الثلاثاء, 30-يوليو-2013
الميثاق نت -   محمد علي عناش -
< منذ سقوط وانهيار الحضارة الرومانية في القرن الرابع الميلادي، دخلت أوروبا في مرحلة عصور الانحطاط والتخلف والتي تسمى بالعصور الوسطى، وهي المرحلة التي استمرت حتى القرن الخامس عشر الميلادي، أي لما يقارب عشرة قرون، عاشت فيها أوروبا أسوأ مراحلها التاريخية انحطاطاً وتخلفاً حضارياً، وفي حروب وصراعات اجتماعية ومذهبية وعرقية، وفي اضطهاد واستبداد سياسي واجتماعي وديني نتيجة لهجمات قبائل الجرمان وشمال أوروبا على المناطق الحضرية في أوروبا، ونتيجة لسيطرة الكنيسة الكاثولوكية المتحالفة مع طبقة النبلاء الإقطاعية.
لذا فإن انتقال وتحول أوروبا من العصور الوسطى الى عصر النهضة لم يكن سهلاً أو عادياً، بل كان مليئاً بالصراعات والنضالات ومليئاً بأحكام القتل والإعدامات وفتاوى التكفير والزندقة وبالانتهاكات للحقوق والحريات والارهاب الفكري والقهر الاجتماعي، فكان من ضحايا هذه الحقبة الظلامية الكثير من العلماء والمفكرين والفلاسفة، الذين أكدوا على حق الانسان في التفكير الحر، وحقه في المواطنة المتساوية وفي اختيار حكامه، وناهضوا مختلف أشكال الوصاية المقدسة التي يمارسها رجال الدين على حياة المواطنين وتفكيرهم وإبداعهم، وأكبر مثال على ذلك عالم الفلك الشهير «جاليلو» الذي أثبت كروية الأرض فكُفّر واُتهم بالزندقة ثم أُعدم لأنه رفض أن ينكر ذلك.
كما أن الانتقال الى العصر الحديث الذي يؤرخ له ببداية القرن الخامس عشر لم يتم دفعة واحدة وإنما بالتدرج وعلى مستويات متعددة بدءاً بحركات النهضة والتنوير والاصلاح الديني والثورة على سلطة الكنيسة وسلطة النبلاء والثورة ضد الرق والإقطاع، هذه الثورات التي كانت تهدف الى تحرير الإنسانية من التبعية والوصاية والى تأكيد حريته وحقه في اختيار نمط حياته وتنظيم شؤون معيشته بمقتضى العقد الاجتماعي.
لم يكن الانتقال الى عصر النهضة محدداً في مجال معين بل أخذ طابع الثورة الشاملة وعلى جميع المستويات، ويمكن أن نقول إن هناك ثلاث محطات ثورية رئيسية هي التي أحدثت الثورة الشاملة في أوروبا وعلى مدار أربعة قرون، تهاوت خلالها سلطة الكنيسة وسلطة الاقطاع وانتقل خلال المجتمع الاوروبي الى عصر الأنوار والحرية والديمقراطية والتقدم العلمي والمعرفي.. هذه المحطات هي:
1- حركة الإصلاح الديني: وهي حركة بروتستانتية تزعمها رجل دين الماني يدعى «مارتن لوثر» دعت الحركة الى نبذ التطرف والانغلاق الديني ورفض محاكم التفتيش والحجر على العقول التي تمارسها الكنيسة الكاثولوكية، ومحاكمة الناس على أفكارهم وإبداعاتهم واتهامهم بالكفر والزندقة ونصب المشانق لكل من يرفض أن يتراجع عن أفكاره، كما دعت الحركة الى الثورة على سلطة الإقطاع ورجال الدين، التي مارست الاستبداد والقمع والإذلال للرعايا، وشن الحروب المقدسة على المناطق والأقاليم المناوئة لسلطتهم التي يعتقدون أنها سلطة معصومة ومنزهة لأنها مُنحت لهم بتفويض من السماء.
