عبدالرحمن مراد -
< منذ بدأت العملية السياسية الوطنية تأخذ مسارات الانفراج خياراً بعد أن وصل الوطن الى مضائق الانغلاق والانسداد ونحن نلحظ أن ثمة قوى اجتماعية وعسكرية وسياسية تحاول أن تمهد لنفسها طريق اللحظة السياسية المستقبلية بعقلية الهيمنة والسيطرة والتفرد، وبمفردات وأساليب وإجراءات ماضوية لا تتوافق مع طبيعة المرحلة ولا مع نتائج الحركة الاجتماعية التي عصفت بالوطن، فأحدثت متغيراً رؤيوياً وكسرت القيود النفسية والاجتماعية والثقافية ومثل ذلك المتغير الرؤيوي تجاوز واقع تلك القوى الاجتماعية والعسكرية والسياسية..
فالذين أحسنوا التفاعل مع تلك اللحظة الثائرة من حيث استثمار مشاعر الغضب وقعوا في شرور أنفسهم، والذين أحسنوا البدايات ساءت بهم النهايات، فالقوى السياسية المتعددة لم نشهد لها تمدداً جماهيرياً بل العكس شهدنا لها جزراً وانحساراً، ولا أظن الجماعات التي تفاعلت معها ودافعت عن تلك القوى الا تعض أصابع الندم الآن، فقد توالت بها الخيبات وعاشت وضعاً أمنياً ومعيشياً وثقافياً متناقضاً كل التناقض مع الاحلام الوردية للخطابات الزائفة والمضللة، فالرؤى التي كانت تتصدر اللافتات والمواقف السياسية لأحزاب اللقاء المشترك قال الواقع عنها كلمته الفصل، حيث أفضى غياب الدولة المؤسسية التي كان المشترك يرى أن نظام علي عبدالله صالح استبدلها بسلطة كانت تحشد عناصر الدولة خارج نظامها المؤسسي بهدف تأمين وظيفة تسلطية أملاً في إعاقة بناء الدولة، الى الغياب الكلي للدولة، وقد رأينا كل الاطراف في مؤتمر الحوار الوطني كيف تتجاذبهم خاصية التسلط ورأينا كيف تعاملوا مع المبادرة الخليجية قبل التوقيع وبعد التوقيع، فالتناقض الذي ظهر عند كل أطراف ساحة التغيير من قوى سياسية واجتماعية وعسكرية خلق مزاجاً صدامياً في المجتمع يصعب معه في ظل جدليته مع الآمال والطموحات الوصول الى صيغة قابلة لعمليات التحديث والتغيير والانتقال أو حتى الركون الى شراكة وطنية، إذ كشفت بعض القوى عن روح الإقصاء للآخر والتفرد والتعالي ولم يحد من تلك الروح المدمرة الا نتائج ثورة (30 يونيو) بمصر.. والمعضلة أن تكون مثل تلك القوى هي من تقوم بالاشتغال على خطاب سياسي مرتكزاته أن نظام علي عبدالله صالح استبدل الشراكة الوطنية بنظام من الولاءات يقوم فيه مركز السلطة بتأسيس قاعدة لمعايير سياسية واجتماعية ومناطقية جهوية يتم وفقاً لها بناء الحزام الآمن للنظام، ويحصل منتسبو هذا الحزام على نصيب الأسد من ثروات البلاد، ومن المناصب العليا والوظائف الأساسية، وتقوم العلاقة بين مركز السلطة وهذا الحزام الواقي على قاعدة مختلفة لنظام الشراكة الوطني، فهو نوع من الشراكة في السلطة والمصالح، ومثل هذا الخطاب دل الواقع على كذبه وتضليله وتناقضه، إذ أنّ الذي نشهده الآن لا يتجاوز دائرة الولاءات وهو أبعد ما يكون عن مبدأ الشراكة الوطنية، فالتضليل والتناقض جعلنا كمواطنين ندرك أن مفهوم الشراكة لم يتجاوز دائرة «الولاء للمصلحة الشخصية ولاء للوطن» وهذا المفهوم أكثر بروزاً عند التجمع اليمني للإصلاح وهو يتوارى عند بقية القوى لكنها - أي تلك القوى- لا تتجاوز دائرته.
