احمد الحبيشي - ثمّة علامات بارزة في مسار الديمقراطية الناشئة التي تشهدها بلادنا، وهي حرية التفكير وعلنية الحوارات والمناقشات ، بيد أنّ الحرية والعلنية غير معصومتين على الدوام من الانحراف نحو الفوضوية ، الأمر الذي يتطلب أسلوباً واقعياً في التعامل مع المنابع الفكرية والاجتماعية للميول الفوضوية في المجتمع ، بصرف النظر عن عدم تجانسها.
من الخطأ الاعتقاد بأنّ الجانب الأكثر جاذبية في الفوضوية هو نزعتها المتمردة على الأوضاع والوقائع السلبية ، بل أنّ الجانب الأكثر جاذبية فيها هو ثوريتها المتسمة بالجموح الفوضوي تارة، ونفاد الصبر ضد كل شيء تارةً أخرى.
وهنا تبرز أهمية الديمقراطية في التعامل مع الجانب الأول بوصفه احتياطياً مباشراً لأيديولوجيا القفز على الواقع ، وما يترتب عليها من انحرافات انتهازية ، وضد الجانب الثاني بوصفه خطراً مباشراً على التطور الموضوعي للديمقراطية ، وتهديداً بالعودة إلى الشمولية والاستبداد .
بوسعنا القول ان التحليل النقدي للانحرافات الانتهازية يقودنا إلى استنتاج هام ، وهو أنّ انتشار تلك الانحرافات بقدر ما ارتبط على الدوام بمصادرة الديمقراطية وتضييق قنواتها وتعطيل أطرها وقمع الآراء وإشاعة أجواء الإرهاب الفكري في حياتنا ، وخاصة ذلك الإرهاب الذي يمارسه المثقفون بدرجة رئيسية ، بقدر ما ارتبط الكفاح ضدها بممارسة الديمقراطية وإشاعتها وتوسيع نطاقها في حياة المجتمع بشكل عام. ما من شك في أنّ إرساء دعائم المناقشات الحرة بين مختلف الأفكار والآراء يُعد من الناحية العملية نقداً مباشراً للأخطاء التي ارتكبت في الماضي أثناء هيمنة الثقافة السياسية الشمولية والنزعات الدوغمائية المصابة بالوهن الذهني والتفكير المعلب ، والتي ارتبط وجودها بغياب الديمقراطية.
يخطئ من يعتقد أنّ الحرية تعني الاقصاء والفوضى والقفز فوق الواقع ، كما يخطئ من يحاول درء الفوضى بوضع قيود على الحرية ، فمشاكل الديمقراطية لا تعالج إلا من خلال الديمقراطية نفسها ، وبقدر التوجه نحو ديمقراطية أوسع بقدر التوجه أيضاً نحو مسؤولية أكبر، فلا حرية من دون ديمقراطية ولا ديمقراطية من دون حماية ولا حماية من دون سيادة سلطة القانون.
ولئن كانت إشاعة الديمقراطية وحرية التفكير والتعبير تساعد على التطور المستمر لأساليب العمل والبناء والمبادرات الإبداعية ، فإنّها تساعد أيضاً على أن تستند هذه الأساليب إلى قاعدة راسخة من التجديد المستمر لأساليب التفكير، وهي مهمة يستحيل تحقيقها من دون إشاعة أجواء الحرية في مجالات التفكير والعمل معاً.
في هذه الحالة يمكن القول إنّ تنوع الآراء والأفكار والقوى المدنية في مجرى الممارسة السياسية لا يضعف وحدة المجتمع، بل أنّه يساعد على أن تكون مهمة تطوير السياسة غير خاضعة لأوليغارشيات ونخب فوقية معيّنة ، تحتكر بصورةٍ مطلقة السلطة والثروة والنفوذ والممارسة السياسية. لا ريب في أنّ الخطر الحقيقي الذي يهدد وحدة المجتمع هو ذلك الذي ينبع من افتقاد المعرفة وضياع الحقيقة وعدم القدرة على التعامل مع المتغيرات التي تحدث في الواقع والبيئة العالمية. ويتسع الخطر على هذه الوحدة حين يتم الفصل بين الرغبات والواقع مما يقود إلى تجاهل الاتجاهات الجديدة والملموسة للتطور، وما ينجم عن ذلك من إشكاليات تنشأ بفعل تحويل الأفكار إلى نصوص جامدة وتصورات جاهزة ونهائية تعيق حركة التقدم وتشوه الممارسة وتهدد الوحدة، وحدة الأرض ووحدة المجتمع ووحدة العالم !!
