الإثنين, 21-مايو-2007
الميثاق نت -  بقلم نقولا ناصر* -
تتحمٌل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية الأكبر في إطالة أمد الأزمة الوطنية بفتحها الثغرة الأوسع للتدخٌل الخارجي في الشأن الداخلي ممٌا يطيل أمد الوضع الانتقالي الذي تعيشه سلطة الحكم الذاتي منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة ، والتي تديرها في الظاهر حكومة شراكة وطنية لكنٌها في الواقع ممزٌقة بين مؤسسات ما زالت حركة "فتح" ترفض تسليم قيادتها ل"حماس" وبين مؤسسات اضطرت حركة المقاومة الإسلامية لهذا لسبب بالذات إلى إنشائها لتتمكٌن من "الحكم" ، وهو الوضع الأمثل لتفاقم الانفلات الأمني من ناحية ولاستمرار مسلسلات الاقتتال كما مسلسل اتفاقيات "وقف إطلاق النار" التي ما يكاد يتم توقيعها حتٌى يجري انتهاكها من ناحية أخرى ، مما يبقي الوضع الداخلي مرتهنا لخطر حرب أهلية قد تندلع شاملة في أية لحظة .
ويعيد تجدٌُد الاقتتال الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر التذكير بالعوامل الخارجية والذاتية التي قضت مُسبقا بأن لا يزيد اتفاق مكٌة على كونه هدنة مؤقتة يهدٌدُ ببقاء شبح الحرب الأهلية سيفا مُسلطا بيد الاحتلال الإسرائيلي والقوى الخارجية الداعمة له ، إضافة إلى الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني ، للضغط على القيادات الفلسطينية حتى الرضوخ لإرادة إسرائيل السياسية . وإذا كانت المُحرٌضات الخارجية للاقتتال مُتوقٌعة ومفهومة من أطراف الاصطراع الفلسطيني فإن استمرار تشبٌث هذه الأطراف بعصبيٌاتها وأجنداتها التنظيمية حدٌ المخاطرة بالحرب الأهلية ما يزال هو العامل الذاتي الأخطر الذي يفتح الثغرة الأوسع للتدخٌل الخارجي في الشأن الداخلي لمنع الوفاق الوطني .
واتٌضح التدخٌل الخارجي مؤخٌرا بالبيان المنافق الذي أصدرته يوم الجمعة قبل الماضي اللجنة الرباعية الدولية للأمم المتحدة والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وروسيا ، ذلك البيان الذي ناشد وقف الاقتتال من ناحية لكنه من ناحية أخرى ناقض نفسه بتجديد التأكيد على اشتراط التزام القيادة الفلسطينية ، أيٌا كانت ، بشروط الرباعية لفك الحصار ، في تسعير سافر للخلاف الفلسطيني بين من "يقاتلون" للتساوُق مع تلك الشروط باسم "الواقعية" وبين من "يقاتلون" للحيلولة دون الرضوخ لها باسم "المقاومة" .

ويتٌضح التساوق بين العامل الخارجي للأزمة وبين أحد طرفيها بالتطابق تقريبا بين موقف الرباعية وتصريحات بان كي - مون الأمين العام للأمم المتحدة التي كررها الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير من جهة وبين موقف اللجنة التنفيذية للمنظمة كما عبٌر عنه بيانها وتصريحات أمين سرٌها ، ياسر عبد ربه ، في الأسبوع الماضي ، إذ حمٌل الموقفان حركة "حماس" المسؤولية عن اندلاع الموجة الأخيرة من الاقتتال وأعربا عن القلق من اتساعه وحثٌا قيادة المنظمة على وقفه ، مما سلٌط الأضواء مجدٌدا على "العامل الذاتي" في الأزمة الوطنية التي لم يُفلح الحوار الوطني حتى الآن في نزع فتيل الخلاف السياسي ، المسبٌب الرئيسي لها .

إنٌ تحميل المسؤولية لحماس وحدها دون الطرف الآخر في الأزمة ، وإعفاء الاحتلال الإسرائيلي والحصار الذي تفرضه الرباعية منها ، وتبرئة الصراع الضاري على السلطة من أي مسؤولية عنها ، فيه الكثير من الاستهتار بعقول الناس والكثير من الطمس المُتعمٌد للحقائق وكذلك الكثير من الإجحاف بحق "حماس" ، إذ ما هي مصلحة الحركة التي تقود حكومة "وحدة وطنية" في رأس جدول أعمالها فرض الأمن والنظام في افتعال معركة داخلية تُفاقم من انعدام الأمن والنظام لتهدٌد بإفشال الحكومة التي تقودها !

