سامر الياس -
تتعرض العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وبلدان دول مجلس التعاون الخليجي إلى اختبار جدي.. ويثير صعود الإخوان بعد ثورات الربيع العربي مخاوف من محاولة الجماعة تنظيم قلب الأنظمة في تلك المنطقة الغنية.. وباستثناء قطر فإن علاقات البلدان الخليجية مع قيادات الإخوان تتجه إلى التأزم. وتشي الأجواء بأن العلاقة يمكن أن تخرج عن طبيعة المد والجزر السابقة نحو القطيعة.
وشكَّلت تصريحات القائد العام لشرطة دبي، الفريق ضاحي خلفان، قبل شهور قليلة، عن وجود «مؤامرة دولية ضد دول الخليج خاصة والدول العربية عامة. الهدف هو الاستيلاء على ثروات العرب».. ذروة قصوى، وغير مسبوقة، في الخلافات التي خرجت إلى العلن بين جماعة الإخوان المسلمين وبعض الحكومات الخليجية التي كانت في الماضي، وعلى مدار عقود طويلة، ملجأً وملاذاً آمناً لآلاف من عناصر الإخوان المسلمين ممن هربوا من مصر وسورية وفلسطين والأردن، وحتى من ليبيا وبلدان المغرب العربي. فما الذي تغيَّر في طبيعة العلاقة بين تنظيم الإخوان المسلمين ودول الخليج العربي التي لطالما كانت السند الأبرز للتنظيم؟. وهل لذلك علاقة بوصول الإخوان إلى حكم مصر وعدم قدرتهم على تحقيق استقرار اقتصادي ومجتمعي منشود كانوا يعولون للوصول إليه من خلال فتح الصناديق الخليجية أمام استثمارات وقروض لمصر تساعدهم على تجاوز الإرث الثقيل الذي تركه الرئيس المخلوع حسني مبارك؟. ثم ما هي الخلافات الخليجية - الخليجية بخصوص وصول الإخوان إلى كراسي الحكم وسبل دعمهم، وأين إخوان الخليج مما يجري بخصوص تنظيماتهم القُطرية وتنظيمهم الأم؟.
جذور الإخوان في دول الخليج
تشير أدبيات جماعة «الإخوان المسلمين» إلى أن تاريخ وجود الجماعة في الخليج العربي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وتحديداً في المملكة العربية السعودية، ووقتئذ تطلَّع مؤسسها، الإمام حسن البنا، لنشر الدعوة خارج مصر. ولهذا الغرض سعى للقاء مؤسس المملكة، الراحل عبدالعزيز آل سعود، الذي استقبله في أحد مواسم الحج وعندما عرض عليه الإمام البنا أفكاره ومبادئ دعوته أنهى العاهل السعودي اللقاء بقوله (كلنا مسلمون وكلنا إخوان فليس في دعواك جديد علينا). وقد أمل البنا في افتتاح مكتب للدعوة داخل المملكة العربية السعودية بدعم ملكي وبمباركة من العرش السعودي ولكن الملك لم يمكنه من ذلك.
عكس صدُّ الملك السعودي الناعم المفهوم الذي كان سائداً في دول الخليج جميعها حول الدين الإسلامي، فقد كان تطبيقه بسيطاً وسهلاً عبر توارثه جيلاً بعد جيل، ولم يكن الخليجيون، الذين عرفت أرضهم أهم فصول بزوغ الدين الإسلامي، يحتاجون الى رجل دين قادم من مصر كي يعلمهم سبل الدعوة لدين راسخ في أرضهم وسلوكياتهم. وقد كان بوسع البنا أن يقيم في أرض الحجاز كداعية بعيداً عن مطامعه في توسيع نطاق دعوته الإخوانية خارج مصر، لكنه بدل ذلك توجه شرقاً نحو بلاد الشام التي وجد فيها مناخاً، منذ العام 1934، لتشكيل أذرعة لتنظيم الإخوان الدولي الذي كان، ولا يزال، تحت إشراف المرشد العام لجماعة الإخوان.
البوابة الخليجية وعداء عبدالناصر
لكن التاريخ لم يقل كلمته النهائية حول وجود الإخوان في دول الخليج، فقد بدأ عقد الخمسينيات، من القرن الماضي، باغتيال البنا ورحيل الملك السعودي عبدالعزيز، وبدايات المواجهة الناصرية مع «الإخوان»، وهروب عددٍ منهم إلى السعودية ودول الخليج بعدما فتحت السجون لهم إثر اتهامهم بمحاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في عام 1954م.. ومن الواضح أن التعاطف معهم إنما جاء من منطق عداء الطرفين المشترك لتوجهات عبدالناصر الاشتراكية، وانقسام العالم العربي بين ما كان يسميه الناصريون حينذاك «دولاً تقدمية» وأخرى «رجعية».
