هناك من كان يريد استئصال الاشتراكي واجتثاثه نهائياً عقب حرب 1994م ولكن المؤتمر الشعبي العام وزعيمه علي عبدالله صالح حافظ عليه!
< قلت لصديقي المتحفز غضباً : مالك ناقم؟
رد باستهتار : الاشتراكي خلى الجنوب مثل الطفل الباكي، لاتصدقوهم »دموع التماسيح.. ياماناس مجاريح«.
آخر الكلام :
هم الناس لايحفظون الجميل
ولايشكرون لمسد يدا
فكن في قلوبهم رهبة
لكي ما تكون لهم سيدا
ولاتبن أمراً على حبهم
فيذهب جهدك فيهم سدى
هم الناس ما عبدوا في القديم
عظيم النوال كثير الجدى
ولكنهم عبدوا المفزعات
وباتوا لرهبتها سجدا
ابراهيم الحضراني