ثمٌ أن إعادة التلويح بخيارات ثبت فشلها بعد أن سبق طرحها قبل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لحرمان "حماس" من جني ثمار انضمامها لمؤسسات أوسلو ونصرها الانتخابي ، مثل التهديد بما تُروٌج له دوائر أجنبية من ضرورة إجراء انتخابات مبكٌرة أو اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ "وإعادة تشكيل مؤسسات السلطة (الفلسطينية) لمواجهة الحالة الطارئة التي نحن أمامها" ، كما أعلن عبد ربة ، لا يمكنه إلاٌ أن يعيد الأزمة إلى ما كانت عليه قبل توقيع اتفاق مكة في الثامن من شباط / فبراير الماضي ، بدل البناء على هذا الاتفاق وتطويره ، ولا يمكن تفسيره إلاٌ كالتفاف على ذلك الاتفاق الذي أسٌس لشراكة وطنية في صنع القرار الفلسطيني يبدو واضحا الآن أن قيادات فلسطينية قد قبلته على مضض ، بانتظار فرصة سانحة للتراجع عمٌا اضطرت للقبول به بفضل تيار في حركة فتح يقوده الرئيس محمود عبٌاس ويتمسك بالحوار والوحدة الوطنية ويعتبر الدم الفلسطيني خطٌا أحمرا .

وفي مواجهة التهديد باندلاع حرب أهلية تُهدد ما تسمٌيه قيادة المنظمة ب"المشروع الوطني" كما تهدٌد أيضا ما تعتبره المنظمة "إنجازات وطنية" تراكمت خلال الأربعين عاما المنصرمة من النضال الوطني بقيادتها ، لم يعد مقبولا إلاٌ تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ووضع الإصبع على الجرح مهما بلغ الألم ، للقول إن هذه القيادة ما زالت تتحمل المسؤولية الأكبر عن توفير الشروط الذاتية لاستمرار العوامل الخارجية في تسعير العامل الذاتي للاقتتال . لماذا ؟

أولا لأن مواقف هذه القيادة ما زالت هي الثغرة المفتوحة للتدخل الأجنبي ، سواء بحسن نيٌة أو بسوء نية ، وإذا كان يمكن غضٌ النظر لأسباب قاهرة عن تلقٌي المعونات المشروطة للدول المانحة عبر قنوات شخصية وأخرى غير رسمية لا تخضع لإدارة وزارة مالية الحكم الذاتي ولا لرقابة مجلسه التشريعي فإنه لم يعد مُستساغا استمرار قبول قيادة المنظمة بالانتقائية السياسية والدبلوماسية التي تعترف بالرئاسة الفلسطينية وتقاطع الحكومة ، أو تتعامل مع شريك في حكومة الوحدة الوطنية وتقاطع الشريك الآخر ، أو تتعامل مع منظمة التحرير وترفض التعامل مع تنظيمات أعضاء فيها أو مع قوى غير أعضاء فيها لكون المنظمة بحكم الاتفاقيات الموقعة تمثلهم جميعا ، أو تلتقي هذا الوزير لكنها ترفض اللقاء مع وزير آخر ، إلخ.

إن مسوٌغات استمرار قبول قيادة المنظمة بهذه الانتقائية بالرغم من رفضها اللفظي غير المقنع لها لم تعد مُقنعة لأحد وقد تحوٌلت هذه الازدواجية التي لا يوجد مثيل لها في الأعراف الدبلوماسية إلى اعتراف فلسطيني واقعي بحق القوى المعادية في تقرير من يمثٌل الشعب الفلسطيني وبحقها في إلغاء الاختيار الديموقراطي الحرٌ لهذا الشعب . ولم يعد هناك أي تفسير لذلك غير كونه تشجيعا صريحا للتدخل الخارجي في الشأن الفلسطيني ، يزيد في الرفض الشعبي المتزايد له أن حجٌة كونه شعرة معاوية للتواصل مع العالم الخارجي كثغرة في الحصار المُحكم لم تنجح حتى الآن إلاٌ في فتح ثغرة معاكسة في الصفٌ الوطني تستخدمها القوى الخارجية غطاء لتدخٌلها .