2- الثورة العلمية والفنية والفلسفية: بدأت هذه الثورة من القرن الخامس عشر وامتدت الى القرن الثامن عشر وخلال هذه الفترة شهدت أوروبا نهضة علمية كبيرة حيث ظهرت الكثير من الاختراعات والاكتشافات العلمية في الفيزياء والكيمياء والطب وعلم الفلك وغيرها من العلوم كسرت- بما أوردته وأثبتته من قوانين وحقائق علمية وعقلية- احتكار الحقيقة المطلقة التي يدعيها رجال الكنيسة والقائمة على الغيبيات والمأثورات الدينية والأخلاقية المكنية بما يخدم سلطتهم ويبرر مظالمهم، وهدفت أيضاً هذه الثورة العلمية الى تمكين الانسان من السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لخدمة الناس المعيشية، كما شهدت أوروبا نهضة فنية ومعرفية كبيرة عبرت عن حرية الإنسان وتطلعاته وخلاصه، وعززت لديه النزعة الانسانية وقيم الخير والحق والجمال والعدالة والمساواة والعلاقة المتكافئة بين الحاكم والمحكوم بمقتضى العقد الاجتماعي، كل هذه الثورات التي صارت في مجملها ثورة اجتماعية، ألهمت الإنسان الأوروبي أن يثور على واقعه وأن يرفض الوصاية على حياته وتفكيره وأن ينظر الى فكرة الدولة باعتبارها أرقى مؤسسة ابتكرها الانسان وأعلى قيمة في مراتب القيم.
3- الثورة الصناعية الكبرى:
وهي الحدث الاوروبي الأبرز الذي كان له الأثر البالغ في إنجاز التحولات الأوروبية المتسارعة وفي تهاوي سلطة الإقطاع، وقد هُيئ لهذه الثورة الطبقة المتوسطة من الثوار الأحرار، وكذلك ظهور طبقة قوية من التجار تعارضت مصالحهم مع سلطة النبلاء ورجال الكنيسة، لذا ساهمت الثورة الصناعية في كسر احتكار الإقطاع الزراعي والصناعي، وفي نشوء فلسفة اقتصادية جديدة قائمة على التخصص وتقسيم العمل والإنتاج، وفي إعادة توزيع الدخل القومي وفوائد الإنتاج على شريحة أوسع من المجتمع بدلاً من الاستحواذ عليه من قبل القلة من المستغلين، كما ساهمت في نشوء المدن الصناعية ونشوء المعاهد ونشوء النقابات والجمعيات التعاونية، وظهور طبقة جديدة من الأحرار هم «طبقة العمال».
حال الأمة العربية اليوم يشبه الى حد ما حال أوروبا قبل أربعمائة سنة، لكن ليس معنى هذا أنه يجب أن ننتظر أربعمائة سنة كي ننتقل الى العصر الحديث، أو أنه يجب أن نمر بنفس المراحل التي مرت بها أوروبا كي ننتقل الى عصر العلم والمعرفة والتطور التكنولوجي والاقتصادي والتخصص وتقسيم العمل والتداول السلمي للسلطة، فالأمة العربية قد قطعت شوطاً كبيراً من التطور والتحول في كثير من المجالات، لكنها مازالت أمة متأخرة ومتخلفة أمام تقدم وتطور الغرب الأوروبي، ومايزال السؤال المصيري الذي طُرح بداية القرن العشرين قائماً دونما إجابة منطقية وموضوعية حتى الآن، لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون؟
وماتزال الهوة المعرفية والعلمية والمؤسسية بيننا وبين الغرب المتقدم كبيرة وعميقة جداً، وتتسع في كل مرحلة صعبة نمر بها وخاصة في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة بعد أحداث ما يسمى بثورات الربيع العربي التي أحدثت هزات اجتماعية عنيفة في البنيان الاجتماعي والاقتصادي العربي، وبعثت ثقافة التطرف والارهاب الديني وأنعشت الصراعات على الهوية المذهبية والطائفية والعرقية.
