الإثنين, 21-مايو-2007
قسم‮ ‬التحقيقات -
لُغم التشطير اللعين رغم اجتثاثه إلاّ أنه مازال يحصد ضحاياه من الأطفال والنساء الأبرياء.. لغم التشطير الذي زرع إبان العهد التشطيري البغيض في نقاط التماس أو الشطرية أو جبهات خط النار.. ولأنه لغم شرير زرعه تشطير شرير ظل منذاك العهد وحتى اليوم وهو يخرج علينا بين الحين والآخر لينفجر في وجهنا مخلفاً وراءه ضحية جديدة بين طفل وشيخ وبين شاب وشابة وبين انسان وحيوان. بل إن شر هذا اللغم قد استعصى حتى على الكلاب البوليسية التي لجأ الى الاستعانة بها البرنامج الوطني لنزع واكتشاف الألغام.. التشطير أزيل بكل رواسبه إلاّ لغم التشطير المزروع الذي تنوعت ضحاياه بتنوع مناطق ومناخ اليمن، فتجاوز الرقم عشرات الآلاف من الضحايا الذين قضوا نحبهم على دوي لغم التشطير عدا ما يقارب الخمسة آلاف يكابدون اليوم مأساة الاعاقة التي فعلها بهم لغم التشطير.
هؤلاء يؤدون اليوم طقوس أفراحهم بعيد وحدتهم بالطريقة التي لقنهم إياها لغم التشطير وتركهم بنصف جسد كما أراد أن يجعل الوطن هكذا.. إنهم بلا أرجل يمشون بها وبلا أيدٍ يأكلون بها، كما انتزع منهم نظرهم.. الخ.. لكنهم اليوم يحتفلون كعادتهم إما قاعدين وإما على كراسي الاعاقة،‮ ‬أو‮ ‬حبواً‮.. ‬جميع‮ ‬الطرق‮ ‬ألفوها‮.‬
ومع أننا لم نقاسمهم مأساتهم إلاّ أنهم مجمعون على لعن عهود التشطير وأيامها السوداء وخصوصاً المناطق التي كانت مسرحاً للصراع الشطري، وهم لا يذوقون طعم الأمن، كما يقول الأخ صالح الضحياني -أحد ضحايا لغم التشطير- الضحياني الذي أخذ لغم التشطير منه ساقيه عام ٢٨٩١م وعمره لايزال حينها ٣١ عاماً عندما انفجر به أحد ألغام التشطير في جبل الشيبة بالمناطق الوسطى، يعتبر لحظات تعرضه للحادثة لحظات مؤلمة لا يحب استعادتها -كما يقول- بالذات نحن الضحايا، خاصة وأنه ظل ينزف طوال ٤١ ساعة من الحادثة نتيجة صعوبة المواصلات وعدم توافر الاسعافات‮ ‬الأولية‮ ‬وتدخل‮ ‬الطب‮.. ‬لذلك‮ ‬يقول‮: ‬نحن‮ ‬الضحايا‮ ‬من‮ ‬الأفضل‮ ‬لنا‮ ‬عدم‮ ‬تذكرها‮ ‬لأنها‮ ‬مؤلمة‮.‬
ورغم ما عاناه الضحياني، لكنه بالارادة استطاع أن يتغلب على مأساته وواصل دراسته الى أن حصل على شهادة الليسانس- حقوق من جامعة صنعاء، ويعمل اليوم محامياً، بل إن الأمر لم يتوقف عند هذا وانما ذهب الضحياني الى التفكير بمأساة الآخرين -زملائه ضحايا لغم التشطير- بحيث يقدم لهم شيئاً يساعدهم في التغلب على معاناتهم خاصة وأنه يقول: في العادة ضحايا الألغام يعانون كثيراً من المشاكل الصحية والنفسية.. منهم من يحتاج الى أجهزة طبية -تعويضية- أو تركيب أطراف صناعية أو ازالة شظايا أو بتر جزء من جسده لمنع انتشار السم في بقية الجسم‮ ‬أو‮ ‬لازالة‮ ‬التشوهات‮.‬
