محمد علي عناش -
منذ ثلاث سنوات ونصف، وأطراف الخارج وفي المقدمة أمريكا، يرقبون عن كثب ما يحدث في المنطقة العربية من أحداث وتطورات وصراعات، جميعها رفعت شعار الثورة والحرية والديمقراطية، وحملت اسم الربيع العربي، هذا الربيع الذي لم يحسم أمره بعد، كربيع وياسمين وحرية وديمقراطية، وإنما أتى بثمار هجينة وغريبة غير صالحة للتناول والاستهلاك ولا حتى للألفة لبشاعتها وروائحها الكريهة.
الربيع العربي صار حكاية طويلة ومملة لم تنته بعد، لكنها وفقاً لمبدأ السبب والنتيجة ومنطق أرسطو، لابد لهذه الحكاية من نهاية، غير أن السؤال الراهن والملح هو من سيكتب النهاية الطبيعية والموضوعية لحكاية ربيع التغيير، التي امتلأت بالألغاز والانحرافات والابتذالات السياسية والاخلاقية والدينية، إلاّ من شعاع بسيط يحتاج الى نوافذ وآفاق جديدة كي يتسع مداه وتتضح معالم الطريق الى المستقبل المنشود لا الى كابول أو مقديشو.
أم أن النهاية سوف تترك كي يكتبها المتشدقون وذوو العقول الصدئة، أو من تسللوا الى واقعنا وحاضرنا من انفاق التاريخ وغياهب الوعي وضحالة الضمير، كي يحددوا مصيراً مأساوياً للأمة بكاملها، ويرسموا طريق تخلفها والعودة بها القهقري باتجاه العصور الوسطى.
من المؤكد أن الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ليست طموحات وغيايات ترفية للإنسان ولا قيمة فائضة في اهتماماته وحاجياته المعيشية، وإنما مسائل ضرورية لا يمكن للإنسان أن يستغني أو يتنازل عنها، لكنها قد تتحول الى كذبة ووهم كبير عندما يرفعها وينادون بها، من يقذفون بالأطفال من على أسطح البنايات ومن يهتفون «قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» ومن يقتلون ويسحلون مخالفيهم في المذهب والعقيدة، ومن يلبسون أنفسهم ثوب القداسة والتنزيه، ويصادرون إرادة البشر وشرعية الأغلبية، كي يمنحوا أنفسهم عصمة وسلطة إلهية، ويمنحوا القلة شرعية مقدسة تبيح لهم الذود عنها بمختلف وسائل وأدوات الإرهاب والتكفير والتخريب.
كما أن الحرية والديمقراطية ستتحول الى قيمة فائضة عن حاجة الإنسان، عندما تكون ذريعة لزعزعة الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، ومدعاة للحروب والصراعات وخراب العمران، ستكون كذلك عندما تتحول الى مشانق ومقاصل وشعارات جوفاء ترفع على جثث وجماجم الأطفال والنساء والأبرياء الباحثين عن رغيف خبز وعلبة دواء.. ستكون قيمة فائضة عن الحاجة بكل المعايير، عندما تتحول الى معاول لإسقاط الدولة وتدمير كيانها واسقاط نظام عام المجتمع.
أمريكا باتت ترقب اليوم بفزع شديد، تحولات المشهد العربي، الذي أخذ يتمرد على طموحاتها وأدواتها في المنطقة، كي يصنع نظامه الديمقراطي ومشروعه الحضاري ودولته المدنية.
أمريكا لم تكن بعيدة عن مجريات أحداث الخريف العربي ولم تكن محايدة، بل لم تكن تهمها أصلاً لا حرية ولا ديمقراطية، فلطالما تلاعبت بالقرارات والمواقف وطالما ساهمت في قلب الموازين والحقائق واستثمار المتناقضات في إنتاج مشهد عبثي وفوضوي ومسارات لا مستقبلية في المنطقة، مليئة بالمفارقات والعدمية والخيبات المتوالية.. أمريكا تورطت في الثورة الليبية بطوائرها ومواقفها وسلاحها، كي تنتج كيانات عشائرية وجماعات دينية متشددة وإرهابية، لكنها اليوم تتبرأ من نزيف الدم المستمر في ليبيا، ومن التصفيات الجماعية بخلفيات قبلية ودينية ومناطقية، وتتبرأ من السلاح المنتشر بكثافة بين الليبيين، وهي من كانت قد استلمت ثمنه مبكراً.
وتورطت بصفاقة في سوريا، عندما دعمت بالمال والسلاح ثوار سوريا، وبالقرارات الدولية المؤيدة لثورة سورية ظلامية ومتخلفة، لا تؤمن بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية، وإنما تنقلها وتقتلع بها أضرحة ومقامات الأولياء، وتجتز بها الرؤوس، بل وتأكل بها أكباد وقلوب جثث ضحاياها، فالمنتج الحقيقي لثورة أمريكا في سوريا، هي جبهة النصرة وكتائب التوحيد وحركة طالبان السورية، لكنها اليوم تتبرأ مما يحدث في سوريا من إرهاب وجرائم ودمار، وتضع هذه الفصائل الثورية في قائمة المنظمات الإرهابية، وفي نفس الوقت مازالت تتكلم عن ثورة سورية وثوار سوريين، وكأنها تتكلم عن عالم آخر، لا عما يحصل واقعياً في سوريا..
أمريكا ظلت تطالب الأنظمة العربية القومية بتحقيق الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق المزيد من التقدم في الحريات المدنية والممارسة الديمقراطية ومعالجة البطالة، وعندما أصبحت هذه المطالب لا مفر منها خاصة مع بدء احتجاجات الشارع العربي الذي أخذ ينادي بالاصلاحات، ساهمت أمريكا وعدد من أدواتها في المنطقة -قطر وتركيا وجماعة الاخوان المسلمين وبعض المنظمات الحقوقية والاعلامية التي تم تدريبها على أيدي أكاديمية التغيير- في تحويل لحظة الاصلاحات العربية الى ثورات ربيعية بهذا الشكل لإنتاج واقع عربي تسوده الفوضى والصراعات، ويختل فيه التماسك الاجتماعي للأمة، وتنبعث من جديد الهوايات القاتلة، هذا الواقع الذي تحاول أمريكا أن تتبرأ منه وتتنصل مما يحدث، في نفس الوقت الذي تعمل فيه من تحت الطاولة في استمرار الواقع على ما هو عليه من فوضى واختلالات وانقسامات.
الحقيقة ان أمريكا ومن خلفها اسرائيل لا تدير فقط في المنطقة صراع مصالح، لكنها أيضاً تدير صراعاً حضارياً، صراع البقاء للأقوى وفقاً لمفهوم فوكوياما وهينتجتون، بمعنى أن تستهدف العقل العربي والمشروع القومي العربي باعتباره من يمثل المشروع الحضاري للأمة، لذا تقف في وجه التحولات في المشهد العربي الذي دُشن بثورة 30 يونيو المصرية التي باتت تقلق أمريكا من أن تقلب موازين طموحاتها وأهدافها في المنطقة.