عبدالرحمن مراد -
< تفرض الضرورة السياسية أحياناً قيام تحالف بين فصيل سياسي وآخر ثم يتحول ذلك التحالف الى مناكفة ومزايدة سياسية والى معارضة، وهكذا دواليك، فالثابت السياسي في ظرف زمني معين متحول في آخر، ولذلك قيل لا ثوابت في السياسة لأنها دائمة التحول والتغير وتفرضها الظروف الواقعية الناشئة تحت المناخات العامة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، والقارئ للتحالفات في الإطار الوطني اليمني يجد أن «الاخوان المسلمين» منذ نشأتهم في مطلع الاربعينيات خاضوا تحالفات عدة مع قوى وطنية وفي جل تلك التحالفات حضرت التقية السياسية التي بررتها الميكافيلية بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة وغاب عنها حسن النوايا والصدق السياسي، ففي مطلع الأربعينات من القرن الماضي تحالف الاخوان مع رموز الحركة الوطنية التحررية في اليمن وتلك الرموز خرجت من تحت «قاوق» الزيدية حيث ومنطلقها الفكري يجيز لها الخروج على الحاكم، وقد حاول الفضيل الورتلاني باسم الشركة العالمية للتجارة ان يسيطر على الحدث الثوري اليمني من خلال التداخل في نسيج الحركة وحين تم تحرير الميثاق المقدس المرتكز الفكري لحركة 1948م ثبت أن الميثاق أخذ مباركة الإمام حسن البناء قبل أن يطلع عليه رموز الحركة أو يتمكنوا من معرفة مضامينه، كما أن ثمة حقائق تأريخية متناثرة هنا وهناك في الوثائق والمصادر والمرجعيات التاريخية دلت على حرص حركة «الاخوان» في إقامة دولة إخوانية في اليمن وكانت مشاركتهم في حدث 48م نابعة من هذا الحرص كما تبين للرئيس السابق عبدالرحمن الارياني في لقاء له مع أحد قياداتهم في منتصف الستينيات من القرن الماضي وقد سطر ذلك في مذكراته التي صدرت عن مركز الدراسات والبحوث اليمني.
وبعد فشل الحركة أو الثورة في 48م تفرقوا.. ويمكن أن يقال ان انشغالهم بالحدث الأهم المتمثل في تحالفهم مع الضباط الاحرار في مصر صرفهم أو صرف أنظارهم عن اليمن وما تتابع بعد ذلك في الخمسينيات من محاولة اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر ودخولهم في صراع سياسي مع نظام ثورة 23 يوليو في مصر كان من نتائجه دخول جل رموزهم وقياداتهم في السجن وخروج الآخر من مصر ومثل ذلك التشظي للحركة كان سبباً مباشراً في غيابهم عن صناعة ثورة 26سبتمبر 62م في اليمن.
ذلك الغياب كان مبرراً كافياً للبحث عن وجودهم في ثورة اليمن، ولذلك فقد تحالفوا مع القوى التقليدية القبلية بحثاً عن وجودهم وانتقاماً من نظام عبدالناصر، ولذلك رأينا أن ثورة سبتمبر عانت من قوى متعددة.. قوى النظام المتوكلي، وتحالفاته، وقوى حزب الله وتحالفاته، وكان الثوار الذين آمنوا بالثورة قلة في مقابل تمدد تلك القوى في الجغرافيا في حين تمطرها دول الجوار بالجنيهات وتمدها بالأسلحة وكان من نتائج اشتغال تلك القوى على المؤتمرات والبيانات والحشد الجماهيري هو حركة (5 نوفمبر 67م) التي أطاحت بالمشير السلال وجاءت بالقاضي الارياني.. وفي ظل ذلك التحالف فسدت منظومة الحياة السياسية، وشاع التقاسم وعلت لغة الغنيمة، وتفسخت القيم الثورية النبيلة، وتحول الوطن حينها الى أنفال تقاسمتها القوى المتناغمة ولم يبرأ منها الا من حماه الإقصاء عن الولوج في عوالمها النتنة كما تحدث رائي اليمن ومبصرها عبدالله البردوني.
