أحمد الأهدل -
ثانياً: وجوب التضامن مع الجيوش والفرح بانتصاراتها العسكرية:
إن الجندية شرف الشعوب لا يناله الا عظماء الرجال في المجتمع .
وهناك حقيقة عسكرية، تقول إن الدور الوحيد، للجيوش عبر التاريخ، هو حماية الأديان والأوطان، وإذا كان أعداء الجيوش هم أعداء الوطن، فإنه من الضرورة بمكان أن أعداء الوطن هم أعداء الجيوش، وبالتالي فإن للجيوش ما يبرر خوضهم للمعركة الدفاعية المقدسة، فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة , لا يعود خيرها عليهم وحدهم فحسب , وإنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها ; وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة .
ولقد اثبتت الدراسات والبحوث العلمية العسكرية والاجتماعية، أن هناك علاقة اجتماعية قوية، بين الجيش والمجتمع، فمنذ أن بدأت تتكون المجتمعات البشرية، وبدأت تطور الحرب ومعداتها، كان المجتمع - حينما تخيم عليه أجواء الحرب - يقوم بتجهيز جيشه المنتخب من الرجال الشجعان، وتحريكه الى ساحة الوغى، ليبقى المجتمع في حالة ترقب شديد يتسقط الاخبار بقلق، فإن انتصر جيشه، عانقته المفاخر وغمرته الغنائم، وإن انهزم اجتاحته المصائب وحلت به الويلات، وسارت الحرب على وتيرة واحدة، جيش يقاتل ومجتمع ينتظر، ومهما بلغ تعداد الجيوش، التي كانت تحشد للحرب، فإن أكثر من نصف المجتمع كان ينتظر النتيجة بأعصاب متوترة، وقد وجد في قوانين حمورابي تعاليم عسكرية، توجب على الرعية محبة الجيش والتعاون معه، بالمال والرجال والعلم- أي المعلومات، فقد كان الفلاح إذا سمع أوشاهد جيشاً يريد الاغارة على بلاده، انطلق بسرعة الضوء ليبلغ أمير البلاد بذلك الخطر القادم لتدمير بلدته وبني جلدته، لتصبح تلك القوانين والأعراف، عادات وتقاليد اجتماعية متوارثة، بين الجيشه والمجتمع، حتى عصر البارود.
ومن ثم دخلت الحرب في مرحلة جديدة، من عصر المعلومات، حيث لم تعد مقصورة على الجيش في ميدان القتال، بل اتسع نطاقها ليمتد الى قلب المجتمع، بهدف الضغط النفسي والمعنوي على الجيوش المقاتلة لكي تستسلم بدون قتال، مايعني أن التضامن مع الجيش، ورفع معنوياته من المناهج النفسية لكسب المعركة قديماً وحديثاً.. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور الجيوش في توفير المناخ الملائم لصناعة دولة قوية وعصرية، فالدولة الحديثة القوية لابد أن يكون لها جيش قوي مدرب ومزود بأحدث العتاد والسلاح، والاجراءات القانونية التي تساعده على تحقيق الأمن والاستقرارفي البلاد، وتمده بكل أسباب القوة المادية والمعنوية، وعلى كافة المستويات السياسية والاجتماعية، بما يجعله قادراً على امتلاك عوامل الردع والتفوق على العدو المحتمل بقوة، والرد الفوري على أي اعتداء خارجي، وحماية الوطن من كل من يحاول النيل من أمنه واستقراره .. وإن حقيقة الانتصارات التي حققتها الجيوش عبر منعطفات التاريخ، تعتمد أساساً على أبناء المجتمع، لأنهم أكثر إقداماً وأكثر استعداداً للتضحية وتقديم كل ما يملكون من دمائهم وأرواحهم لحماية أوطانهم، فالجيوش لا تنتصر الا بتشجيع شعوبها. والتاريخ العسكري يزخر بالكثير من الأحداث والملاحم البطولية، التي سطرتها المجتمعات والشعوب، عبر تاريخ الجيوش، تضامناً مع جيوشها ودفاعاً عن اوطانها في كثير من المعارك والحروب.
ربما يكون اشهرها، معركة الخندق، التي تعد المعركة الدفاعية الوحيدة، في صدر الاسلام، حيث سطر أبناء المجتمع الاسلامي أروع الملاحم البطولية، تضامناً وتعاوناً مع جيشهم الاسلامي، لصد جيش الاحزاب عن المدينة المنورة عاصمة الدولة الاسلامية الوليدة، وكذلك معركة لندن حينما وجه الالمان حمم نيرانهم على مدينة لندن، بغرض الضغط على القيادة العسكرية والسياسية البريطانية للتسليم، حيث خاطب السيروستون جيشه وشعبه قائلا: عليكم ان تقاتلوا المعتدي بالفؤوس والحجارة، والزجاجات الفارغة، وإذا قدر لهذا البلد أن يسقط بيد الغاصبين، فسنخرج الى العالم لنجمع القوة الكافية لاسترداده . وأيضاً معركة حصار السبعين يوماً التي سطر فيها أبناء المجتمع اليمني، اروع المواقف البطولية التي كادت تعانق السماء تضامناً مع جيشهم الجمهوري الوليد...