أسباب تأخرنا كثيرة وعوامل انهيارنا وتلاشينا كثيرة ايضاً، وبالتأكيد ليس من ضمنها ندرة الموارد الاقتصادية، فلدى الأمة العربية من الموارد والامكانات المادية ما يجعلها في مصاف الدول المتقدمة والحضارية، فلديها النفط والمعادن بكميات مهولة، ولديها الأرض الزراعية الشاسعة والخصبة ولديها المواد الخام لإنجاز ثورة صناعية كبرى، ومع ذلك هي أمة متخلفة ومستهلكة وقرارها ليس بيدها.
ليس غياب الحرية والديمقراطية هو وحده سبب تأخرنا وتخلفنا، وسبب عدم استيعابنا واستغلالنا الأمثل لهذه الإمكانات الهائلة، وإنما غياب العقل العربي الحضاري وغياب الدولة العربية الوطنية هو سبب تأخرنا وسبب عدم قدرتنا على استيعاب هذه الموارد الهائلة وتوظيفها التوظيف الأمثل والسليم، لأن مسار الوعي العربي منذ قرون لا يتحرك بشكل مستقيم باتجاه المستقبل، وإنما وعي جامد مايزال مشدوداً الى الخلف والى الماضي، الماضي الذي نهرب اليه كي نتحاشى ونتناسى مرارة ضعفنا وهزالنا المعاصر، ولكي نخفف علينا وطأة هزائمنا الحضارية المعاصرة، وعدم قدرتنا على تفسير أسباب خروجنا من العصر ومن دائرة الفعل الحضاري، فالعودة الى الماضي هو ملاذ الخائبين والفاشلين والمزورين بالمفهوم الواسع، وعلى رأسهم مشائخ الدين «الوهابية والاخوان المسلمون» و«عربان الخليج وأمراء النفط» هم من يشدون الأمة الى الماضي وأوهام الماضي وأمجاد الماضي، لأنهم لا شيء في الحاضر، انظر الى قنواتهم ومنشوراتهم ومطبوعاتهم وإلى منابرهم، كيف تحذر الأمة وتعطب وعي أبنائها وكيف تنشر ثقافة التطرف والارهاب وثقافة التحريض والصراع الطائفي والمذهبي، وانظر ماذا فعلوا ويفعلون في العراق وسوريا واليمن ولبنان؟ وماذا يفعلون اليوم في مصر؟
بحيرات النفط العربي لم تنتج رائد فضاء واحد، ولم تصنع طائرة واحدة أو تقيم مراكز أبحاث علمية ولا مدناً صناعية ولم تسد رمقنا رغم المساحات الزراعية الشاسعة والخصبة، بحيرات النفط العربي لا تنتج سوى مئات الآلاف من الخطباء والفقهاء وحفاظ الأحاديث، ولا تنتج سوى صنفين من البشر الاول يعيش في حانات وبارات القمار في مختلف دول العالم، والثاني في كهوف الجبال وبطون الأودية يمارسون ارتكاب الجريمة باسم الله وباسم الاسلام والدفاع عن العقيدة.
بحيرات النفط العربي لا تدعم التكامل العربي ولا تعزز وحدة الأمة وتماسكها وسلمها الاجتماعي، بل تستورد أحزمة ناسفة وتستورد المجاهدين ذوي اللحى الطويلة من كل مكان، وتعيد تصديرهم الى سوريا واليمن ومصر والعراق كي يرتكبوا الجريمة المقدسة ويثيروا النعرات الطائفية والمذهبية ويدمروا منجزات نصف قرن من الإنجازات القومية.. هذه هي ثقافة «البترو إسلام» وصناعتها الحضارية الراهنة في واقعنا العربي.
إذاً غياب العقل العربي الحضاري هو سبب تخلفنا وتأخرنا وثقافة «البترو إسلام» التي تعمم التطرف والخنوع وتأسر العقل وتثير الصراعات والتناحرات الداخلية.. يؤكد أن الأمة أصبحت في أمس الحاجة الى حركة إصلاح ديني تعيد للعقل اعتباره وتحرره من أسر سلطة رجال الدين.. فهل تكون ثورة 30 يونيو المصرية هي بوابة العبور نحو التجاوز ونحو المستقبل المنشود للأمة؟
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:46 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-33666.htm