عبدالرحمن مراد -
< يرى أرباب الفلسفة أن هناك ثلاث حالات تمر بها الحضارات البشرية ولكل حالة قانونها الذي تفرضه الظروف العامة التي تمر بها تلك الحالات.. ويرى ابن خلدون في مقدمته أن الحالة التشريعية الانتقالية هي التي تعقب في تقديره الحالة اللاهوتية والعسكرية وتسبق الحالة الوضعية والصناعية التي يتغلب فيها تقدم المجتمع بفضل تقدم المعرفة واتساع دائرة العلوم.. ومقاربة ابن خلدون هي الأقرب في التعبير عن سياق نمو المجتمعات القبلية العربية التي تشهد انتقالاً متسارعاً الى الحالة التشريعية العقلانية بالتوازي مع نمو وتطور قيم الانتاج وعلائقه وأدواته وتوسع التجارة والأسواق.
والمتأمل في اللحظة السياسية التي تمر بالوطن العربي وبالتحديد في مصر يدرك أن جدلية الحالة الانتقالية التشريعية أصبحت تفرض ضروراتها الموضوعية على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي فالتلازم بين الأبعاد المختلفة تلازم ضرورة واحتياج وتكامل ولكل بعد تأثيراته المباشرة وغير المباشرة، وإدراك العلائق وتأثيراتها وتلازماتها يعمل على إحداث التوازن النفسي والاجتماعي للأفراد ويساهم بقدر وافر في الحالة الانتقالية التشريعية ويكفل قدراً من التناغم مع تطلعات الأفراد والجماعات ويحقق القدر المناسب من الشعور بالقيمة والفاعلية، ولذلك فالشارع المصري حين خرج في (30 يونيو 2013م) لم يكن خروجه اعتباطياً ولكنه كان خروجاً فرضته حالة الانتقال السريعة المتوافقة مع إيقاع المرحلة بعد أن مرّ بالمرحلتين العسكرية واللاهوتية وهو الآن يحث الخطى الى الحالة الوضعية والصناعية، حالة الانعتاق من رق الحاجة مع اقتصاد السوق وبحيث تتوافر في تفاعلاته طاقة تعمل على إنتاج نظام اقتصادي اجتماعي متوازن يكفل وجود الجميع ويعترف بالكل ولا يحاول إقصاء أحد.
وقد يدرك المتابع للحالة المصرية بروز مثل ذلك الخطاب وبشكل لايقبل التأويل على ألسنة قادة الفعاليات السياسية التي رأت من خلال تظاهرها في الساحات والميادين حاجتها في الانتقال من التشريع الديني الى التشريع العقلاني بحكم حالات الانتقال والتطور التي تمر بها المجتمعات العربية، فالتشريع الديني تفاعل مع الاقتصاد البسيط أي اقتصاد ما قبل الصناعي وقد لمسنا ذلك في خطاب الرئيس المصري المعزول محمد مرسي حين عدد محاسن نظامه وإنجازاته خلال عام وهو الأمر الذي بعث الغضب في كوامن الذات المصرية التي تبحث عن وجودها في تراكمات اللحظة الحضارية الجديدة لحظة الانتقال الى الحالات المركبة والتعايش والاعتراف بوجود الآخر وبحقه في الوجود والتفاعل والمشاركة، وكانت حاجة المجتمع وحاجة الجماهير أكبر من تشريعات فقهاء القرنين الثالث والرابع الهجريين وما تلاهما بحكم حالات التدرج والانتقال التي تمر بها المجتمعات، فكل مرحلة تفرض ضروراتها وتشريعاتها، وخروج الجماهير المصرية على الدكتور مرسي والاخوان في مصر هو تعبير عن حاجتها في الانتقال من التشريع الديني الى التشريع العقلاني بدليل أن الدستور المصري الجديد الذي لم يمضِ عليه أكثر من عام يخضع الآن للتعديل وهو وفق البيان العسكري في حكم المعطل.. وقديماً قال ابن خلدون في مقدمته: «اعلم أنه تقدم لنا في غير موضع ان الاجتماع البشري ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لابد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون اليه، وحكمه فيهم تارة يكون مستنداً الى شرع منزَّل، وتارة الى سياسة عقلية يوجب انقيادهم اليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم، فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة، لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط»، فالعمران البشري- عند ابن خلدون - لابد له من سياسة ينتظم بها أمره، وتلك السياسة لم يخض فيها العقل التشريعي الاسلامي «العقل الفقهي» التأريخي، ولذلك نجد اغتراب الحركات السياسية الدينية عن واقعها المعاصر لتغليبها النقلي/ النصي على العقلي/ التجريبي في منهجها التعاملي والتفاعلي مع مظاهر العصر.
ما يجب أن ندركه إدراكاً واعياً وكلياً أن حركة الشارع العربي أحدثت قدراً كبيراً من الانزياح في المفاهيم وفي الوعي لذلك فأطر الاندماج الاجتماعي التقليدية التي سوّغت الاستبداد لم تعد قائمة - بدليل النموذج المصري- وأصبحت الجماهير المنتفضة أكثر تكيفاً مع أطر وأشكال الاندماج الاجتماعي التعددي الأكثر قبولاً للآخر والأكثر ديمقراطية - يمكن ملاحظة خطاب حركة تمرد وخطاب رموز ثورة 30 يونيو بمصر.. والتعدد طبيعته يعمل على تفكيك المنظومة الثقافية المألوفة والعامة السائدة في المجتمعات التقليدية أيام الاستبداد حتى يتمكن من شرعنة العودة الى أطر الانتماء الطائفي والعرقي والسلالي والجهوي، ولعلنا نلاحظ حركة المجتمع في الدول التي حدثت فيها رياح تغيير الربيع العربي إذ ثمة صوت هنا أو هناك يحمل سمات النزعات الانفصالية أو ينادي بها كما هو في اليمن، وفي ليبيا، وفي تونس، بل سمعنا بذلك حتى في مصر وهي من الأوطان التي يدرك العالم من حولها أنها الأكثر تماسكاً في بنيتها الوطنية وفي هويتها الحضارية، ومثل تلك الظواهر تفضي بنا الى القول إن ثمة مستجدات قد حدثت - وهي مستجدات متواترة - ولا يمكن القفز على حقائقها الموضوعية في الواقع - ونحن نلحظ اغتراب حركة الاخوان عن هذا الواقع كيف أوصلها الى مربعات البداية وأشعل نيران الثورة ضدها - ومثل تلك الحقائق الموضوعية لا يمكن التعامل معها إلا في إطار دولة ديمقراطية مستقرة تتأسس على مبدأ الثقة في القضاء النزيه والعادل واحترام المصلحة الوطنية المرسلة، بعيداً عن حالة الاغتراب.
وعلينا أن ندرك أن بناء الدولة وبناء المؤسسات، وتحقيق دولة القانون، هو الضمان الأكيد لمنع الولاءات للانتماءات الأضيق والأحادية والعزلة، ولن يتحقق ذلك الا من خلال البنية التشريعية التي تحقق الانتقال والاندماج لكل الطيف المتعدد والمتمثلة في الدستور وإدارة الحكم والتمثيل النيابي والمحلي، وتنظيم المؤسسات المدنية، وتعزيز الاهتمام بالبنية الثقافية.. وفي ظني أن مصر وصلت الى هذه القناعة بعد عامين من التيه.. ونأمل من فريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار أن يأخذ العبرة من تجارب الآخرين.