محمد علي عناش - الديمقراطية بما تتضمنه من مبادئ وقيم وأسس أهمها مبدأ التداول السلمي للسلطة والتعايش المشترك والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات لجميع فئات ومكونات المجتمع دونما تصنيف أو تمايز، تعتبر جوهر الدولة المدنية وأهم أركانها ومبادئها لإقامة مجتمع السلم والتعايش وتجاوز شرنقة الهويات القاتلة.
من هنا فالذين يرفضون الدولة المدنية ويحرمونها دينياً، إنما هم في الحقيقة يرفضون الديمقراطية التي تمكن الشعب بمختلف فئاته ومكوناته من اختيار حكامه وممثليه، وإقامة نظامه وسلطته، بمقتضى إرادة الأغلبية، وبمقتضى الدستور واللوائح والقوانين التي تكفل ذلك، وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كعقد اجتماعي جديد قائم على مبدأ الاختيار والمسئولية وعلى المؤسسية واحترام التفكير الحر للإنسان دون وسائط أو وصايات من أحد.
رجال الدين المتطرفون يرفضون الديمقراطية، لأن الديمقراطية القائمة على حرية الانتخاب والتداول السلمي للسلطة تقيم سلطة الشعب وحكم الشعب، التي يعتبرونها منازعة لسلطة الله وحكم الله، وفي هذا السياق وهذا الموضع من الجدل، يوظفون النصوص القرآنية التي يسيرونها حسب أهوائهم وفهمهم القاصر لظواهر النصوص- مثل «إن الحكم إلاّ لله»- توظيفاً براغماتياً لمصادرة حق الشعوب في الحكم والسلطة، والهدف من ذلك هو إقامة سلطتهم السياسية المكملة لسلطتهم ووصايتهم الدينية كنواب عن الله في الأرض وكأن هذه الشعوب ليست شعوباً مسلمة وموحدة وأن إيمانها قاصر.
وعيهم القاصر بالدولة المدنية، وتطلعاتهم الى الحكم والسلطة بعصمة وقداسة سماوية يجعلهم يجرمونها ويعتبرونها مخالفة للشرع الاسلام ومدعاة لانحلال الأمة وانتشار الرذائل فيها، فلا يرونها إلاّ بهذا الشكل، ويلبسونها ثيابات الانحلال وقمصان الرذيلة وفقاً لما تفصله وتخيطه أفكارهم وتطلعاتهم، متناسين أو متجاهلين أن لنا خصوصيتنا العربية والاسلامية، التي ستحول بين مجتمعاتنا وبين ما يدعون ويروجون له، اذا ما تمكنا من جعلها خصوصية فاعلة ومنتجة في العصر سياسياً واقتصادياً وعلمياً، لا خصوصية متقوقعة ومقموعة ومتخلفة ومسجونة في ذات غير فاعلة ولا منتجة، حينها سوف تتآكل وتنحل من الداخل.
هؤلاء يتكلمون عن الرذائل بإسقاط على المجتمعات الغربية، وكأننا شعوب ومجتمعات ملائكية خالية من الجريمة الأخلاقية، أو كأن الحجاب واقصاء المرأة اجتماعياً وسياسياً، قد حال ويحول دون وقوع مثل هذه الجرائم.. بل على العكس من ذلك، فهذه المظاهر تخفي وراءها واقعاً اجتماعياً تتفشى فيه الرذيلة والجريمة الاخلاقية بشكل كبير، والتي ليس لها علاقة لا بالتمدن ولا بالتحضر، وإنما لها علاقة باختلال العلاقة بين الرجل والمرأة، والفقر والبطالة والأمية، والاضطهاد الاجتماعي للمرأة والعزلة بينها وبين المجتمع، وفقدانها لحريتها وحقوقها في الميراث والعمل وفي اختيار شريك حياتها، وسوء معاملتها من قبل المجتمع والأسرة وفي بيت الزوجية.
من جانب آخر، هل الانحلال في الغرب، هو المظهر الكلي للدولة المدنية الغربية؟ وأن التداول السلمي للسلطة والأمن والاستقرار والتعايش السلمي المشترك، والتقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي هو ليس من انجاز ومظاهر الدولة المدنية في الغرب؟
بالتأكيد هو من انجازها ومظاهرها، فلماذا هؤلاء الذين يريدون أن يقيموا علينا سلطة دينية وسياسية بقداسة إلهية، حتى استبدادهم وفسادهم سيكون بعصمة وقداسة لا مجال لمعارضتها والثورة عليها، لا ينظرون الى هذه المظاهر والانجازات للدولة المدنية، ويثقون بخصوصيتنا وتديننا، بأننا سوف نتجاوز مظاهر الانحلال التي يرونها في الدولة المدنية.؟!
في اعتقادي أن الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي والتعايش السلمي في المجتمع المتعدد دينياً وسياسياً وعرقياً، يعتبر أهم مظهر للدولة المدنية، والذي تبنى عليه مختلف الخطط والبرامج البنّاءة والتنموية في شتى المجالات، وهذا الأمر هو ما تفتقده المجتمعات العربية والإسلامية، والتي تعتبر مجتمعات متخلفة وضعيفة ومجتمعات مستهلكة وغير منتجة، رغم أنها تمتلك كل مقومات النهوض والتطور والانتاج.. والسبب الرئيسي في ذلك أن هذه المجتمعات غير آمنة ولا مستقرة، وإنما مجتمعات متناحرة ومتصارعة ومنقسمة فيما بينها بهويات متعددة قبلية وطائفية ودينية، كما أنها مجتمعات مستلبة ومقموعة وغير فاعلة في العصر، قابعة في الماضي وتعتاش عليه معنوياً لنسيان ما تشعر به من بؤس وفقدان في الحاضر وتواري به هزائمها واخفاقاتها المعاصرة التي تعوضه بتمجيد قيم القبيلة وفضيلة الزهد والموت، وامجاد السلف والقرون الثلاثة، وتاريخ الأمة، والتي تتحول الى بطولات وأمجاد وفضائل في الوقت الحاضر بالأحزمة الناسفة وتفخيخ الشوارع والأسواق والسيارات والمساجد والكنائس، والصراعات والحروب المذهبية التي مازالت ترسم بحبر من الدم والدموع لوحة الفقدان والسراب العربي، وتسطر به كآبة أمة تم تفخيخها معرفياً وذهنياً وروحياً، لتستمر في تفخيخ حاضرها بالبؤس والضياع والتمزق، وتعيد انتاج واقعها المتخلف اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً نظراً لفقدانها الهوية الواحدة التي تؤسس للأمن والاستقرار والتعايش والتداول السلمي للسلطة ويمكّنها من التفاعل مع العصر بندية وكفاءة وقوة، هذه الهوية التي تتمثل في الدولة المدنية الموسسة دولة المجتمع.. لا دولة التنظيم أو القبيلة أو المذهب.
|