بقلم أحمد المسلمانى -
«تحظى جوائز نوبل فى العلوم والطب بالاحترام التام، والتقدير الكامل، وتحظى جوائز نوبل فى الاقتصاد والآداب بدرجة من الجدل والنقاش، ولكن جائزة نوبل للسلام.. باتت تقريبًا خارج السياق.
لقد حصل الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» على جائزة نوبل قبل أن يتمكن من السلطة الفعلية فى واشنطن،.. وقد نقلت عنه الصحف أنه فوجئ تمامًا.. وكان التبرير الذى صدر عن لجنة الجائزة أنه حصل عليها لأنه اعترف بالهزيمة فى العراق وأفغانستان!
ولما لم يكن ذلك مقنعًا جاء التبرير الآخر، لقد تم منح الجائزة كحافز لتحقيق السلام!
(1)
تراجعت المكانة السامية لجائزة نوبل للسلام بتراجع مكانة الحائزين عليها،.. ولولا أنها تحمل اسم «نوبل» لما حظي الفائزون بها على اهتمام مجلات الحائط أو كاميرات المحمول!
هل يُصدق أحد أن وزير الخارجية الأمريكى الأسبق «هنرى كيسنجر» قد حصل على جائزة نوبل للسلام؟.. لقد حصل بالفعل!
هناك العديد من المقالات والمظاهرات التى تطالب بسحب جائزة نوبل ومحاكمة «كيسنجر» كمجرم حرب قتل الملايين فى فيتنام وساهم فى قتل أبرياء آخرين حول العالم، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث.. ولا تزال ميدالية نوبل تزيِّن مكتبة منزله!
هل يُصدق أحد أن الزعيم الهندي الأشهر المهاتما «غاندى» لم يحصل على جائزة نوبل للسلام، وأن شخصيات مثل «مناحم بيجن» و»شيمون بيريز» قد حصلت على الجائزة؟.. لقد حدث بالفعل!
انتهت الهيبة التى طالما حظيت بها جائزة نوبل للسلام.. بل وأصبحت عبئًا على جوائز نوبل على وجه العموم.. وأصبح حفل الجائزة السنوي فى النرويج خَصمًا دائمًا من رصيد ومكانة الجائزة فى السويد.
(2)
يقول ناقدو جائزة نوبل للسلام: إن النرويج استخدمت الجائزة لتعزيز سياستها الخارجية ومصالحها الاقتصادية.. وأن عددًا من حائزي الجائزة كانوا مجرد حلفاء للسياسة النرويجية.
وفى عام 2011م، وبعد منح الجائزة لفتاة مغمورة تدعى «توكل كرمان»، كتبت إحدى الصحف النرويجية: إن لجنة جائزة نوبل للسلام يجب أن تتشكل من الكفاءات الفكرية ذوي الرؤى العالمية بدلاً من أعضاء البرلمان المتقاعدين الذين يتسمون بضيق الأفق.. وانتقد «مايكل نوبل» حفيد مؤسس الجائزة عملية «تسييس جائزة نوبل» وعدم الالتزام بوصية جده «ألفريد نوبل».
ولما حصلت «منظمة حظر الأسلحة الكيماوية» على جائزة نوبل للسلام بعد قرار سوريا بتسليم الأسلحة الكيماوية.. قال منتقدو الجائزة: كيف تمّ منحها إلى موظفي منظمة لا قرار سياسياً لهم، ولا يملكون أي دور فى ذلك؟.. وهو ما دعا «بشار الأسد» للقول بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام أكثر من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لأن قراره هو الذي قَلَبَ المعادلة!
(3 )
من الإنصاف هنا القول بأن عددًا من أعضاء لجنة نوبل للسلام يبذلون جهدًا للحفاظ على مصداقية الجائزة ونزاهتها.. وأن اثنين من أعضاء اللجنة قد استقالا بعد قرار منحها إلى «هنرى كيسنجر».. ولكن هذه الأصوات باتت أكثر ضعفًا فى مواجهة العابثين بالجائزة وبمكانتها.
