< محمدعلي عناش -
ها هو الارهاب يعاود من جديد يتصدر المشهد في اليمن، ما يكاد يخفت لبرهة حتى يظهر أكثر قوة وأكثر تنظيماً، وما يكاد يختفي هنا حتى يظهر هناك، إنه وباء المرحلة والسرطان القاتل الذي يتفشى في الجسد اليمني، فلم تعد محافظة أبين هي موطنه الوحيد وإنما صارت مواطن متعددة من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال.
باتت اليمن مسرحاً مفتوحاً للارهابيين الذين يتدفقون اليها من كل مكان، وفي كل يوم ننام على حسرة في جريمة ونصحو على خبر جريمة أخرى.
صارت اليمن تعزف في كل يوم لحناً جنائزياً حزيناً تواري به جثمان ضابط اغتيل في وضح النهار برصاصات غادرة من مسدس تركي كاتم الصوت، أو جثامين عشرات الجنود تم اصطيادهم غيلة وهم في ثكناتهم العسكرية أو في مواجهة غير متكافئة، أو في كمين غادر وهم يؤدون واجبهم الوطني.
باتت تؤرقنا جداً هذه الجرائم التي تحدث يومياً من حولنا، وجعلتنا نعيش منذ أكثر من عامين في مأتم يمني مفتوح لم ينتهِ بعد، وإنما يتجدد يومياً بتجدد الفواجع وتجدد الارهاب وعوامله وتجدد حواضنه وفقاساته وجيناته اليمنية الخصبة، التي أهلّت اليمن لأن تكون مركزاً مهماً للتنظيم الدولي للارهاب، مثلما أهلت الزنداني في أن يلعب دوراً محورياً في أوساط الجماعات الاسلامية المتطرفة، ومنذ وقت مبكر وبالتحديد بدءاً من مرحلة افغانستان وعلاقته بتفويج المتطوعين اليمنيين للجهاد ضد الروس هناك.
لا نعلم سبباً معيناً لهذه الجرائم، فالأسباب كثيرة ومتشابكة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، تحتاج منا أن نتلمس أبعادها وأن نمسك بخيوطها خيطاً خيطاً، كي نعي أكثر بما يحدث في البلد، ولكي لا نقع مرة أخرى ضحايا للتضليل والتلاعب بعقولنا ووعينا من قبل ساسة اليمين وساسة اليسار والذين توحدوا بغباء ودون غباء منذ البداية في تفسير الحديث عندما رددوا جميعاً «فزاعة صالح» و«قاعدة صالح»، ياله من لؤم وثأر سياسي سمج وشخصنة مقيتة، ربطوا الارهاب بشخص واحد، وظلوا يعزفون هذه الاسطوانة كثيراً، متعمدين أن يدفنوا حقيقة الارهاب ويطمروا أبعاده وعلاقاته مثلما هم الآن يدفنون جثث ضحايا الارهاب بتبلد في المشاعر والضمائر.
ها نحن نجني نتائج التضليل والتلاعب بوعي الناس، في أبين وشبوة وحضرموت والبيضاء وفي صنعاء وفي كل مكان توالد فيه سرطان الارهاب والتطرف.
وها نحن مجبرون أن نتعايش مع اللحن الجنائزي اليومي ونحن نواري ضحايا الارهاب، لكن ذاكرتنا لم تنسَ مازالت تستدعي معزوفة الاسطوانة المشروخة التي توحد في إبداعها وإنتاجها الجميع بدءاً من ياسين واليدومي مروراً بشلفي الجزيرة وغراب الـ بي بي سي وجرادي «الأهالي» وليس انتهاءً بالمهرج في الساحة الثورية «الأضرعي»، لندرك كم كان هؤلاء مهرجين ولابسي أقنعة مضحكة، وكم كانوا هزليين وانتقاميين، وكم كانوا لا شيء في تناول القضايا الوطنية المصيرية.