ولأن قيادة المنظمة ثانيا ما زالت تؤكٌد بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، لكنها ، وبغضٌ النظر عن الطعن في هذا التمثيل من قطاعات سياسية وشعبية واسعة ، مُتٌهمة بتمثيل اتٌجاه واحد فصائلي للاجتهاد الوطني ، اتجاه مُتٌهم أنه يستقوي بالخارج على الاجتهاد المنافس لحسم اصطراع داخلي على سلطة الحكم الذاتي من جهة وصراع وطني من جهة أخرى على برنامجين سياسيين لم يُفلح لا الحوار الوطني ولا الوساطة العربية المتمثلة باتفاق مكٌة في التوفيق بينهما .

وإذا كان من غير الممكن الإجحاف بالدور الجريء الذي يناضل الرئيس الفلسطيني محمود عبٌاس للقيام به للتوفيق بين ما تدٌعيه قيادة المنظمة من تمثيل وما تمارسه فعلا متناقضا مع ما تدٌعيه (كما اتٌضح في تراجعه الشُجاع في مكٌة المكرٌمة عن قناعاته الشخصية المعلنة كما عن الموقف المعلن لحركة فتح التي يقودها حفاظا على الوحدة الوطنية ودرءا لحرب أهلية كان الاقتتال ينذر باندلاعها آنذاك وتمسكا بالحوار كأسلوب وحيد لحل الخلافات ليس بين الفلسطينيين فقط بل وبينهم وبين الإسرائيليين أيضا ) ، فإن من غير الممكن أيضا إعفاء الرئيس من المسؤولية عن استمرار الخلط بين موقفه الشخصي المعلن وبين تصريحات ناطقين باسم قيادة المنظمة لا ينطقون فعلا سوى باسم أحد طرفي الأزمة .

وثالثا لأن جولة الاقتتال الأخيرة تكشف دون أي مجال للشٌك أن الانقسام في حركة فتح التي تقود المنظمة وقادت النضال الوطني طوال العقود القليلة الماضية ما يزال يتفاعل منذ ظهر هذا الانقسام إلى العيان في القائمتين الانتخابيتين اللتين لم تتوحدا إلا ساعات قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة ، هذا الانقسام الذي يتذرٌع بصراع بين قيادات في الخارج همٌشتها اتفاقيٌات أوسلو وبين قيادات في الداخل يريد الاحتلال لها أن تحتكر تمثيل شعبها وقضيته ، أو يتذرع بصراع بين جيل الشيوخ وبين جيل الشباب في الحركة ، أو بغير ذلك من الذرائع التي تُروٌج وتُعمٌم للتغطية على تيٌار في الحركة له امتداداته خارجها وداخل المنظمة يتقاطع في رؤاه الإستراتيجية مع الرؤية الإسرائيلية لحل الصراع العربي الإسرائيلي . إن هذا الانقسام الحركي ما زال قادرا على إعادة زجٌ منظمة التحرير كطرف في الاصطراع الداخلي ويحول دون الدور الوطني لها كمظلة مُوحٌدة للاجتهادات الوطنية المتصارعة .

ويقود هذا الدور إلى السبب الرابع لكون المنظمة تتحمل المسؤولية الأكبر في العوامل الذاتية لاستمرار الأزمة ، فهي بصفتها المرجعية لسلطة الحكم الذاتي قد احترمت شكلا نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أوصلت حماس إلى السلطة لكنها حتى الآن تمارس دور العنوان الذي يحُول دون التداول الفعلي للسلطة ، فحركة "فتح" لم تُسلٌم بعد مؤسسات السلطة بحجٌة أنها تابعة للرئاسة وحركة "حماس" لم تتسلٌم بعد هذه المؤسسات ، بينما تُوفٌر المنظمة الغطاء الشرعي لهذه الازدواجية ولإطالة أمد هذا الوضع الانتقالي الذي يهدٌد استمراره بتفاقم الأزمة حدٌ الانفجار . وكانت استقالة وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية ، هاني القواسمه ، إعلانا مدويٌا لهذا الواقع الذي يعكس تناقض المنظمة بين القول والفعل والذي كان منذ البدء يهدٌد ببقاء الخطة الأمنية -- التي أقرٌتها حكومة الوحدة في نيسان / أبريل الماضي -- حبرا على ورق .