في ذلك الوقت كانت منطقة الخليج في مستهل تكوينها السياسي، ولدى أهلها رحابة وكرم بمن يلوذ بهم لاجئاً من ضغطٍ أو اضطهاد، وهكذا أصبحت دول الخليج الملاذ الأول لعدد كبير من إخوان مصر الذين مكثوا فيها لسنوات وظلوا على عقيدتهم وفكرهم رافضين سياسات عبدالناصر. ويروي مؤرخو الحركات الإسلامية في العالم العربي أنه على مدار عقود تالية تسامحت الدول الخليجية مع جماعة «الإخوان المسلمين» وسمحت لهم بتأسيس فروع تحت مسميات مختلفة تشترك في الأساس الفكري، رغم التشكيك المستمر والنفي المتواصل في موضوع «البيعة» و»الولاء»، فمرشد الجماعة الأسبق مأمون الهضيبي وصل إلى منصب مستشار وزير الداخلية السعودي، ومن خلال موقعه نصّب المصريين في مراكز قوية كمستشارين لدى وزارة التربية والتعليم، خاصة أن جماعة الإخوان ترى أن التعليم هو المدخل الأنسب الذي يمهد لها الطريق في أي مجتمع.
علاقة مد وجزر
وشهدت العلاقة بين الإخوان وبلدان الخليج عددا من التطورات الدرامية في تاريخها، ففي حين شهدت العلاقة برودا شديدا إثر إحباط ثورة اليمن نهاية أربعينيات القرن الماضي، لكن العداء لعبدالناصر والمد القومي والاشتراكي زاد من نشاط الإخوان في السعودية وبلدان الخليج أثناء حكم الملك فيصل ما بين عام 1964- 1975م، ولعب الملك فيصل دورا في تقارب الرئيس أنور السادات والأخوان، وفي الثمانينيات مع عصر مبارك تخلى عن دعم الإسلاميين نحو دعم الحركات السلفية التي لا تحبذ الخوض بالسياسية والتفرغ للدعوة.
واستمرت علاقة المد والجزر باختلاف موقف الإخوان من الثورة الإسلامية الإيرانية عن موقف الحكومات الخليجية، ليمتد الخلاف ويبرز في شكل واضح مع دعم القادة الخليجيين للرئيس العراقي صدام حسين في حربه ضد إيران، فيما دان التنظيم الدولي للإخوان وفروعه الخليجية ، باستثناء جمعية الإصلاح البحرينية، العراق واعتبروا أنه يتحمل مسؤولية إشعال الحرب للقضاء على الثورة الإسلامية الإيرانية. ولكن الضربة الأكبر كانت في موقف الإخوان من العدوان العراقي على الكويت، ورفضه للتدخل الأجنبي لتحرير الكويت، مما أثر في إحراج لموقف «الإخوان الخليجيين»، وتسبب لاحقا في خروج إخوان الكويت عن جماعة «الإخوان المسلمين» مع الحفاظ على صلات ودية.
وجماهيريا بدا، بعد هذه الأحداث، أن فكر الإخوان آخذ في التراجع على حساب صعود فكر التيارات السلفية التي استغلت أدبيات الإخوان ومنتجاتهم الفكرية لطرح مبادئ جديدة في التعامل مع السياسة، وتحديد العلاقة بين الحكام والشعوب. على أن أحداث 11 سبتمبر 2001م الإرهابية وما تلاها أعادت الإخوان إلى تصدر المشهد باعتبارهم ممثلين للإسلام المعتدل، واضطرت الحكومات الخليجية حسب كثير من الخبراء إلى الاستعانة بالتجربة الإخوانية للرد على توسع نفوذ السلفيين فكريا وتنظيميا.
الخليج أهم مصادر تمويل الإخوان
ويرصد المهتمون بشؤون الحركات الإسلامية أن علاقة الإخوان المسلمين» مع دول الخليج تحددت عبر مجالين مالي وسياسي. ففي المجال المالي اعتبرت القيادات القُطرية في الدول الخليجية أحد مصادر تمويل أنشطة «الإخوان المسلمين». وقد نصت المادة 53 من اللائحة التنفيذية لتنظيم «الإخوان» الصادرة في العام 1982م على التزام «كل قُطر بدفع الاشتراكات وذلك بتسديد اشتراك سنوي تحدد قيمته بالاتفاق مع مكتب الإرشاد العام». وعدا عن الاشتراكات كانت التبرعات الخيرية والتمويلات المالية أحد أهم مصادر التمويل من دول الخليج.