(4 )
الحقيقة لا تزال غير مكتملة بعد.. ذلك أن أخطر ما في جائزة نوبل للسلام ليس فقط عدم النزاهة أو الهبوط بوزن الجائزة.. لكن الأخطر هو ما تضمنته وثائق الجائزة من أن جانبًا من أهدافها هو «إلغاء الجيوش».. تحت دعوى «إلغاء الحروب».
وطبقًا لمصادر بحثية نرويجية فإن جائزة نوبل للسلام تُعطى لمن يعمل على هدف إلغاء الحروب وإلغاء الجيوش.
وإذا كان هدف «إلغاء الحروب» هو هدف إنساني عظيم.. فإن هدف «إلغاء الجيوش» هو هدف «غير وطني» يصطدم بثوابت الأمن القومي للدول.. ويرتكب المؤمنون بذلك أو الساعون له جريمة «الخيانة العظمى» في حق بلادهم!
(5 )
لقد تذكرت هذا النقاش العالمي بشأن جوائز نوبل للسلام وأنا أتابع ظاهرة «توكل كرمان» التي صعدت من «الصفر» إلى «الصفر» فى زمن محدود!
لم تكن تلك الناشطة غير المرئية تمثل أي شيء لبلادها أو العالم.. ولا يوجد ما هو ملموس ومحدَّد من سيرتها الذاتية إلا أنها عضوة فى جماعة الإخوان المسلمين باليمن.
كان واضحًا تمامًا إلى أين تتجه السياسة الغربية عام 2011م، (عام الربيع العربى).. كانت تتجه إلى دعم جماعة الإخوان المسلمين.. وكانت إشارة الضوء الأخضر العالمية متمثلة فى منح «عضوة فى جماعة الإخوان المسلمين» جائزة نوبل للسلام.. كأنها حافز على دور سيبدأ بعد قليل!
لم يكن اختيار «توكل كرمان» موفقًا.. لا للجائزة ولا للجماعة.. فقد كان الأمر مكشوفًا للغاية.. وكان منح الجائزة لشخصية تفتقد أدنى مستويات الفكر والمعرفة مشهدًا فى هبوط «نوبل» لا صعود «توكل»!
ومن المؤكد أن من بين نساء الجماعة - وقتها - من هن أكثر ثقافة وأعلى شأنًا.. ولكن الاختيار جاء هزيمة للطرفين.. للمانح والممنوح!
بذلت جماعة الإخوان جهدًا كبيرًا للصعود بـ»توكل كرمان» إلى مستوى الجائزة.. لكن الصعود من السفح إلى السطح كان مستحيلاً.
وهنا كان على الغرب أن يقوم هو بـ»عملية صعود الجبل»..
(6 )
كانت الجائزة الوحيدة التي حصلت عليها «توكل» هي جائزة الشجاعة من السفارة الأمريكية في صنعاء.. وكانت الصناعة كالتالي: أصبحت «توكل كرمان» عضو «اللجنة الأممية عالية المستوى لرسم رؤية جديدة للعالم».. هكذا مرة واحدة!
إن «توكل» التي لا تستطيع أن ترسم رؤية لمدرستها أو قريتها.. أصبحت تشارك فى لجنة كوكبية لرسم رؤية العالم!
ثم تقدمت جامعة ألبرتا الكندية فمنحتها الدكتوراة الفخرية.. ولما قامت بالهجوم على ثورة 30 يونيو في مصر وقالت إنها تنوي القدوم إلى مصر والاعتصام في ميدان رابعة العدوية مع أتباع الرئيس السابق محمد مرسي.. اختارتها مجلة التايم الأمريكية فى المرتبة الأولى لأكثر النساء ثورية فى التاريخ!
لقد واصل الغرب «عملية صعود الجبل» دون توقف ، وأصبحت «توكل كرمان» التي لم يسمع بها أحد أديبة وشاعرة وكاتبة.. ثم كانت المفاجأة الكبرى من مجلة «فورين بوليسي» التي يفترض أنها مرموقة - للغاية - حيث اختارت المجلة «توكل» في المركز الأول ضمن قائمة أفضل (100) مفكر فى العالم!