وهو ما حققه فعلاً عندما أسس في سبتمبر ٤٠٠٢م، بالتعاون مع البرنامج الوطني للألغام »الجمعية اليمنية للناجين من الألغام والقذائف« ويتبوأ منصب رئاستها، وتتولى الجمعية اسعاف ضحايا الألغام الى المستشفى العام بعدن لإجراء الفحوصات ومعرفة ما يحتاجونه من مساعدة، ثم بعد ذلك يعمل على اعادة تأهيلهم وادماجهم في المجتمع.. ومنذ تأسيسها حتى اليوم استطاعت تأهيل ٠٥١ ضحية طالتها ألغام التشطير.. مع أن العدد قليل لكن جميعهم أصبحوا فاعلين في المجتمع ويمارسون حياتهم ونشاطهم اليومي بصورة عادية.. منهم المدرس والعامل والنجار والمحاسب‮ ‬والمبرمج،‮ ‬ويكفي‮ ‬أنهم‮ ‬قد‮ ‬أصبحوا‮ ‬مدرسين‮ ‬ومدربين‮ ‬ويديرون‮ ‬نشاط‮ ‬ومهام‮ ‬الجمعية‮ ‬كاملةً‮.‬
> وما دمنا نعيش غمرة افراح العيد الوطني الـ٧١ للجمهورية اليمنية وازالة لغم التشطير، لابد أن نتعظ من مأساة هؤلاء وما فعله لغم التشطير بهم وبحياتهم، ونحمد الله على الوحدة التي أتت بالأمن والاستقرار لتلك المناطق الشطرية، التي ودعت ويلات التشطير وكوارثه، وحتى نكون منصفين لوحدتنا مما يطالها.. تعالوا الى قراءات مآسي ضحايا لغم التشطير، ابتداءً من الطفلة أروى علي سعيد من مديرية قعطبة -والتي بتر لغم التشطير قبل ست سنوات ساقيها وهي لم تكمل ربيعها الـ٣١- عندما ذهبت ذات يوم لرعي الغنم مع رفيقاتها في أحد جبال المنطقة، وبينما‮ ‬كانت‮ ‬تمرح‮ ‬انفجر‮ ‬بها‮ ‬لغم،‮ ‬وتقول‮ ‬أروى‮:‬
»رغم أن المكان الذي تعرضت فيه للحادثة قد مشيت فيه مع رفيقاتي أكثر من مرة في السابق« لكن بالصدفة في ذاك اليوم ذهبت اليه بمفردها وحدث لها ما حدث.. اذ تقول: ذهبت لرعي الغنم ومررت بالمكان المليئ بالحشائش والعلف الكثيف فانفجر اللغم الذي بعثر جسدي -كما ترى- خاصة بعدما قرر الطبيب في المستشفى إزالة ساقين تخلصاً من التسمم الذي كاد يقضي على حياتي نهائياً.. وها أنا اليوم كما ترى بلا ساقين، لكنني اعيش هنا في داخل الجمعية وأواصل دراستي ونشاطي في الجمعية، لكن على »كرسي« وكذلك أتواصل مع أسرتي -أبي في السعودية واشقائي ووالدتي‮ ‬في‮ ‬البلاد‮- ‬إما‮ ‬بالتليفون‮ ‬أو‮ ‬يأتون‮ ‬الى‮ ‬هنا‮.‬