بعد حركة (13 يونيو 74م) التي عملت على تفكيك تلك المنظومة التقليدية ذات التحالفات المتعددة والولاءات المتعددة، لم يسع «الاخوان» الا الجنوح الى المعارضة ولذلك لم يمكث الزنداني في هيئة الإرشاد الا قليلاً، فالمظاهر الأولى للدولة الحديثة أو دولة المواطنين كما سمتها الحركة القائمة على تشذيب منابع الفساد والانتصار للقانون أفزعته، فغادر اليمن الى السعودية، وقد دلّت الوقائع التاريخية المتعددة أن حركة الاخوان لا يمكنها أن تكون الا حيث تكون الفوضى وحيث يشيع الفساد، فإذا غابت الفوضى والفساد قل وجودهم وتوارى دورهم، ولذلك فقد غابوا في عقد الثمانينيات في اليمن بعد حرب المناطق الوسطى وتحديداً بعد 84م وحضروا في افغانستان وحضروا بعد فوضى وإرباك التوحد (الفترة الانتقالية) وشاركوا في حرب صيف 94م فلم يكن حظ اليمن منهم الا النهب والسلب والغنيمة والمصادرة للآخر وفرض الوصاية وهي المقدمات التي كان من نتائجها دعوات فك الارتباط التي يشهدها الوطن في حاضره ولم يكن مهرجانهم في عدن في 21 فبراير 2013م الا تعزيزاً لقناعات فك الارتباط للجنوبيين.
لقد تحالف «الاخوان» مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح مطلع الثمانينيات في مقابل الجبهة الوطنية التي أحكمت سيطرتها على المناطق الوسطى وشرعب وشمير ووصاب وريمة وحينها قال علي عبدالله صالح (ماركس ولينين في مقابل محمد) وخاضوا مواجهات متعددة ختمها توافق بين نظام صنعاء ونظام عدن، كان من نتائجه استيعاب كوادر الجبهة في المنظومة العسكرية والأمنية ومنح الجبهة بعض الحقائب الوزارية والسماح لهم بإصدار صحيفة وقد صدرت لهم صحيفة «الأمل» التي رأس تحريرها سعيد الجناحي وكلف النظام في صنعاء ضابط الأمن السياسي محمد اليدومي بإصدار صحيفة فصدرت صحيفة «الصحوة» في مقابل صحيفة «الأمل» من أجل التوازن بين تيار محمد وتيار لينين وماركس.
في عام 94م لم يجد المؤتمر الشعبي العام بداً من التحالف مع الاخوان، ومع مناخات الحرب في صيف 94م شاعت ذات القيم التي تحدثنا عن شيوعها في تجليات المرحلة لحركة (5نوفمبر 67م) ووجد المؤتمر نفسه عاجزاً عن إحكام السيطرة وإعادة التوازن أو ضبط إيقاع المرحلة وفق متطلبات واشتراطات الدولة الحديثة وبما يتوازى أو يتوافق مع وثيقة العهد والاتفاق التي وقعت عليها كل الاطراف برعاية كريمة من الملك الأردني الراحل وفي ظني أننا نعيش اللحظة ذاتها، فقد تشاكلت وتماثلت الى درجة التطابق، فالمبادرة الخليجية تعيد الى الأذهان وثيقة العهد والاتفاق والملك السعودي يعيد الى الأذهان الملك الأردني الراعي واشتراطات الخروج والتطلع هي ذاتها واللاعبون هم أنفسهم لم يتغير شيء، ومع هذا التماثل نجد أنفسنا أمام إرادة صلبة في خلق مناخات الفوضى ومناخات الفساد ومناخات اللا استقرار وهي البيئة المناسبة للاخوان في التمدد والوجود، فقد قرأنا في الصحف أن أمين عام الاصلاح طلب من الرئيس عبدربه منصور هادي تأجيل المرحلة الثانية من قرارات الهيكلة للجيش بعد أن كان متوقعاً لها أن تشيع الفوضى برفض المحسوبين على الرئيس السابق لها، وكم سمعنا الخطباء المأجورين في الساحات ينادون بها وكم خرجت من مظاهرات وحين صدرت بها القرارات لم يسعهم الا رفضها ومن ثم السعي الى تأجيلها، لتتجه بوصلة الفوضى الى الحراك الجنوبي من خلال القيام باستفزازه والاصطدام معه في أكثر من مكان، فالوحدة التي يستظلونها في مهرجاناتهم ليست هدفاً في ذاتها، فالهدف الحقيقي هو خلق مناخات الفوضى واللااستقرار في الجنوب وفي المحافظات الجنوبية ولم يكن مهرجان (21 فبراير) الذي أقامته محافظة عدن وحشدت له من كل حدب وصوب دخلوا عدن فراداً وركباناً وبالرمزية الصحراوية البدوية التي تدل على جوهرهم الثقافي الحقيقي - أقول لم يكن تمجيداً أو تأكيداً على ولاء المرحلة بقدر ما كان غطاءً لتمرير روح الاصطدام والفوضى، وحمل في إيحاءاته ظلالاً لم تكن في مصلحة الرئيس وتأويلاً لا يتوافق مع طبيعة المرحلة السياسية القائمة على التوافق.