في هذا السياق يدفع الفكر ثمناً باهظاً من جراء الإرهاب الفكري ويولد مسوخاً من الانحرافات الانتهازية في حياتنا الفكرية والثقافية ، تبدأ في أضعف حالاتها بالنصية المدرسية البليدة التي تسلب الفكر حيويته وتصيبه بالجمود العقائدي القاتل ، ثمّ تنتهي في أبشع حالاتها إلى الفوضى والانحراف. وهكذا ، يصبح الإرهاب الفكري أحد أبرز المنابع التي يعود إليها ضعف الشعور بالمسؤولية، وتكون النتيجة انسحاب المفكرين والمثقفين من ساحة المبادرات الإبداعية ، أو تدجين بعضهم، باستثناء حالات نادرة يدفع أبطالها حياتهم أو حريتهم أو سعادتهم ثمناً لحقهم في التفكير الحر وإيمانهم بحرية الاختيار.
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إنّ الديمقراطية هي مدرسة لتعلم قيم الحوار والنقاش والاختلاف في إطار التعايش السلمي لكافة مكوّنات المجتمع المدني، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون ضمانات وضوابط دستورية أو قانونية تنظم وتحمي الحريات والحقوق المدنية من خطر الاستبداد بما هو سلوك عدواني ينتهك الحريات والحقوق المدنية سواء جاء هذا السلوك من قبل السلطة وأجهزتها أو من داخل المجتمع المدني نفسه حيث يُعد سوء استخدام الحرية شكلاً من أشكال العدوان عليها وانتهاك قيمها، الأمر الذي يعلي من أهمية ودور سلطة القانون في تنظيم العمليات الديمقراطية في إطار دولة المؤسسات الخاضعة لسلطة القانون.
والثابت أنّ الديمقراطية لا تكون مدرسة للتعلم من دون أن تكون هيئات الدولة الدستورية والتشريعية والتنفيذية المنتخبة وهيئات المجتمع المدني كالأحزاب والمنظمات غير الحكومية والصحافة ووسائل الإعلام الحرة مدارس للتعلم أيضاً، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل سيادة الفردية والعشوائية والفوضى.. فالأحزاب الخاضعة لسلطة النخب الدينية العائلية والقبلية والشللية لا تصلح لأن تكون مدارس لتعلم قيم الحرية والديمقراطية، وبالقدر ذاته فإنّ الصحف الخاضعة للإدارة الدكاكينية والفردية، والعشوائية والمنفلتة من سلطة القانون والقيم المهنية، لا تصلح لأن تكون مدارس لتعليم الصحافيين العاملين فيها قيم الحوار والاختلاف والنقاش، وإكسابهم مهارات وخبرات مهنية خصوصاً عندما ترتبط فوضى إصدار الصحف بتسلل الأدعياء والدخلاء على الصحافة إلى جانب سوء استخدام الحرية من خلال توظيفها أداة للابتزاز والكذب والتلفيق والقذف والتكفير والتخوين والإساءة إلى الكرامة الشخصية للمواطنين.
ويزيد من خطورة هذه الظواهر التي تبرز عادة في مراحل الانتقال إلى الديمقراطية غياب الحقوق القانونية للصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الحزبية والخاصة التي تعتقد أنّها فوق القانون الذي ينظم حقوق وواجبات كافة هيئات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد والجماعات في إطار المواطنة المتساوية حيث يعمل الصحفيون والفنيون والموظفون بدون عقود عمل تحمي حقوقهم المهنية المشروعة، سواء في المؤسسات الصحفية الحزبية والخاصة او الصحف المملوكة لأشخاص أوالممولة من قبل أحزاب وشركات تجارية ..
بوسعنا القول إنّ الواقع السياسي في بلادنا لا يخلو من النجاحات والأزمات والتناقضات والمصاعب بما هي نتاج موضوعي للعملية الديمقراطية التي بدأت بإرادة وطنية مستقلة ومن دون إملاءات خارجية منذ قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م.. ولا يمكن تطوير النجاحات ومعالجة هذه الأزمات والتناقضات والمصاعب بدون إعادة اكتشاف الواقع من خلال دراسة وتحليل مصاعب التطور نحو الديمقراطية، وهو ما تعجز عن تحقيقه المراهنات الخاسرة على التدخلات الخارجية التي تعتمد دائماً مبدأ إسقاط القوالب الجاهزة ومعايير الديمقراطية الأميركية والدنماركية والأوروبية على أوضاع متخلفة في بلدان الديمقراطيات الناشئة التي تنتج موضوعياً أدواتها الخاصة على نحوٍ يجعلها في حال تصادم مع النمذجة والقولبة الوافدتين من خارج الواقع!
من نافل القول إنّ ثمة ميولاً عالمية للهيمنة برزت بعد انتهاء الحرب الباردة حيث ظهرت نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتجنون ونظرية نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما اللتان شكلتا إطاراً أيديولوجياً للميول التي ارتبطت بتحول الليبرالية إلى مذهب محافظ جديد بعد أن أدى غياب الشيوعية كخطر يهدد الديمقراطية الليبرالية إلى تضاؤل دور ومكانة يسار الوسط في الديمقراطية الليبرالية وتنامي دور وتأثير ما تسمى الليبرالية الجديدة بمذهبها المحافظ الجديد.
