الإثنين, 18-مارس-2013
الميثاق نت -   عبدالرحمن مراد -
تحدثت في حوار قائلاً إن اليمن لا يمكن أن يُدار من الغرف المغلقة أو من خلف الأسوار، لذلك فحالة عدم استقرار الفترة الممتدة (1962 - 1967) لم تكن بسبب الولاء المطلق للدولة المتوكلية اليمنية (1918م - 1962م) بقدر ما كانت تعود لأسباب موضوعية لعل أبرزها عدم إدراك قيادة الثورة لطبيعة الانسان اليمني وطبيعة المرحلة.. وقد تحدث البردوني في كتابه قضايا يمنية عن قيادة الجماهير وكيفية إدراك أسرارها الموضوعية والتاريخية، فالتعبير وحالة الانتقال ترتبط بقدرة إدارة التناقضات وبقدرة القائد - أي قائد- على الوصل الجماهيري لا الفصل.
ثمة نماذج في تأريخنا المعاصر لابد من الوقوف أمامها لتكون نبراساً يضيئ مسالك المستقبل ويؤيد ما كان نظرياً وهو نموذج حركة (13يونيو) التي استطاعت من خلال التحامها مع تطلعات الجماهير- وكانت أكثر تعبيراً عن لحظاتها الوجدانية وأكثر قرباً منها- أن تكون حدثاً تأريخياً استثنائياً من خلال بسطها لنفوذ الدولة على معظم ربوع ونواحي اليمن وأن تؤسس للدولة المنشودة، وقد كانت الدولة بمعناها مفقودة بل يمكن الجزم بالقول إنه قبل حركة (13يونيو) لم تكن هناك دولة.. والنموذج الآخر هو نموذج سالم ربيع علي الذي ترك ذكرى عطرة في وجدان وذاكرة الانسان من خلال وصل ما انقطع بين القيادة والجماهير واشتغاله على الذات اليمنية الحضارية والثقافية اليمنية (الهوية التأريخية).
وفي النموذج الحديث نجد تجربة الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي استطاع أن يحدث قدراً من التوازن ومن التواصل بينه وبين جماهير شعبه الى درجة الإفراط، فنشاطه قد يتعدد في اليوم الواحد ويبث التلفاز خطاباته المتعددة، وكان الناس يحرصون على التخشب أمام شاشة التلفاز في تمام الساعة التاسعة مساءً - يبدو أن هذه اللحظة الزمنية (التاسعة مساءً من كل يوم) كانت هي الرابط الوجداني الذي من خلاله يتواصل الرئيس مع أبناء شعبه من خلال ذلك النشاط وذلك النزول الميداني، وأذكر أنني في أحد الأيام كنت في ضيافة كلية التربية بمحافظة المهرة وكان لي حوار مع عميدها وقتئذٍ وديدن حديثنا كان حول الرئيس علي عبدالله صالح، ولا أكتم سراً إن قلت إننا تحدثنا عن الافراط في خطابات الرئيس وكان موقفنا من ذلك الافراط موقفاً سلبياً، فقد ذهبنا الى القول انه لا يتوجب على الرئيس أن يسهب في خطاباته بمثل ما دأب عليه الى الحد الذي يوقعه في التناقض مع نفسه.