وفي مقابل اشتغال الاصلاح على المحافظات الجنوبية ثمة إشارات دالة على الاشتغال في المحافظات الشمالية، ففي تعز نجد سعياً حثيثاً للإصلاح في تفكيك بنية الثقة بين المحافظ شوقي هائل وأبناء تعز وصولاً الى إشاعة الفوضى واستمرارها في محافظة مثلت رمزية مدينة مهمة في التأريخ اليمني المعاصر وهي تأتي بالتوازي مع عدن، واستهداف تعز وعدن في عمقهما المدني انتصار للثقافة البدوية الصحراوية التي يصدرها الاصلاح ويشتغل عليها، كما أن إصرار الاصلاح على استهداف عمران وحجة يصب في ذات الهدف وبحيث يخلق حالة من الفوضى والحياة اللامستقرة، فالتواجد الحوثي في المحافظتين يجعله يتصرف بهستيريا غير محمودة العواقب وهو بذلك لا يدرك خطورة ما يقدم عليه من أفعال، فمحافظة حجة مثلاً بدأت تصحو من غفوتها التاريخية، ويقظة حجة بالضرورة التاريخية سيغير من كلية الحسابات الضيقة وقد يدرك المراقب لتموجات اللحظة في حجة أن مرحلة الهدوء والسكينة قد ولّت، فحجة في جلّ مديرياتها وفي مركزها تشهد حركة تظاهرية مستمرة وهي تزداد يوماً بعد آخر وأبناء حجة في صنعاء يتداعون الآن لتشكيل تكتل تاريخي وبتفاعل لم تعهده طوال عقود مضت، وأنا كنت كتبت في أكثر من مقال أن البلد الأكثر هدوء هو في المقابل الأدوم ثورة والحقائق التاريخية لا يمكن القفز على معطياتها، فقانون التاريخ لا يمكنه أن يتغير فهو الثابت الذي يمكن القياس عليه في تفسير اللحظة وقراءة المستقبل.
وإذا كان الرئيس عبدربه منصور هادي يعيش هاجس الاستقرار، فالخيار المتوافر أمامه هو خيار تاريخي وهو خارج التحالفات التقليدية في الواقع السياسي الذي يبدو أن ضررها عليه أكثر من نفعها له، فالرابط المكاني والتاريخي بين مسور حجة وعدن لاعه يمكنه أن يغير موازين القوى ويساعد على الاستقرار ويبعث روح التسامح ويشيع حالة وطنية ذات خصوصية كذلك التفرد في العمق التاريخي.
من حق الرئيس أن يخلق كتلته التاريخية وينقلب على التحالفات التي ضررها على الوطن أكثر من نفعها وذلك من خلال الوعي بالتاريخ، وعليه أن يدرك أن تحالفه مع الاخوان لن يخلق حالة وطنية مستقرة، ولا يمكن أن ينتج عن ذلك التحالف وطن موحد إن كان يحرص على الاستقرار والوحدة.