> أروى اليوم تبلغ من العمر ٨١ سنة تمتاز بلسان بليغ الخطاب، وجمال فتان، واذا ما اطلعت على صورتها يوم الحادثة لا تصدق أنها صورة للشابة التي أمامك اليوم، لكنها اروى على كل حال والجميع يعرف تاريخ السيدة أروى.. وتكاد مأساة سبأ الجرادي هي الأخرى إحدى ضحايا لغم التشطير نفسها تتكرر لكن مأساة سبأ أعظم لأن لغم التشطير زارها مرتين الأولى عندما فقدت والدها عام ٢٨٩١م، وهي ماتزال بنت سبعة أشهر، لذلك عرفت لغم التشطير من وقت مبكر بقاتل ابيها.. ثم زارها مرة أخرى عام ٩٩٩١م، وهي بنت ٧١ سنة، حيث تقول سبأ: ذات صباح في أحد الأيام ذهبت مع رفيقاتي من القرية لجمع الحطب في أحد الجبال بمحافظة الضالع حالياً-منطقة التشطير سابقاً- وكنت أسير بأمان الله ولم أدرِ إلاّ وقد طار بي انفجار وظلت انزف في مكان الحادث حوالي ساعتين في أعلى قمة الجبل لصعوبة الوصول اليها لعدم وجود الطرق.. صحيح أنني لم‮ ‬أكن‮ ‬أدرس‮ ‬لظروف‮ ‬وعادات‮ ‬الريف‮.. ‬لكنني‮ ‬أتيت‮ ‬الى‮ ‬هنا‮ ‬وواصلت‮ ‬دراستي‮ ‬وامي‮ ‬تعيش‮ ‬معي‮ ‬هنا‮ ‬في‮ ‬صنعاء‮ ‬وباقي‮ ‬الأسرة‮ ‬في‮ ‬البلاد‮.‬
سبأ الجرادى -إنها ملكة سبأ اليوم رغم أن لغم التشطير قد حرمها نعمة السير بساقين طبيعيتين وأبدلتا بصناعيتين، كما حرمها ايضاً أن يكون لها اشقاء عندما أخذ أباها وهي ماتزال رضيعة.. سبأ اليوم -أمين عام الجمعية اليمنية للناجين من الألغام، وتعد من أهم كوادر التأهيل‮ ‬لزملائها‮ ‬ضحايا‮ ‬الألغام‮.‬
المأساة نفسها داهمت الطفل غانم احمد غالب في أحد جبال شرعب بمحافظة تعز وأخذت منه يده اليمنى عام ٨٩٩١م، وعمره حينذاك ٨ سنوات فقط، وكذلك الطفل بشير الوصابي، والطفل جلال قائد والطفلة قارية العمري، وهناك قرابة ٥ آلاف ضحية للغم التشطيري ومآسيه.. في حين حالات الوفاة تفوق هذا الرقم بمئات المرات.. وستظل المأساة قائمة ما دام هناك ٤١ حقلاً للألغام موزعة في المناطق الوسطى يتم تسويرها بشكل دائم لعدم تمكن البرنامج من نزعها وتحتاج الى تكنولوجيا حديثة، بل انها تحتاج الى استقدام آلة حديثة من أمريكا مخصصة لنخل التربة وانزال الجبال‮ ‬واستخراج‮ ‬الألغام‮ ‬المضادة‮ ‬للأفراد‮ ‬في‮ ‬لحج‮ ‬وإب‮ ‬وشبوة‮ ‬وحضرموت‮.‬
ويقول البرنامج الوطني للألغام إنه نظف ٥٢١ موقعاً من الألغام، منها ٠٧ موقعاً في الضالع وحدها، و45 في إب، و10 في البيضاء.. كما أنه مسح منذ انشائه ٢٠٥ مليون و٠٠٢ ألف و٧٩ متراً مربعاً من اجمالي الأراضي المزروعة والمقدرة بـ٣٢٩ مليون متر مربع، وأنه دمر »٥١٣.٣٩١«‮ ‬لغماً‮ ‬وكذلك‮ ‬تدمير‮ ‬المخزون‮ ‬من‮ ‬الألغام‮ ‬الفردية‮.. ‬وكل‮ ‬هذا‮ ‬يتم‮ ‬بفضل‮ ‬منجز‮ ‬الوحدة‮ ‬في‮ ‬الـ‮٢٢ ‬من‮ ‬مايو‮ ٠٩٩١‬م‮.‬
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:46 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-3200.htm