علي ناجي الرعوي -
مشكلة اليمنيين بصفة عامة انهم لا يدركون أخطاءهم إلا بعد أن تتفاقم مضاعفاتها وتستفحل أوجاعها في المفاصل الحساسة وأنهم إذا ما أرادوا معالجة هذه الأخطاء عالجوها بأخطاء أكبر فقد اندفعوا عام 1990م إلى دمج النظامين اللذين كانا يحكمان شطري وطنهم وإعلان اليمن الموحد على طريقة الهروب إلى الأمام دون أن يتفقوا على مشروع وطني لحماية هذه الفكرة النبيلة من مثالب التطبيق وخطايا الممارسة.. بل إن من صنعوا هذا المنجز الكبير الذي أشاع البهجة في اليمن والعالم العربي عموماً قد خانهم الاستعجال عن الالتفات إلى أن أي عمل وطني وإنساني ناجح يشترط تكاملاً سليماً بين المنطلق والغاية والأسلوب.
ولأن تكاملاً مثل هذا لم يحدث فقد تعرضت الوحدة اليمنية مابين 1990م و 2013 م للعديد من الهزات والتي كان مصدرها التعامل الخاطئ والإدارة الخاطئة وليس المنطلقات التي كانت سليمة في كل أبعادها بحصول الوحدة على إجماع كل اليمنيين في الشمال والجنوب.. ومثلما اندفع اليمنيون إلى الوحدة الاندماجية هاهم اليوم يهربون إلى الخلف.. وليس الخلف الذي وراء ظهر وحدة 1990م بل إلى الخلف البعيد الذى يحدثنا عن الهوية والهوية المضادة وتفتيت الدولة الوطنية ذاتها في مسلك يتصادم مع المعطيات الراهنة والقوانين المعاصرة والأحكام المتعارف عليها.. فقد ظهر هناك من يدعو إلى تصحيح الوضع الشاذ للوحدة.. والوضع الشاذ في نظر هولاء هو استمرار اليمن في دولة مركزية واحدة.
ولعله من المهم كثيراً في هذه المرحلة التوقف أمام التأييد الذي يحظى به خيار (الفيدرالية) داخل مؤتمر الحوار الوطني والذى يوحي بشكل صارخ ان الهدف من الحوار هو إسقاط الوحدة اليمنية وليس تحقيق غايات الإصلاح والتغيير ومعالجة الأخطاء والاعتوارات التي ولدت الإحباط واليأس لدى عامة الناس وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة عن دور الخارج وتأثيره في إقناع الأطراف اليمنية بهذا الخيار وعلى غرار ماحدث في الصومال عام 2004م حينما قامت الأطراف الدولية بطرح فكرة الفيدرالية على القوى الصومالية وتشجيعها على الأخذ بهذا التحول الذي وسع من تفكك هذا البلد وتشرذمه وتمزقه.
والملاحظ ان جميع القوى الوطنية في اليمن قد اقتنعت بموقف الخارج وصارت على استعداد للتنازل عن الدولة البسيطة واستبدالها بدولة اتحادية مركبة في سابقة تترك وراءها العديد من القنابل المؤقتة القابلة للانفجار في أية لحظة على اعتبار أن ما يبنى على خطأ يؤدي إلى نتائج خاطئة كما تقول القاعدة العلمية حيث إن تقسيم اليمن إلى أقاليم لن يحل القضية الجنوبية ولا أياً من المشاكل الأخرى بل إنه الذي سيضاعف من هذه المشكلات إن لم يدفع باليمن إلى حروب مفتوحة ذات طابع قبلي وعشائري ومناطقي ومذهبي لا يعلم إلا الله إلى أين ستقوده.
ومع تقديري لكل من يدافعون عن النظام الفيدرالي بحسن نية أو بسوء مقصد فإن خياراً كهذا لم يكن نتاج إرادة وطنية بل انه قد جاء إلينا مدفوعاً من الخارج وتحديداً عبر توصيات مجموعة الأزمات الدولية التي دعت اليمنيين في اكتوبر عام 2011م إلى الاتفاق على مرحلة انتقالية ترسم خارطة طريق للعلاقات بين مركز الدولة وأطرافها عبر إقامة دولة فيدرالية تتكون من عدة أقاليم بوصف هذا الخيار يشكل حلاً مرضياً لمن ينادون بالانفصال ومن يتمسكون بالوحدة الاندماجية وهو من وجهة نظرهم المخرج الآمن والوصفة السحرية التي ستضع اليمن على سكة الحداثة والعصرنة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
لقد تابعت عن كثب النقاش الذى يدور في مؤتمر الحوار الوطني حول موضوع الفيدرالية حيث وجدت في هذا الخصوص وبشكل عام نوعين من ردود الأفعال.. فالنوع الأول يعتقد أن الدعوة إلى الفيدرالية هي بالضرورة دعوة إلى التقسيم والانفصال والآخر يرى في الفيدرالية هي الحل لكل المنغصات والأوجاع التي يعاني منها المجتمع اليمني بما في ذلك معضلة القضية الجنوبية وهذا الطرف لابد وانه يناقش الفكرة من دون الاطلاع على حيثياتها أو فلسفتها كما انه الذي لم يحمل نفسه حتى عناء الوقوف على بعض نماذج الأنظمة الفيدرالية في العالم.. وكلنا نعرف ان من لم يمتلك الخلفية المناسبة لفكرة ما لا يمكنه أن يناقشها بشكل منطقي ومعقول.
ومع اننا لا نرغب أن نعيد من جديد مبررات المعارضين لمشروع الفيدرالية التى من أهمها ان الشعب اليمني يمتلك كافة متطلبات الوحدة الموجبة للنظام المركزي مثل وحدة الدين والعرق والتاريخ والتراث بالإضافة إلى عدم تناسب الطابع القبلي في اليمن مع فكرة الفيدرالية التي تتطلب إدارة حلبة التنافس على أسس حضارية وواعية وموضوعية وغيرها من العوامل التي تجعل من انتهاج الفيدرالية في اليمن ضرباً من استيراد المشكلات وإعادة إنتاجها بشكل سيئ وخطير.
وإذا ماتركنا جانباً بعض التحليلات فإن الغريب أن تصبح تجربة الفيدرالية في المانيا هي الواجهة التي نعتد بها فيما كان الأحرى بنا الاستفادة من إخفاقات التجارب العربية في هذا المجال حتى ننأى بأنفسنا عن تلك التجارب الفاشلة في الصومال والعراق والسودان لا أن نقع في فخاخها ونكرر نفس الخطأ خصوصاً وان المعضلة التي نعاني منها في اليمن ليست في المركزية الشديدة التي يمكن ان تعالج بالأخذ بنظام اللامركزية والحكم المحلي واسع الصلاحيات وإنما تكمن في الصراع على السلطة والتداخل بين الدولة والقبيلة وتعقيدات واقعنا الذي تنسجم في ظله النقائض وتتساكن فيه الأضداد.