< محمدعلي عناش -
< اليمن صارت عنواناً للأزمات التي لا تنتهي .. والمواطن اليمني البسيط هو دائماً وقود هذه الأزمات وهو من يدفع ثمن الصراعات والطموحات المتجردة من النبل والأخلاق، وثمن السخافات الكثيرة التي تتدثر حيناً بالسياسة وحيناً آخر بالدين، وتغدو أكثر سخفاً عندما تلبس رداء الثورة وترفع شعارات الدولة المدنية والعدل والمساواة والنظام والقانون بهذا الشكل الذي تمارسه حكومة الوفاق الوطني.
لا ألوم رئيس الحكومة باسندوة لوحده، فهو نسخة لكوارثنا التاريخية ولحقيقة البؤس اليمني، وصورة متكررة لمفاعيل إنتاج الأزمات وتمييع العقد الاجتماعي، وإحداث التوقف التاريخي لحركة التطور في اليمن، لكننا نلوم من اعتقدنا أنهم من بقايا الحركة الوطنية اليمنية، لأنهم هم من ضيعوا الفرصة التاريخية في إحداث التغيير، وهم من ميعوا هذه اللحظة واستنسخوا أسوأ ما في تجاربنا التاريخية في الحكم، وهم من وضعوا هؤلاء في المكان غير المناسب مكان صنع القرار وتحويلهم الى سلطة، لكنها كانت سلطة فيد وفساد وأزمة، وسلطة تدمير لهذا الوطن.
أزماتنا مستمرة لاتكاد تنتهي أو تتوقف منذ مئات السنين، فصول التاريخ تحكي هذه المأساة وهذه المتوالية التاريخية من الأزمات، والمواطن اليمني هو دائماً من يدفع الكلفة الباهظة، نتيجة لأن اليمنيين لم يقيموا دولاً وإنما أقاموا سلطات كانت تحقق نوعاً من الأمن والاستقرار، غير أن الكلفة هذه الفترة كبيرة جداً، رغم أن هذه الفترة حملت عناوين كبيرة كالثورة والوفاق الوطني والمبادرة الخليجية، إلا أنها لم تحاول أن تقيم دولة وفي نفس الوقت لم تقم سلطة، وإنما أقامت مراكز قوى وتجار حروب ومشاريع صغيرة، وقوى سياسية وثقافية انتهازية، مهمتها تزييف الواقع وقلب الحقائق وتجميل المشوه وحرف مسار التغيير السليم.
في هذه الفترة التي تمخضت عما يسمى بالثورة، صارت الكهرباء تضرب وتدمر بشكل يومي من قبل قبيلة أو جماعة معروفة بالاسم والصفة، دون أن تحرك ساكناً من نعتقد أنها دولة أو حكومة.. استهداف الكهرباء بهذا الشكل ليس حدثاً عادياً وإنما عمل سياسي منظم مرتبط بأجواء الفوضى ومفاعيل الأزمة، الا أنه يعكس مدى الانحطاط والسقوط السياسي الذي وصلنا اليه في اليمن، ومدى فقدان احترام الذات والشعور بالمسؤولية الوطنية لدى وزير الكهرباء صالح سميع، الذي لم يقدم استقالته من منصبه حتى الآن، كما يفعل من يحترمون أنفسهم ويقدرون مسؤوليتهم رغم فداحة ما تعرضت له الكهرباء في عهده.. من المؤكد أن قوة اللامبالاة لديه عالية، لذا لا ينتابه أدنى شعور بالمسؤولية ولا يشعر بالخجل، لذا يتمادى في الأمر، ويحول ضرب الكهرباء الى صفقات واتفاقيات وعمولات كلها تتكلم بلغة المليارات المهدورة وتحكي عن حجم فساد الرجل الذي هو جزء أصيل من فساد المرحلة الثورية.
في هذه المرحلة صار دم اليمنيين ومايزال مراقاً ورخيصاً في مذبح الغدر والخيانة وضآلة الضمير، وماتزال أشلاؤه تتناثر بشكل مفجع ومقزز على ولائم السياسة والدين وتجارهما، وممتهني حرفية التضليل ومروجي هيروين الغباء والغيبوية والتفكير الأعوج في المجتمع.. تستمر الجريمة كما حدث بالأمس في شبوة بحق 56 شهيداً من رجال الجيش والأمن، وكالعادة لا نشعر بالحسرة والخجل ولا نحاول أن نبحث في الأسباب والعوامل، كي نتلمس الحلول والمعالجات ونقف على الحقيقة وراء هذا القتل بالجملة، وإنما نمر على الجريمة مرور الكرام ونطويها ببيان صغير مبهم وجاحد.. كي تستمر ، ولكي نصحو في الغد على دوي جريمة أخرى أكثر بشاعة، وغير أن الجاني ليس مجهول الهوية.. تستمر الأزمات والفجائع وتتوالد وتتناسخ كل يوم، وينحدر الوضع الى هذا المستوى من السوء والبشاعة، والبعض مايزالون مشغولين برفع الحصانة والعزل السياسي، ومشغولين بالتمديد وتقرير المصير، يبحثون عن أشباح ومعارك وبطولات عدمية من داخل فكرة التغيير التي انزاحت كثيراً عن الواقع والحقيقة.
ما الذي حصل فجأة هنا وهناك؟ ولماذا صارت الصورة بهذا الشكل من الخراب والدمار والفوضى؟ لماذا صار المشهد العربي مخضباً بالدم ومزركشاً بالأشلاء؟ لماذا لم نعد نصحو في الصباح كي نستفتح يومنا الجديد على صوت فيروز وأنغام الرحباني التي تمنحنا مزيداً من التفاؤل والأمل؟ وإنما صرنا نستفتح أيامنا على دوي الانفجارات وأزيز الرصاص ورائحة البارود، وبالأخبار المفجعة عن جز الرؤوس والقتل بالجملة عبر شخص أو شاب مفخخ.
الكلفة العربية صارت باهظة جداً طالت كل شيء، البشر والمكان والجمال والتفكير والحكمة.
المشهد العربي متشابه والجاني واحد، يمتلك الكثير من أدوات التأزيم والفوضى والعنف الممنهج، ولديه القدرة على الظهور والتخفي بأي شكل وفي أي وقت، والقدرة على التغلغل والتأثير داخل الحركات الليبرالية واليسارية وتجنيدها لأداء دور البلياتشو في سيناريو العدم.. الذي حصل ويحصل هو إفراز «حركة الاخوان المسلمين» التي تفكر وتتحرك كتنظيم دولي، هو الجاني، وهو الذي يمتلك هذه القدرات، حتى في تحويل الآخرين الى مهرجين وبلياتشوهات لاتفكر بدولة المجتمع وإنما تفكر بشيء آخر نجهله، وتظل تنتظر لجودوا الذي يأتي وقد لايأتي.. المصريون هذه المرة أدركوا الحقيقة وفكروا بدولة المجتمع فتمردوا على دولة الاخوان، وصمموا أن يكونوا صانعي ثورة حقيقية، لا أن يظلوا بلياتشوهات في مسرح الاخوان العدمي، فعملوها في يوم 30 يونيو العظيم .. نحن بحاجة الى التفكير بدولة المجتمع وأن نتمرد على دولة التنظيم.