وهكذا أصبحت «توكل» أول مفكرة بلا فكر، وأول أديبة بلا نص، وأول شاعرة بلا ديوان!
وإذا كانت شخصية متواضعة عقليًّا مثل «توكل» هي أفضل مفكرة من بين (100) مفكر فى العالم.. فمن حق القارئ أن يتساءل.. ما هو مستوى الـ(99) مفكرًا الآخرين.. إذا كانت هذه تحتل المركز الأول؟
إن مثل هذه الأوصاف ومثل هذه المراكز إهانة للعقل الإنساني وإساءة للحضارة الغربية.. كيف يمكن أن تصل «صناعة الكذب» إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن أن يأتي صانعو الأساطير بأى شخص بائس لا يملك من أمره شيئًا ثم يجري منحه كل شيء!
(7 )
ما لا يدركه الغرب.. أنه يمكنه أن يمنح الجوائز والأوسمة والألقاب.. لكنه لا يمكنه أن يمنح الموهبة أو الحكمة أو البصيرة.. لا يمكنه أن يمنح «نعمة العقل» أو «فضيلة الفكر».
إن «توكل» المفكرة رقم (1) في العالم.. تمارس العبث على صفحات الفيس بوك.. تارة تقول: «إن وصول السيسي للرئاسة سوف يجعله فى صدام مع الجيش».. وتارة أخرى تقول: «إن قطر العظمى فى الجانب الصحيح من التاريخ»..!
لقد هبطت «المفكرة العالمية» إلى الصفر من جديد.. كما بَدَأت عَادت.. إنها رحلة العدم.. من «لا شيء» إلى «كل شيء» إلى «لا شيء».
(8 )
إن «توكل» لا تفعل شيئًا من أجل اليمن أو اليمنيين.. بل من أجل نفسها ومن أجل الجماعة.. وبدلاً من أن تستثمر «الجائزة الخطأ» في «العمل الصواب» إذا هي تترك بلادها في أزمتها.. لجولات وزيارات، وتعليقات وتويتات.. لم تأتِ بإضافة واحدة من أجل الشعب اليمني الشقيق.
(9)
إن تقديرات البنك الدولي تقول بأن نصف سكان اليمن البالغ عددهم (25) مليون نسمة بحاجة إلى مساعدة إنسانية، وهناك أكثر من (10) ملايين يمني يعانون فقدان الأمن الغذائي، نصفهم - حسب مجلة الإيكونوميست - يعانون الجوع!
وتشكل مشكلة نقص المياه محنة كبيرة تواجه اليمن، ويقول «توماس فريدمان»: إن نضوب المياه هو ما سَيُفنى اليمن.. وفى مدينة تعز يفتح السكان صنابير المياه ثلاثين يومًا، لتأتي المياه (36) ساعة فقط.. وحسب دورية «فورين أفيرز» فإن سكان صنعاء سيكون عددهم عام 2025م أكثر من أربعة ملايين نسمة.. سيصبحون جميعًا لاجئين بسبب جفاف المياه.
وقد أدى ذلك على وجه الإجمال إلى كارثة في الاقتصاد والأمن، ذلك أن الاقتصاد يتهاوى، والأمن الذى يشهد تحديات من «القاعدة» و»الحوثيين» وغيرهم يواجه ضغطًا موازيًا بسبب العطش، وحسب وزارة الزراعة اليمنية ، فإن النزاعات المرتبطة بالمياه والأراضي ينجم عنها أربعة آلاف قتيل سنويًا!
لا تعرف «توكل كرمان» أي شيء عن ذلك.. فقط كل ما تعرفه هو ما يتعلق بـ»أعضاء الجماعة» و»أعداء الجماعة»!
(10)
اليمن من أجمل بلاد العالم، واليمنيون من أروع شعوب الأرض.. لكنه بلد سيئ الحظ.. أصبح اليمن مثقلاً بالساسة الذين آثروا الثروة على الثورة، وآثروا السلطة على النهضة، وآثروا الكاميرا على الوطن.
فى اليمن يعاني شعب عريق من «لعبة الأمم».. بينما طفلة كانت تتثاءب من الفشل أصبحت تلهو بجائزة نوبل!