عبدالرحمن مراد -
< ثمة حملة إعلامية في سماء المشهد السياسي تستهدف الرئيس السابق، والرموز التي تحملها والدلالات والإشارات.. كل ذلك يفضي الى حقل دلالي واحد وهو تأله الأزمة وامتدادها، بل واتساعها في فراغ من الانسان وفكر الانسان كما يذهب الى مثل ذلك الرائي العظيم البردوني.
يظن المطبخ الاعلامي الذي يصدر المعلومات القائلة بامتلاك الرئيس اليمني السابق الزعيم علي عبدالله صالح للسلاح الكيماوي أنه بذلك قد يجعل الغرب يتفاعل مع القضية ويفرض عقوبات تحدث تعويضاً نفسياً ومعادلاً موضوعياً لشعور قاتل لبعض القوى السياسية الفاعلة في الساحة الوطنية بالهزيمة السياسية التي يتكبدها على المستويات المتعددة الوطنية والاقليمية والعالمية، بدليل أن خيال ذلك المطبخ قد ذهب به مذاهب شتى إذ أنه قبل موضوع الكيماوي كان قد ارسل إشارات دالة على حالة نفسية غير سوية عبر خبر تسرّب عن طريق مراسل »الجزيرة« في اليمن مضمونه تدارس الرئاسة لموضوع قرار يضع الرئيس السابق تحت الإقامة الجبرية.. مثل ذلك التأله الذي يذهب في فراغ من الانسان وفكر الإنسان دال على إفلاس تلك القوى التي تعمل جاهدة على إرسال إشاراتها ورموزها في فراغ مخجل من القيم الأساسية والوطنية، فالمتلقي العادي لتلك الرموز والإشارات لا يفهم منها إلا إنها استجابة لضغوط قوى استخباراتية الهدف منها التمدد والإتساع في تواجد المارينز الأمريكي في نواحي متفرقة من العاصمة صنعاء بعد أن ظل تواجدهم محصوراً في »شيراتون« ولا يكاد يتجاوزه.. وبمثل هذا الفهم تكون تلك القوى قد سقطت وجدانياً وقيمياً.. وصورتها في أذهان الجماهير لا تتجاوز العلقمية المقيتة- أي صورة العميل الذي يظن في نفسه أنه يراهن على مستقبله في حين أنه يعمل جاهداً على تقديم الوطن بأجمعه الى النطع.
هؤلاء المتشدقون والمتفيهقون بالثورة وفي فراغ من الثورة والقيم الثورية والنقاء الثوري ألهاهم الكرسي عن المحكومين فلم يكن منهم إلا شيوع الفساد وبيع الضمائر والتباس المفهوم حتى أضحت الوطنية تهمةً وعرقلةً لمسار التسوية السياسية والنزاهة بلاهة، والاخلاص خيالاً أو خرافة، وعمدوا الى المداراة والمجاراة والبذل للوصوليين، الى درجة أنه من أراد الاستغلال مارسه بلا سؤال، لهذا تساقط الكثير من المنتفعين في المرحلة الانتقالية ولم يبقَ إلا من حمتهم التكتيكات الحزبية من السقوط، وكأننا بهم يدفعون بالرئيس الانتقالي الى التمديد ليس حباً فيه بل خوفاً من تبدّل الاحوال وشعوراً بفقدان القيمة الفعلية لوجودهم السياسي، فالتغيّر طالهم، ووجودهم في السلطة عمل على تعرية حقيقتهم، وكشف الغطاء على محاسن المؤتمر والرئيس السابق.
ما يحدث الآن في الشارع اليمني وفي الوجدان الجماهيري دالّ على تلك الحقائق الجوهرية، فالثورة التي ارتكزت مضامين شعاراتها على التنابز بالألقاب والتشكيك في الأنساب نشهد الآن حركة شعبية مضادة لها تحط من نسب وقدر فئة اجتماعية بعينها بلغ بها الغرور مبلغاً تجاوزت به حدود الحريات وهي تجني ثمرة ما زرعت، وتشهد السقوط والتداعي في مداميك مجدها، ذلك أن توزيع نظام القيم، كما يذهب الى ذلك المفكرون - يتصل بالسلطة بأشكالها المتعددة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية، وسوء ممارسة السلطة يطوّر دائماً قيماً سلبية لا نعدم أن نجد من يسعى الى انتهاكها.. إنطلاقاً من رؤية ما، أو منظور معين، وهنا تتقاطع وجهات نظر الفاعلين في إطار الجماعة أو الحزب.. الأجنحة المتصارعة - هذا التقاطع هو الذي يشكل باستقطاباته النسيج الدلالي، الأمر الذي يجعل من قضية الالتباس قضية احتيال في مستوى يمكن التفكير فيه، فحقل الاحتمالات الدلالية المتشعب عنها يفصح عن قصور وعجز في التفسير والتأويل وتحديد المآلات.. وهنا ينشأ -كما يقول المفكرون- نوع من التضاد الذي يتعمق كلما استمر سوء الفهم، فالذين يمارسون ازدواجاً ظاهراً في شلال الايحاءات هم أكثر حرصاً على إرسال رسائل مشبعة بالرموز والقرائن (العزل السياسي - رفع الحصانة - المحاكمة- الاقامة الجبرية - الاسلحة الكيماوية وامتلاكها) يهدفون من خلالها الى تحقيق غايات ومقاصد في نفوسهم.. والوقوف أمام تلك الايحاءات والقيام بتنفيذها والتأمل فيها يجعلها قابلة للفهم في كونها اتجاه لا ينتج عنه إلا قيم سلبية وقاتلة، فالحرب التي حدثت بين العصيمات وعذر مثلاً نتج عنها - كما سمعنا وتداولت وسائل الاعلام - قيم متضادة مع قيم المجتمع لم تستند الى معيارية ثابتة، فقتل النساء - عيب أسود عند القبائل وفق التوافق المعياري لها ذلك أن مثل ذلك السلوك فقد القدرة على الانضباط وكسر القيم وتجاوز الاخلاق.