كما أن استمرار المنظمة خامسا بالقبول من حيث المبدأ بالمعونات المشروطة لمانحين يسعون صراحة إلى تأليب الفلسطينيين على بعضهم بالتحريض المباشر لتأهيل وتجهيز مؤسساتها الأمنية بهدف مُعلن لا مواربة فيه هو حسم الصراع على السلطة لصالح طرف ضدٌ الطرف الآخر ، وليس لفرض القانون والنظام ضدٌ الخارجين عليهما ، إنما يخلق البيئة المثلى لاستمرار انعدام الثقة بين طرفي الأزمة بينما الثقة شرط مسبق أساسي لحلٌها .

وممٌا يُؤسف له سادسا أن التيار المسؤول عن هذا الوضع المتفجٌر الذي يسعى إلى اختطاف فتح والمنظمة ومن خلالهما احتكار صنع القرار الفلسطيني يجد له ناطقين باسمه من غير أعضائه من بين قيادات المنظمة ، ممٌن فقدوا حتى التمثيل الفصائلي الذي أوصلهم إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، وممٌن ما زالوا يشغلون مناصبهم في عضوية هذه اللجنة بحكم الاستمرارية فقط وبفضل تعطيل وتهميش دور المنظمة بعد اتفاقات أوسلو الذي عطٌل بدوره أيٌ تجديد "ثوري" أو "ديموقراطي" لقياداتها من أجل تمرير تلك الاتفاقيات التي وأدتها إسرائيل نفسها وتكاد تقتل المنظمة معها . إن استمرار التخلٌي عن مهمٌة النطق باسم المنظمة للناطقين باسم تيار هو طرف رئيسي في الأزمة ينبغي أن يتوقف لأنه يسعى واعيا إلى عدم تحييدها في الأزمة ، ولو شكليا ، وإلى زجٌها كطرف في الاصطراع بتقديمها للرأي العام كطرف ثان فيه وفي كثير من الأحيان يخلط هؤلاء الناطقون بين مواقفهم المنحازة وبين الموقف المفترض المحايد للمنظمة كمرجعية وطنية والموقف المحايد المعلن لرئيسها ، وهو الرئيس المفترض للشعب الفلسطيني كافٌة .

واللافت للنظر أن الناطقين باسم هذا التيار في قيادة المنظمة ، هم الناطقون الوحيدون باسمها وليسوا الناطقين الأعلى صوتا من بين قياداتها ، وهم "وحيدون" لأن كلٌ القادة الآخرين "صامتون" ، وهؤلاء صامتون إمٌا لأنهم قد انتقلوا إلى رحمة الله أو لأنهم "إضافات" مُعيٌنة أو لأن الصمت كان قد أصبح دورهم الوحيد منذ مدٌة طويلة . إنٌ الصامتين من قيادات المنظمة من القابلين عجزا أو طوعا أو كرها باستخدام أسمائهم غطاء لحرفها عن الدور الوطني المناط بها حسب ميثاقها ونظامها الأساسي لن يعفيهم صمتهم من المسؤولية التاريخية عن أي اقتتال دموي تكون المنظمة عنوانا لطرف فيه أو تغطية لطرف فيه ، كما لن يعفيهم من المسؤولية السياسية عن عدم قيام المنظمة بدور لمنع أي اقتتال كهذا أو في الأقل بدور يُسجٌل للتاريخ من هي الجهة التي تتحمل المسؤولية عن اندلاعه .

والصمت "الفردي" لهؤلاء يقترن بصمت مماثل "تنظيمي" للفصائل الأعضاء في المنظمة التي ما زالت – لأسباب عديدة ليس هنا مجال التفصيل فيها – تُحجم عن تسمية الأشياء بأسمائها في تحديد المسؤولية عن الأزمة الوطنية الني تهدٌد بالتطور إلى كارثة وطنية ، وهؤلاء أيضا لن يعفيهم صمتهم من مسؤوليٌاتهم التاريخية والسياسية .

ولا يعفي ما تقدٌم حماس من المسؤولية عن العامل الذاتي في دفع الأزمة الوطنية إلى شفا الحرب الأهلية وفي هذا الشأن يمكن العودة إلى مقال "أسئلة معلٌقة أجوبتها لدى حماس" لكاتب هذا المقال نفسه .

*كاتب عربي من فلسطين .
[email protected]
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 02:06 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-3176.htm