هم من تلاعبوا بالقضايا وهم من مارسوا استنساخ الشباب الثوري بنمط واحد وشكل واحد في التفكير والمواقف والعلاقات، هذا الاستنساخ المدمر تجلى بوضوح في أحداث أزمة 2011م وما تلاها من أحداث حتى صار مشكلة يمنية عميقة، وها نحن نشهد النتائج في كل شيء غير قادرين على وضع حد لما يحدث من مذابح ارهابية ومن فساد ومن تمرد وتخريب الكهرباء، غير قادرين على وضع حد لهذا التهريج السياسي الذي وصل الى درجة إيقاف محاكمة قتلة الشهيد العقيد حمود الأدبعي ورفاقه وتحويل القتلة الى «ثوار» وبشهادة زور وبهتان من ذلك وزيرة حقوق الإنسان حورية مشهور، غير قادرين على تجاوز تداعيات وتناقضات الأزمة والوصول بها الى شاطئ الموضوعية، كحدث تاريخي عظيم.
ما يؤسفنا بأننا بحاجة الى ثورة شعبية حقيقية نستلهم فيها تجربة ثورة 30 يونيو المصرية، التي لم ترتقِ الى هذا المستوى من الزخم الثوري الكبير، إلاَّ بدوافع وطنية وسياسية جديدة، ولم تنجح إلا بعد أن تمرد المصريون على وعي التهريج السياسي والثوري، وعلى الاستنساخ الواحد والأبله للوعي الثوري القائم على نزعة تصفية الحسابات وشخصنة القضايا، ليتمحور تفكير ووعي الناس حول فكرة جوهرية ورئيسية هي بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وحماية البلد ونظامه العام من السقوط والتهاوي.
تؤرقنا المذابح اليومية التي تطال الجيش اليمني غير أننا أدركنا أكثر علاقة ما يحدث من مذابح ارهابية بكل ما يجري في البلد، هي مرتبطة
بأزمة 2011م وتداعياتها، مرتبطة بالتسوية السياسية الفاشلة والمبادرة الخليحية التي لم تنفذ والقرارات الرئاسية التي أخلت بموازين القوى العسكرية والأمنية ليس فقط لصالح الاصلاح وإنما انها لصالح الارهابيين الذين صاروا يصطادون ضحاياهم من الجيش وهم عزل من السلاح بعد أن قاموا بتوريد أسلحتهم الى المخازن تحت ذريعة وصول لجنة من صنعاء لجرد السلاح، هي مرتبطة ايضاً بما يحدث في سوريا وما يحدث في العراق وما يحدث في سيناء، وحكاية اليمنيين الارهابيين في كل هذه البلدان.
صرنا أمام واقع كارثي حقيقي، بينما المهرجون مشغولون بالعزل السياسي واسقاط الحصانة ويمارسون الاستخفاف بالمواطن اليمني المطحون في رحى الأزمة، عبر تنظيم مسيرات مقززة تهتف بالرحيل والعزل السياسي، وتتقدمها كتائب عسكرية تم تجنيدها في مقرات الاصلاح ومايزالون يعزفون نفس الاسطوانة عن الارهاب والزعيم صالح.
الارهابيون لم يكونوا وهماً ولم يكونوا فزاعة الزعيم صالح، هم هؤلاء الحقيقة الماثلةأمامنا والنتائج التي تؤرقنا وتفزعنا كل يوم، الارهابيون هم من يتقمصون هيئة شيخ الدين طويل اللحية ويتكلمون بمنطق السماء ويرتكبون جرائمهم البشعة من منطلق مقدس ومن أجل هدف يعتقدون أنهم مفوضون بتحقيقه وتبنيه، لا يهمهم النتائج ولا يكترثون لبشاعة ما يقومون به.. هم جزء من بضاعة جامعة الايمان والأفكار السلفية المتطرفة في دماج ومعبر، هم جزء من مخرجات التعليم ومناهجه التي لا تعزز ثقافة السلام والمدنية والديمقراطية بقدر ما تعزز ثقافة التطرف والجهاد مجهول الهوية، نحن لسنا في محل دفاع عن الرئيس علي عبدالله صالح ونظامه، لأننا ندرك تمام الإدراك مواطن أخطاء وإيجابيات مرحلة صالح، وماذا كانت تحتاج بالضبط، غير أننا ملزمون أن ندافع عن الحقيقة، لأننا نحترم عقولنا وتفكيرنا ومهنيتنا، ونحميها من السقوط والاستنساخ والعدمية والدوران في مراوح الرمال.