فالحرب التي حدثت بين بعض فخوذ حاشد (عذر والعصيمات) شلال الإيحاء الأكبر لها هو الخوف من فقدان القيمة والقوة، وفقدان القيمة والقوة بالضرورة يفضي - حسب علماء الاجتماع - الى فقدان المعنى والذي يعني - وفقاً لعلم الاجتماع طبعاً - عدم إحساس الفرد بفهم الأحداث التي يرتبط بها وغير قادر على الاختيار بين البدائل.. فإذا كان فقدان القوة هو الإحساس بعدم القدرة على ضبط الحوادث ونتائجها فإن فقدان المعنى هو الإحساس بفقدان القدرة على التنبؤ بالنتائج السلوكية - يمكن الرجوع الى تصريحات حميد الأحمر بشأن موقف المملكة من ثورة 30 يونيو في مصر وما حدث لأخيه حمير في شوارع جدة مؤخراً - وهو الأمر الذي يكون من نتائجه تدمير المعايير الاجتماعية والثقافية والسياسية في تنظيم السلوك الفردي- وتبعاً لمثل ذلك يمكن قراءة تصريحات حسين الأحمر الأخيرة بشأن ما يحدث بين أفخاذ حاشد من حرب وما نتج عن تلك المواجهات من سلوكيات مشوهة للقيم الاجتماعية - فالحرب - أي حرب- أتعس نتائجها هو التفكك الفردي والتدهور الثقافي واللامعيارية.. وستمائة عام من الزمن لا تبرر مطلقاً الانكسار القيمي والتدهور الثقافي واللامعيارية، كما أن المظاهرات التي حدثت في كنتاكي حملت من علامات السقوط القيمي والاخلاقي أكثر من الاشارات السياسية ومثلها تلك التسريبات الاعلامية والتي لن يكون آخرها امتلاك الرئيس السابق للأسلحة الكيماوية.
وكأننا نشهد عزوفاً عن الفلسفة الاخلاقية التي تمثل الطابع القومي والوطني، واستغراقاً في إثارة الضمير الجمعي، وخروجاً عن التضامن الاجتماعي، وإشاعة لثقافة الحقد والكراهية والتدمير واستنفاراً للذنوب التي تهدد المشاعر الجمعية العميقة وتفضي بالضرورة الى تفكك المجتمع وتعمل على الإخلال بتوازنه وهو الأمر الذي يضع المثقف الفرد أمام مسؤولية تاريخية ومفصلية في مواجهة شلال الايحاءات المشبعة بالرموز والقرائن وذلك بالاستعانة بردة الفعل المكثف الذي يرتبط بالقواعد الأخلاقية وبتفسير الظواهر بالاعتماد على المفاهيم التوافقية وبما يحقق التوازن والاستقرار.
ما يحدث اليوم ليس أكثر من حركة تبدلات في الفاعلين في المشهد السياسي، فالذين تصدروا المشهد خلال العامين الماضيين يشهدون الآن تراجعاً مذهلاً وحالة من حالات التفكك في الأجنحة المتصارعة في الإطار التنظيمي الواحد.
فالاستدعاءات المتكررة لمشاهد الثورة وشعاراتها وتجديد بعض المطالب، والاحتفالات بالرمزيات الثورية المماثلة، والإشارات والرموز الخبرية وغير كل أولئك ليس أكثر من معادل موضوعي لمقاومة عوامل الانكسار والفناء.. والجناح القبلي في الاصلاح هو الأكثر شعوراً بذلك.
تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافلٍ
عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
ويسومها طلب المحال فتطمعُ