وفي المجال السياسي شكلت دول الخليج، كما أسلفنا، ملاذاً آمناً لقيادات الإخوان الهاربة من بطش الأنظمة السياسية سواء في مصر وغيرها، وكانت المجتمعات الخليجية بتسامحها وتدينها الفطري بيئة خصبة لازدهار فكر الإخوان وتغلغله في المؤسسات التعليمية والمجتمعية والخيرية ومؤسسات النفع العام مستعيناً بالنموذج المصري شديد الغنى في هذا المجال.
شهية الحكم ونسيان قواعد اللعبة
وما كان لهذه الحالة أن تثير حفيظة الدول الخليجية لولا وصول جماعة الإخوان إلى كراسي الحكم في غير بلد عربي، كمصر والمغرب وتونس وفلسطين، وسعيهم لذلك في سورية والأردن وليبيا. ويبدو، حسب المراقبين، أن شهية الإخوان للحكم بعد خمسة وثمانين عاماً من حرمانهم أسباب الوصول للسلطة، قد أنستهم الدور الخليجي الكبير الذي حفظ لهم كثيراً من أسباب الاستمرارية، على مدار عقود وعقود، إلى درجة أنهم نسوا «أن الخليج خط أحمر ليس على إيران فقط ولكن على الإخوان أيضا»، حسب تعبير قائد شرطة دبي.
وفي سياق حماستهم للحكم غاب عن أذهانهم، وفق المراقبين، أن تيارات الإخوان في منطقة الخليج ليست تيارات سياسية، بل هي فكرية تربوية دعوية اجتماعية خيرية على عكس تيارات الإخوان في الدول العربية الأخرى، التي انخرطت في العملية الحزبية والسياسية، ولم تثبت جدارتها، حتى الآن، في تبوؤ كراسي الحكم التي وصلت إليها، حسب ما نراه من أحداث مؤسفة في مصر وتونس، وكلها تشير إلى استمرار ثورات الربيع العربي ولكن هذه المرة ضد حكم الإخوان الذين كانوا حتى وقت قريب من أبرز الساعين لقلب أنظمة الحكم عبر احتضان مطالب الشارع بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتخلص من أنظمة غالباً ما وصفها معارضوها بالفساد والديكتاتورية.
الخوف من تلقي ضربات خليجية
وبالرغم من الصوابية النسبية لهذا التحليل إلا أنه يجب ألا يغيب عن البال، أبداً، أن امتناع جماعة الإخوان عن العمل العلني في دول الخليج إنما هو في جوانب منه انعكاس لمخاوف الجماعة من تكرار سيناريوهات الضربات التي تلقتها في مصر وسورية وليبيا وتونس ولكن هذه المرة في الدول الخليجية التي لا وجود للأحزاب فيها، باستثناء الكويت التي عرفت وجوداً علنياً للإخوان تحت مسميات مختلفة. وكان من اللافت أن هذه المخاوف لم تمنعهم من ممارسة أدوارهم في التربية والإغاثة والعمل الخيري، والتي كانوا يزاولونها عن طريق الجمعيات والأندية والمؤسسات واللجان الخيرية.
ويربط المحللون بين التوتر الحاصل في علاقة الإخوان ببعض الدول الخليجية بما يجري في مصر منذ وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، وعدم قدرتهم على الإقناع وتنفيذ المطالب التي خرجت الملايين من أجلها. وقد كان هؤلاء يأملون في دعم مادي غير محدود. ولهذا السبب انطلقت في مصر دعوات كثيرةً، من على المنابر ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لدعم «الاقتصاد المصري»، لكن ذلك لم يؤتِ ثماراً ناضجةً، بل أنتج علاقة يلفها الغموض وضبابية قد تستمر إلى حين. ومن سمات هذه العلاقة تأزمها إلى حد القطيعة مع دولة الإمارات المتحدة على سبيل المثال.. كما أنه أبرز إلى السطح اختلافاً في الموقف الخليجي من الإخوان، سواء بين السعودية وقطر، أو بين الأخيرة ودول كالإمارات والكويت.
اكتشاف متأخر يهدد الكيانات الوطنية
ويجمع المراقبون أن هناك تحفظاً عاماً لدى دول الخليج ـ ربما باستثناء دولة قطر ـ تجاه جماعة «الإخوان المسلمين» وأساليبها في الحكم ورؤيتها للمستقبل وتغليبها للأممية الإسلامية على «القومية العربية». فالحكام الخليجيون، عموماً، نجحوا في ترسيخ كياناتهم الوطنية، ومن الصعب عليهم قبول وجود تنظيمات في بلادهم ذات تبعية مطلقة لتنظيم يديرها من الخارج، ووفق أجندة تتجاوز المصالح الوطنية. وزاد من صعوبة القبول اكتشاف الحكام الخليجيين المتأخر لأعداد المواطنين الخليجيين الكبيرة من المنضوين تحت لواء جماعة الإخوان.