طبعاً لم أدرك حينها خصوصية اليمن، وحين عصفت بنا مناخات 2011م بدأت بالتأمل ووجدت أن ذكاء الزعيم كان وراء هذا الحضور السياسي والجماهيري المتزايد له، فالرجل الذي سبر غور الحياة وتعارك مع التناقضات كسب خبرة لا يمكن التقليل من شأنها، ويمكن أن نقول إن غباء خصومه خدمه الى درجة غيابهم من الوجدان الشعبي وحضوره وتجدده في ذلك الوجدان، فالروح العامرة بالحب والسلام والتصالح والتسامح قادرة على البقاء والحياة والاستمرار، والروح العامرة بالحقد والموت والدمار والإلغاء والإقصاء ليست جديرة بالحياة، ولا يمكن للوجدان الشعبي أن يمنحها ثقته أو يحيطها بحنانه والتفافه حولها، لذلك فالناس تنفضّ عن الفظّ الذي يكون غليظ القلب، وهي الأميل بحكم فطرتها التي فطرها الله عليها الى العفو والتسامح وقيم الخير والحق والسلام، لذلك فدعوات الزعيم علي عبدالله صالح الى طي صفحة الماضي والى الحب والخير والسلام أصابت خصومه كل خصومه بمقتل، إذ لا تكاد تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزاً، في حين تجد فئات الشعب المختلفة تذهب الى بيت الزعيم وتحيطه بحبها وتقديرها وتجد في (كاريزميته) ملاذاً لها من عبث الواقع، وامتلاءً تسد به فراغاً وجدانياً تركه غيابه.
هذا الفلاح ابن التربة اليمنية الذي عجنته شمس التجربة استطاع أن يصنع لنفسه مجداً لا يسعنا الا أن نرفع قبعاتنا - على طريقة الغرب- إجلالاً وتقديراً له، أقول ذلك وأنا مَنْ عارضه إبان حكمه وكتب عنه كما لم يكتب أحد، وجل إصداراتي التي بلغت حتى اللحظة تسعة إصدارات لا يكاد يخلو منها نقدي له إما تصريحاً أو تلميحاً، ولكنني الآن أدركت أنه كان يملك قلباً بنقاء وطهر اليمن، وعقلاً بحكمة وفلسفة القيل اليماني (ذو رعين) وصبراً قادراً على تحمل الألم يفوق عبد يغوث الحارثي الذي سخر من الشيخة العبشمية وهو في قمة ألمه ونزيفه وانكساره.
هذه الخواطر خامرتني وأنا أشاهد التلفاز أثناء بثه لفعالية شباب «الفيس بوك» وعجبت كل العجب حين رأيت الشباب يتداعون من كل حدب وصوب وليس لهم من مغنم إلا لقاء الزعيم.. وكم كنت أسخر في الماضي من المؤتمر حين كان لا يستطيع أن يحشد أحداً إلا بالإغراءات المالية، والأغرب أن يتحول المؤتمر من مستهدفٍ بالتغيير الى صانعٍ للتغيير، وقد تكرر معي هذا المعنى في أكثر من مقال لأنني لم أزل في حالة الدهشة التي صنعها ذلك التحول للمؤتمر وذلك النكوص لخصومه.
ما يميز المؤتمر عن غيره أنه كان يمني المنطلق والغاية والهدف والفكرة وليس له امتدادات خارجية شأن غيره، وهذا سر استمراره وتفرده واتساع قاعدته الجماهيرية.. وكم توقعت سقوطه تحت مطارق الربيع العربي، فلم يزده ضربها الا ثباتاً وتماسكاً واتساعاً وهو ما لم أكن أتوقعه، إذ توقعت سقوطه، كما سقط غيره من الاحزاب في دول الربيع العربي، وتوقعت أن تذهب قاعدته الجماهيرية الى الحركة الحوثية.. ولعل القارئ يذكر مثل ذلك، لكن أصالة منبعه وقوة ارتباطه بالهوية الحضارية جعلته الرقم الأصعب في المعادلة السياسية الوطنية.
يبقى القول إن اليمن هي البلد الاستثناء.. البلد المتناقض والمتغاير والمتعدد والذي لا يمكن أن يخضع للغرف المغلقة ولا يقبل إلا بحالات الوصل بين القاعدة والقيادة، ودلائل التأريخ متعددة سواءً ما كان قد مر في غابر الأيام أو العصور أو ما هو حديث ومعاصر.. وعلى من أراد أن يحكم هذا البلد أن يدرك مثل تلك الخصوصية.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 02:31 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-31195.htm