وقد شرع الله التضامن مع الجيوش واعلان الفرح بانتصاراتها وتخليد مآثرها البطولية وملاحمها الاسطورية، في ذاكرة الشعوب والحضارات، قال تعالى:الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ففي الآية مايدعو المجتمعات الى وجوب التضامن مع الجيوش واعلان الفرح بانتصاراتها على العدو، بمختلف عقائدها العسكرية والدينية، بإعتبار ذلك من مكارم الأخلاق والقيم الاجتماعية النبيلة، والواجبات الشرعية، التي تدعو إليها الآيات الكريمة، قال البغوي وسبب نزول هذه الآية على ـ ما ذكره المفسرون ـ أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم، لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس، لكونهم أهل كتاب، فبعثت هاتان الدولتان العظيمتان -كل منهما- جيشاً عظيماً إلى الاخرى، فالتقيا بأذرعات بصرى الشام، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق عليهم، وفرح به كفار مكة. وهذا فيه دلالة واضحة، من أن التضامن مع الجيوش، مسألة اجتماعية معروفة لدى المجتمعات البشرية حتى ما قبل الاسلام، ويجمع مؤرخو الإسلام أن السورة جاءت بتشريع إلهي يقضي بوجوب التضامن مع الجيوش والفرح بانتصاراتها بمختلف معتقداتها الدينية والعسكرية.
كما في قوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) فوجهه الدلالة في الآية قوله تعالى(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) قال ابن الخطيب وهذه دلالة من أن التضامن مع الجيوش ضرورة اجتماعية معروفة، عبر تاريخ المجتمعات والجيوش.. ويقول ابن تيمية: إن اعداد الجيش والمشاركة في تجهيزه، والتضامن معه مادياً ومعنوياً من أقرب القربات الى الله، قال صاحب تفسير المنار والمقصود بالاعداد هنا هو بذل المستطاع من الجميع، في إيجاد القوة المادية، والقوة المعنوية، وابتكار الأساليب والوسائل التي ترفع من معنوياته، وتعلي من شأنه في العامة، وترهب العدو، والابتعاد عن كل ما يضر بمعنوياته، أو يسيئ الى أفراده وقاداته، والتضامن معه في كل مواقفه وحروبه. قال السيد قطب، وحكمه واجب لسببين:
الأول: لدلالة النصوص الشرعية التي تفيد الوجوب، كما في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) فقوله تعالى:( وأعدُّوا ) أمر يُفيد الوجوب. وفي الحديث عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ). ومما يدل على الوجوب أيضاً، أنه واجب لغيره فلا يمضي بناء الجيوش وإعدادها وتجهيزها لملاقات العدو والجهاد في سبيل الله إلا به .. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قال مفتي ديار الاندلس: ولما كان الدفاع عن الدين والوطن ضرورة شرعية، والموت دون الأرض والعرض شهادة، فإن المشاركة في إعداد الجيش والتعاون والتضامن معه واجب ديني ووطني.
وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الحث على التحلي بالصبر في ميادين القتال، لكي تتقوى الروح المعنوية ويكره ويحرم تثبيط الهمم وإضعاف المعنويات للمقاتلين، ومن ذلك ما فعله يوم أُحد، يقول الواقدي، ثم قام رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فخطب الناس قائلاً: يا أيها الناس، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، وإن عليكم بالذي آمركم فإني حريص على رشدكم، فإن الاختلاف، والتنازع، والتثبيط من أمر.. العجز، والضعف... مما لا يحب الله ولا يعطي عليه النصر . فبيّن صلى الله عليه وسلم في خطبته العسكرية المعنوية، أن رفع المعنويات للجنود وحثهم على قتال العدو، أمرٌ لا بد منه، وأن الاختلاف والتنازع بما يفضي بالاساءة للجيش وتشويه قاداته، هو من أمورالعجز والضعف، الذي يأثم عليه فاعله، ولا يستحق عليه أجراً ولا نصرا..وروى اصحاب السّير أن توديع الجيش واستقباله من السنة، قال ابن اسحاق في السيرة، ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج في غزوة مؤتة، حضر الناس، وودعوا الجيش وأمراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وسلموا عليهم، ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودّعهم.. وفي الاثر دلالة على قوة التضامن الاجتماعي بين الجيش والمجتمع في صدر الاسلام.
٭ باحث في الشؤون العسكرية والأمنية