محمد علي عناش -
تتواصل احتفالات شعبنا اليمني بذكرى ثورته العظيمة (سبتمبر وأكتوبر)، هذه الثورات التي حررت الشعب اليمني من نيران الاستعمار البريطاني البغيض وعهود التخلف والظلام، وسجلت في سفر التاريخ أصدق المشاعر الوطنية ومآثر الفداء وإرادة التحرر الوطني.
وبقدر ما تغمرنا هذه الاحتفالات بالافراح وبمشاعر الوفاء والإجلال للتضحيات التي قدمها سبتمبر وأكتوبر والحركة الوطنية اليمنية لنيل الحرية ومن أجل وطن مزدهر وموحد، بقدر ما تملؤها هذه الأزمة بمشاعر الأسى والخوف، من الأوضاع والمآلات اليمنية الخطيرة التي اصبحنا نعيشها ونتجرع ويلاتها يومياً.
إن القوى التي وقفت في وجه الثورة وانحرفت بأهدافها ومبادئها وأعاقت مساراتها المستقبلية مازالت تمارس نفس الدور ونفس التوجه، إلاّ أنها هذه المرة تلبس أقنعة متعددة وترفع شعارات معسولة وتنادي بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية، لكنها عملياً تمارس أفعالاً شيطانية قائمة على الفساد والإفساد وانتهاك الحقوق والحريات واستباحة الدماء وممارسة التضليل والدجل السياسي.
بالفعل.. بلادنا لا تمر فقط بأزمة خانقة وإنما أيضاً تمر بمحنة إنسانية ومنعطف خطير على جميع المستويات، وخاصة فيما يتعلق بالمؤامرات التي تستهدف الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي.
الذين لا يريدون الحلول ولا المعالجات لقضايانا ومشاكلنا هم المستفيدون من هذا الوضع ومن استمرار الأزمة وحالة الفوضى وغياب الدولة، لذا يعملون على مزيد من الإرباك ويشحذون همم العصبيات ويحرضون على الفتنة والحروب الداخلية، ويقفون في وجه الحوار والتفاهم والتقارب، ويفشلون التسوية السياسية بالاغتيالات والاعتقالات وممارسة الفساد والإقصاء الممنهج في جميع مؤسسات الدولة، هم لا يبحثون عن حلول ولا مخارج للأزمة، هم يبحثون فقط عن سلطة وثروة.
عندما ننظر بعمق إلى طبيعة الأزمة التي نعيشها، سنجد أنفسنا في مواجهة تساؤل منطقي يحتاج منا أن نبحث له عن اجابات موضوعية إن كنا بالفعل نريد أن نتجاوز الأزمة التي نعيشها وأن نضبط اللحظة الراهنة التي يحاول البعض تكييفها حسب أهدافهم وتوجهاتهم التآمرية.. هذا التساؤل هو: ما هي طبيعة الأزمة التي نعيشها؟ هل هي أزمة واقع أم أزمة أحزاب أم أزمة نظام؟..
مطلوب من كل القوى الوطنية وجميع أعضاء لجنة الحوار الوطني أن يضعوا أنفسهم في مواجهة هذا التساؤل بتجرد من كل حسابات وأحكام مسبقة، حينها سيكونون أكثر عقلانية وموضوعية، سيكتشفون أنها خليط من مجموع هذه الأزمات جعلت منها أزمة مركبة ومعقدة، تتداخل فيها جميع القضايا والمشاكل المستفحلة.. الخطير في الأمر أن هناك قوى مصلحية تدرك هذه المسألة جيداً، فتبني مخططاتها على أساس حصر الأزمة في بؤر ضيقة، وإجادة الجمع والتوحيد بين المتناقضات ليس على أساس ما هو جوهري ومشترك وإنتاج حلول وطنية، وإنما على أساس المنفعة والمصلحة المتبادلة بين الاطراف، المحاصصة أحد أوجهها ومظاهرها السيئة.
تجليات هذه المسألة تبدو واضحة في اختيار باسندوة لرئاسة الحكومة وتعيين بعض الوزراء كسميع والعمراني والوجيه وقحطان، ليست المعايير الوطنية ومعايير المرحلة الوفاقية ولا معايير اللحظة التي تتطلب صنع بنية جادة هي من قذفت بهؤلاء إلى مناصبهم، وإنما معايير الشيخ باعتبار هؤلاء مفاعيل أزمة وتأزيم ليس إلاَّ.. بكل الوسائل هم يدفعون باللحظة إلى أن تمضي في مسار منحرف لا ينتج إلاّ المزيد من التعقيدات والأزمات، التي ستصل في النهاية إلى حالة الانفجار.