والتناقض بين الرؤية النظرية والممارسة قد يكون أكثر ظهوراً في الخطاب السياسي الذي سبق التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة أو بعد التوقيع، فقد تعالت الأصوات المطالبة بإقصاء المؤتمر الشعبي العام من الحياة السياسية ثم كان الخطاب أكثر تركيزاً على رئيس المؤتمر، فالشراكة الوطنية وروح التعايش شعارات مضللة والهدف الجوهري هو التفرد والإقصاء وإلغاء الآخر وكادت تلك القوى أن توظف مؤتمر الحوار الوطني لأجندة ضيقة وتعقد في سبيل ذلك الصفقات السياسية في حالة غير أخلاقية في التعامل مع العهود والمواثيق من حيث الالتزام والتنفيذ في حين أن سفينة الوطن التي خرقها واقع الطموحات الانتهازية تكاد تغرق في بحيرة الأحلام الآسنة، إذ أن القضايا الشائكة التي كان اللقاء المشترك يعزف طموحاته عليها لم تكن في عهده بأحسن حالاً مما كانت عليه في عهد النظام السابق والرئيس السابق فتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي زاد سوءاً، وأعمال العنف والتطرف- وفي ظل صمت مطبق من المؤسسة الامنية والعسكرية، وهو أمر لم نعهده من قبل - فاقت المتوقع لها الى درجة مصادرة الدور الوطني للقوات المسلحة والأمن، وكأن المشترك ومن تبعه من بقية القوى السياسية والاجتماعية يجدّفون ضد التيار الذي كان يتصدر خطابهم، فالثابت أن البعد الوطني هو الغائب الوحيد سواء أكان على المستوى النظري في جدلية الحوار الوطني أو على المستوى العملي في الفعل والتعاطي اليومي مع المظاهر العامة في المجتمع.
ويكاد ينطبع في أذهان المتابعين أن الذي يحدث اليوم يشبه الى درجة التطابق ما حدث خلال الفترة الانتقالية الممتدة من (90-94م) ولا أشك أن القوى التقليدية التي عبثت بأمن واستقرار الوطن في تلك الفترة بمنأى عما يحدث اليوم، وحين تمعن بعض القوى السياسية في الاستغراق في حالة التيه التي وصلت اليها اليمن وتعمل جاهدة على انحراف بوصلة الحوار من المحددات الموضوعية التي تم التوافق عليها وتتجاوز السقف الزمني الذي حددته الآلية التنفيذية إنما تجهد جهداً مضاعفاً في استمرار حالة غياب الدولة وهي بذلك تقع في التناقض بين أبعادها النظرية من حيث عمق اشتغالها عليها منذ تأسيس اللقاء المشترك الى اللحظة التي تثبت للمتابع أن الاشتغال النظري القائم على مبادئ الشراكة الوطنية، بناء الدولة المؤسسي، الدور الوطني للمؤسسات الامنية والعسكرية، الوضع الاقتصادي والمعيشي، الروابط الوطنية، نبذ العنف والتطرف، الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني، لم يكن الا تكتيكاً مرحلياً لم يتجاوز نقطة الشكوى ومحورها من النظام السابق القائمة على مفهوم أن ّ الولاء للمصلحة الشخصية والحزبية هو الولاء للوطن..ولعلنا ندرك أنه منذ التوقيع على المبادرة الخليجية في 2011/11/23م وحتى اللحظة أي خلال عامين كاملين لم تثبت القوى السياسية التي نازعت المؤتمر الشعبي العام التصدر للمشهد السياسي بشرعيات غير ديمقراطية بمفهوم الولاء الضيق الذي كانت تراه من مثالب المؤتمر، إذ أن الواقع المعيش تحدث عن عكس ذلك إذ قال بالبعد النظري وبالولاء المطلق للوطن للمؤتمر الشعبي العام وتحدث عن عكس ذلك عند المشترك أي قال بالولاء للمصلحة الشخصية والحزبية وهي التهمة التي حاول أمين عام الاشتراكي أن ينفيها عن حزبه في الآونة الأخيرة حين قال إن الحزب الاشتراكي ظل وفياً لمناضليه ولم يرتهن لأحد ولم يستلم من أحد.
ومن هنا يمكننا القول إن التقيد بالمبادرة الخليجية وبآليتها المزمنة هو الضمان الحقيقي لخروج اليمن من حالة التيه والتحليق خارج الأطر الموضوعية لها والتلاعب بالزمن عبث وتمحور حول الذات الحزبية وتغريب لليمن، فالولاء الحقيقي هو الانتصار لليمن وليمنية اليمن في البعد الحضاري والثقافي وفي البعد السياسي القائم على الاستقرار والتعايش واحترام الحريات والخيارات.