والحال أنّ التحول نحو الديمقراطية، وتوسيع المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أضحى مطلباً موضوعياً في العديد من بلدان العالم وخصوصاً البلدان المتخلفة والنامية التي انغلقت على نظم شمولية مرنة أو استبدادية مطلقة، وبقدر ما وجدت هذه البلدان والمجتمعات في انتهاء الحرب الباردة وما رافقها من استقطابات أيديولوجية وعسكرية واقتصادية وأمنية مناخاً جديداً لإطلاق ميكانيزمات النمو والتحديث التي تساعدها على استخدام الحريات السياسية والاقتصادية كحوافز للتنمية والتطور واللحاق بالحضارة الحديثة، بقدر ما اصطدمت بنزعات الهيمنة التي عبرت عنها الليبرالية الجديدة ومذهبها المحافظ الجديد من خلال سعي الأوليغارشيات المالية والعسكرية في الولايات المتحدة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي إلى ممارسة سياسة الهيمنة من خلال تصدير نماذج وقوالب جاهزة للديمقراطية على نحوٍ يعرقل تقدم هذه البلدان على طريق التطور الديمقراطي والاقتصادي الطبيعي.
وإذا كانت الوصفات الجاهزة التي اعتادت المؤسسات المالية والنقدية الدولية على تصديرها بواسطة الضغوط السياسية والاقتصادية والتجارية إلى البلدان المتخلفة والنامية في إطار الإستراتيجية المسماة إعادة التكيف والتثبيت الهيكلي والإصلاح الاقتصادي بهدف فرض معايير الإدارة الاقتصادية والاجتماعية المناهضة لوظائف الدولة في البلدان الصناعية المتقدمة على الدول النامية والفقيرة التي تضطلع الدولة فيها بوظائف حيوية لا يمكن الاستغناء عنها ، فإنّ ثمة وصفات جاهزة أخرى تصدرها مؤسسات سياسية دولية بهدف تسويق معايير الممارسة الديمقراطية في الدول المتقدمة ونقلها بصورة ميكانيكية إلى البلدان المتخلفة عبر بعثات تبشيرية في صيغة معاهد وبرامج للتدريب والتأهيل والتمويل من خلال الإستراتيجية المسماة ببرامج المساعدة على تنمية الديمقراطية، وفي مقدمتها برنامج نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الجديد الذي ترعاه وتموّله الإدارة الأمريكية والبرنامج الدنماركي الذي يموله الاتحاد الأوروبي!!.
لا نبالغ حين نقول إنّ الليبرالية الجديدة ومذهبها المحافظ الجديد وما تنطوي عليه من ميول للهيمنة أوجدت تناقضات في البلدان المتطورة نفسها خصوصاً بعد اكتساب نزعات الهيمنة الاقتصادية أبعاداً عسكرية تحت تأثير أحداث 11 سبتمبر 2001م، وتدشين الحرب العالمية على الإرهاب، حيث برزت معايير متعددة في ممارسة الديمقراطية، وقد تجسدت هذه التناقضات في تصادم مصالح دول الاتحاد الاوروبي التي سعت إلى التمسك بمعايير الحرية المطلقة مقابل الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين سعتا إلى إعلاء أولوية الأمن على الحرية.
والثابت ان برامج المساعدة التي تصدرها الولايات المتحدة وأوروبا لا تخلو من النزوع نحو الهيمنة والاستقطابات ، حيث واجهت مصاعب في مصر والعراق وسوريا وافغانستان وأوروبا الشرقية والفلبين وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية ، كما أنّها تواجه فشلاً مدمراً في الشرق الأوسط وأفريقيا، الأمر الذي أدى إلى إفلاس الإطار الأيديولوجي لليبرالية السياسية اليمينية ومذهبها المحافظ الجديد من خلال اعتراف فرنسيس فوكوياما في مقال نشره بعد ثلاث سنوات من احتلال العراق بأنّ الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقرر أين ومتى ستحصل الديمقراطية ولا تستطيع اهداء دول مدنية ومستقلة لغيرها من البلدان والأمم، خصوصاً عندما تستعين بجماعات تكفيرية وطائفية وإرهابية تحت شعارات ثورية وديمقراطية ، مؤكداً على أنّه لا يمكن للغرباء الأجانب ، أن يفرضوا الديمقراطية على الآخرين بما هي عملية طويلة المدى يجب أن تنتظر النضج التدريجي للشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وهو ما تحتاجه المجتمعات المتحولة ، لترشيد الممارسة الديمقراطية ومعالجة تناقضاتها ومصاعبها من خلال معايير واقعية لا معايير ونماذج جاهزة خارجية يتم تصديرها عبر صناعة الثورات المضادة و البرامج التدريبية والبعثات التبشيرية والإملاءات الخارجية !!. |