الوعي بالأزمة اليمنية المعقدة والمركبة، يتطلب تفكيكها والوعي بتداخلاتها وعلاقاتها المتعددة، هذه القوى لا تريد ذلك، لأن هذا الأمر سيفضحهم أكثر باعتبارهم قوى في قلب الأزمة وفي عمق الإشكال، حينها سيجدون أنفسهم في مواجهة قوى التغيير الحقيقية، لذا يعملون بمختلف الطرق والوسائل، وينفقون عشرات المليارات التي تتدفق إليهم من جميع المصادر الداخلية والخارجية، كي تظل اللحظة في حالة طلسم وفي حالة المبني للمجهول، والمشكلة أن القوى التي كنا نظن أنها قوى تاريخية وقعت في الفخ وتاهت داخل منظومة من التناقضات لم تتمكن أن تنفك منه حتى الآن، وهو ما جعل الأزمة تطول إلى السنتين وجعل الساحات قائمة حتى الآن، وخطاب الثورة مستمر بنفس اللغة والكيفية التي كان عليها قبل عشرين شهراً من الآن، فبالله.. في أي عرف سياسي وثوري هذا الذي يحدث في اليمن؟ وإلى متى تستمر حكاية الثورة؟ وغالبية الثوار باتوا يجهلون ضد من يثورون بسبب تقادم مكوثهم في الساحات بلا طائل.
أزمة الواقع
عندما نتكلم عن أزمة الواقع اليمني، فإننا نقصد بذلك الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والذي مايزال واقعاً متخلفاً وتقليدياً، وبالتالي يعتبر من أهم العوائق التي تقف أمام التغيير وأمام التحولات الديمقراطية والمدنية، المسألة ليست بسيطة أو مسألة متعلقة بأشخاص أو تحتاج فقط إلى قرارات سياسية أو خطاب وصفي ميثافيزيقي، المسألة تحتاج إلى إرادة وطنية وإلى وعي بالمشكلة، لأننا نتكلم عن إرث تاريخي من التخلف الاجتماعي والأمية الثقافية والتعليمية، وضعف الدافع الاجتماعي للانتماء إلى الدولة، لقصور الوعي بفكرة الدولة وأهميتها الاجتماعية، ولغياب الدولة نفسها، لكن من المهم أن نعي أن الدولة لا توجد دفعة واحدة وإنما توجد وتتأسس بشكل متدرج وتراكمي، وفقاً لصيرورة الفعل التنموي الواعي، وهي المسألة التي لم تُستوعب جيداً من قبل النخب السياسية والثقافية، هم يتكلمون عن الدولة بعيداً عن كل السياقات والشروط الاجتماعية والتراكم التنموي في بناء الدولة، ومن السخف التلاعب بعقول الشباب عندما يتم تحريضهم كما فعل باسندوة بأن عليهم عدم مغادرة الساحات حتى تتحقق الدولة المدنية..
أزمة أحزاب
أثبتت الأحداث أن الأحزاب السياسية وخاصة المحسوبة على المشروع التقدمي، أنها مجرد ظاهرة صوتية أكثر منها ظاهرة اجتماعية وسياسية فاعلة، حيث لايوجد لها حضور اجتماعي قوي، بل تعيش في حالة قطيعة مع الواقع وفضَّلت أن تعيش وتتموضع في فضاء ميثافيزيقي وعوالم مثالية، إنها بالفعل تعيش أزمة مع ذاتها وأزمة مع الواقع تعيد انتاجه بشكل أو بآخر، لذا عندما هلت لحظة التغيير، وقعت في فخ وشراك مشروع القوى المناهضة للتغيير، وصدقت أن القائد علي محس الأحمر بنزوله إلى الساحة أصبح من الحلول الثورية الرئيسية للمرحلة، بالرغم من أنها تعي في نفس الوقت أنه كان مشكلة رئىسية في عمق الأزمة اليمنية، ولا أدري كيف يكون حلاً ومشكلة في آن واحد داخل هذا الوعي، المسألة تشير إلى ذهنية جديدة كنتاج لحالة تلاقح مع ذهنيات كابحة للتغيير نستطيع أن نسميها بهيكلة جديدة للوعي، تجعل هذا المنتج الجديد يتجاوز المضمون ويعيش في الشكل مظاهر القضايا، لذا مرت مرور الكرام منذ البداية حادثة الاعتداء على الناشطات السياسيات بذلك الشكل الهمجي، على الرغم من أن هذا الحادث مس جوهر الثورة وعمل على إسقاطها منذ البداية، لم تحدث حالة مراجعة للذهنية، وإنما استمر التعامل مع هذا «الحل والمشكلة» كرمز أو مكون أصيل من مكونات الساحة، وها هو «الحل والمشكلة» يقضي على الثورة تماماً بما يقوم به داخل جامعة صنعاء من اعتقالات واعتداءات وعسكرة مقيتة..
