خالد صالح مخارش - < العيش في ظل دولة مدنية ديمقراطية يسودها العدل والمساواة وتحكمها الأنظمة والقوانين والمؤسسات يبقى منتهى آمالنا وأحلامنا المشروعة كيمنيين نظراً لإدراكنا أن قيام هذه الدولة المدنية الحديثة وما يترتب على ذلك من احترام للحقوق والحريات وتكافؤ الفرص والمواطنة المتساوية سيكون كفيلاً بإخراج شعبنا من مسلسل الأزمات المتوالية سواءً أكانت هذه الأزمات على المستوى السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي، بيد أن قيام هذه الدولة المدنية يواجه الكثير والكثير من العوائق التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق هذا الانجاز الذي طالما انتظره اليمنيون باعتبار أنه يمثل لهم جسر العبور الآمن نحو المستقبل المنشود..
من أبرز هذه العوائق أو الصعاب التي تحول دون تحقيق هذا الحلم اليمني المشروع هو غياب «ثقافة المدنية» بما تزخر به هذه الثقافة من قيم القبول بالتنوع والتحديث وإعلاء قيم التعايش والتسامح والقبول بالآخر المختلف.. وما تتضمنه هذه الثقافة من تحقيق لمبدأ المواطنة المتساوية بغض النظر عن الجنس واللون والمذهب والانتماء القبلي وغيره، فتكون المواطنة قائمة على أساس احترام الدستور والقوانين التي تحدد الحقوق والمسؤوليات لكل مواطن.. وبذلك لا تكون هذه الحقوق والالتزامات هبة أو منحة من أحد، ولا تكون مجالاً للزيادة أو الانتقاص إلا بحكم القانون الذي يسري على الجميع دون استثناء.
يتزامن غياب هذه «الثقافة المدنية» مع حضور وزحف كبير لثقافة أخرى مغايرة تتجلى في تلك النزعات التقليدية والقيم المنغلقة والجامدة الآتية من أدغال الكهوف وأطلال القرى محملة بأشواق البطولات الفارغة وحنين الأساطير الخرافية.
هذه «العقلية البدائية» نراها اليوم وقد تقمصتها الكثير من الجماعات والأفراد الذين باتوا يساهمون بشكل أو بآخر في قيادة وتوجيه الرأي العام وصياغة القرار الوطني.
صحيح أننا قد نجد هؤلاء يستخدمون أحدث إنتاجات التكنولوجيا والتقنيات الحديثة ويزينون حياتهم بمظاهر العصر، لكننا نجدهم بالمقابل على مستوى التفكير والقيم الشخصية غارقين في منظومة من العادات والقيم والأعراف القروية التي يسودها الفكر الأحادي المطلق الذي لا يؤمن بالتنوع والتعايش، ولهذا لا يكون مستغرباً أن يلوح أحد أقطاب هذه القوى التقليدية بالتهديد بأنه «سيبيد الهاشميين في اليمن»، فهؤلاء هم حصيلة ونتاج هذه العقلية القروية التي لا تطيق سواها ولا تؤمن إلا بوجودها.. في ظل شيوع هذه العقلية برزت نبرة القوى الرجعية الراغبة في فرض رؤيتها على مجتمعنا مدعية أنها الحق وأن رؤاها مستمدة من الدين مما حدا بهذه القوى إلى إلقاء تهم التخوين والتكفير والإقصاء من الانتماء الوطني لكل من خالفهم وآثر السير على هدى الحق بدلاً من اتباع هوى أسيادهم وكبرائهم الذين أضلوهم السبيل.
فالعقلية الأحادية هي في الأساس عقلية قروية وبدائية لا صلة لها بالدين، فالمعروف عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- أنه حين هاجر إلى يثرب أسس فيها دولة مدنية تقوم على مبدأ التعايش واحترام حق الاختلاف حتى في العقيدة الدينية..
فتعايش مع اليهود في مدينة واحدة ولم يخرجهم منها رفضاً لديانتهم وإنما بعد أن خرجوا على مبادئ المواطنة ونكثوا العهود والمواثيق من خلال تحالفهم ودعمهم للعدو الخارجي في قتال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- والمسلمين في المدينة.
بل وإنه صلى الله عليه وآله وسلم- لم يقاتل عبدالله بن أبي بن سلول وصلّى عليه حين مات وهو الذي نزلت فيه الآية الكريمة على لسانه حين قال أثناء عودة المسلمين من إحدى الغزوات «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل».
هذه هي القيم النابعة من روح المدنية التي أسسها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- والتي بناها على احترام مبدأ التعايش وتكريس ثقافة التسامح والقبول بالآخر المختلف.
من هنا ندرك ضرورة السعي لبث وإحياء الثقافة المدنية في كل المنابر الاعلامية ومراكز اتخاذ القرار، لتكون عامل تعزيز في طريق بناء الدولة المدنية الحديثة، ولنساهم ولو بجزء يسير في انحسار تلك الدعوات الرامية الى إعادة هذا البلد الحضاري الى التبعية للعقل البدوي الآتي من سراب الصحراء القاحلة.
|