أزمة نظام
هي بالفعل أزمة حقيقية وأزمة مزمنة، تتجسد هذه الأزمة في غياب المشروع الوطني وعدم القدرة على بناء الدولة بشكل مؤسسي، غير أن أزمة النظام هي انعكاس حقيقي لأزمة الواقع وأزمة الأحزاب، التي ظلت تحدث تأثيراتها على النظام السياسي، خاصة عندما يكون النظام في حالة قطيعة متبادلة مع نخب المجتمع، أما في حالة أن يكون النظام في حالة وفاق وتقارب مع هذه النخب، فإن العكس هو الذي سيحدث وهو أن واقعاً جديداً سوف يتشكل كانعكاس لتأثيرات وفاعلية النظام السياسي، في شكل برامج وسياسات تنموية وإرادة وطنية فاعلة في الواقع.
وإذا ما تجاوزنا أزمة النظام طوال الفترة الماضية التي فيها من السلبيات مثل ما فيها من ايجابيات مع مراعاة الظروف التي نشأ فيها النظام، ها هي النخب في هذه اللحظة الراهنة تكرر فشلها وتصنع نظاماً مأزوماً تمثله حكومة الوفاق الوطني، التي هي ليست إلاّ انعكاساً صارخاً لأزمة الواقع وأزمة الأحزاب، وأكثر تجسيداً وامتثالاً له، بل وأكثر اختزالاً له في أشخاص من مراكز القوى والنفوذ العشائري والعسكري.
المؤتمر.. متى يستيقظ؟
المؤتمر هو الآخر يبدو تائهاً داخل هذه المنظومة من التناقضات والممارسات، غير قادر على أن يفيق من هول الصدمات التي تعرض ويتعرض لها، أو لم يستوعب بعد الوضع الراهن الذي يعيش فيه على المستوى التنظيمي وعلى مستوى المتغيرات في الواقع والتشظيات الاجتماعية الخطيرة.. ليس مطلوباً منه أن يجاري الاغتيالات بالاغتيالات المضادة والإقصاء بالإقصاء والتقطعات بالتقطعات، مطلوب منه أن يفيق بشكل آخر، وأن يواجه هذه التحديات بشكل حضاري وكحزب مدني، هو قادر على أن يعمل ذلك، وأن يحمل مشروع الإنقاذ الوطني، فقط عليه أن يتجدد وأن يهمل الأعضاء المخالفين والمزدوجين وغير الفاعلين، أو الأعضاء الذين مازالوا يمارسون سلوكاً سلبياً على المؤتمر، عليه أن يحرك الشارع مدافعاً عن الحقوق والحريات والوحدة الوطنية وسيادة البلد، ومناهضاً للفساد والإفساد، كما عليه أن يستوعب أن الأزمة اليمنية هي أزمة مركبة كما أشرنا إليها سابقاً، كي يتمكن من خلالها من تقديم رؤيته ومشروعه الوطني الكبير، وتكون مدخلاً له في حواراته وتفاوضاته الوطنية، وأن يدرك أيضاً أن تجاوز الأزمة يتطلب بشكل حتمي أن يسعى إلى تشكيل تحالف واسع مع القوى المدنية والوطنية كضرورة مرحلية، ما لم فإن المؤتمر سيكون هدفاً سهلاً للالتهام والهيكلة التي ستطاله كما تطال جميع المؤسسات والبلاد بكاملها.