د.وهيبة فارع -
لم تجد الدول بداً من محاربة الفساد في عصر الشفافية التي أصبحت رديفا للديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، فالفساد ظاهرة من ظواهر انحرافات السلوك البشري عند تقلد الوظيفة العامة المرادف للمتاجرة السياسية والتفسخ الأخلاقي والإنساني، وهو آفة العصر الذي تحول فيه الإنسان من البناء الأخلاقي إلى البناء المادي ليعيث بالمال العام فسادا وإفسادا.
إنه البلاء الذي لم تشف منه دولة لا في الصين الاشتراكية ولا في بريطانيا العظمى سليلة الارستقراطية، ولا في أمريكا داعية العدالة والمساواة، ولا في فرنسا داعية الحرية، لكنها قاومته بالشفافية واستطاعت محاصرته، وهو في المجتمعات حديثة العهد بالديمقراطية النائمة على التخلف كارثة لم تعرفها البشرية منذ القرون الوسطى، فهذه المجتمعات في معاناتها هي ضحية كبار المرابين وتجار الحروب في بعض الدول العظمى الذين يصدرون اليها آفات الفساد وخبراءه وكأن شعوبها المبلية أصلا لا يكفيها الفقر والمرض لتبتلى بمن يتاجر بأرزاقها ويمتص شرايين حياتها.
حسنا جاء قرار فخامة الأخ رئيس الجمهورية بإنشاء لجنة مكافحة الفساد، فقد استفحلت الأمور في مجتمعنا ومؤسساتنا على نحو لم يعد أحد قادرا على السكوت عليه حاكما أو محكوما، فإنشاء اللجنة هو بالإضافة إلى محاربة الفساد إيقاظ للضمير الوطني للمساهمة في ترشيد وتفعيل روح الرقابة الداخلية للمؤسسات التي أهملت، والأكثر من ذلك إحياء لضمير المراقب والتنبيه إلى ضرورة اعادة الحياء للمستهترين بالنظم والقوانين والأعراف ليكفوا عن العبث بمستقبل البلاد واقتصادها، فكل ما تراه يحثك على محاربة الفساد، وكل ما حولك يجرك إلى معايشة الفساد، فنظرة كلية من خارج المؤسسات ترى أن إصلاحها لا يتأتى إلا في إبعاد الفاسدين لتوقيف أنشطتهم وتجفيف منابع فسادهم وإحداث مقاومة لهذه العناصر التي يمكن تصنيفها إلى مجموعات: فاسدة ترعرعت على الفساد كمخلوقات لا تعيش إلا في أجوائها القذرة، وهؤلاء لا علاج لهم إلا الاستئصال كمرض مستفحل، وآخرون يدورون في فلك الفساد بمد يدهم بالمساعدات والحيل لغيرهم دون أن يظهروا في الصورة، فإن نجح الفاسدون استفادوا منهم وان وقعوا في الفخ فلا خوف عليهم، ونوع آخر من الفاسدين وهم المحرضون والمغالطون الذين يحولون القوانين والنظم إلى منظومة من المصالح دون أن يحركهم وازع أو ضمير، وهم ينخرون المؤسسات ويبخرونها بدخان المتابعات والوساطة المحرمة والفساد الأبيض، وهو ما لا يطاله قانون ولا يجرمه عرف ابتدعوه، وهؤلاء لابد من نبذهم وتوقيف نشاطهم الذي يمرر لهم صفقات ومصالح في شبكة علاقات يديرونها من مؤسسة إلى أخرى
أما النوع الأخير من الفساد فيتمثل في ضعفاء النفوس الذين يجبرهم ضعف القوانين الرادعة على غض الطرف والتغاضي عن الجرائم الواقعة أمامهم دون أن يبادروا إلى منعها أو التبليغ عنها، فتترك حنفياتها المفتوحة إما بمقابل زهيد يتراكم يوميا وإما نكاية بالمؤسسات والقيادات التي يعملون تحت إمرتها وببرنامج الإصلاح الاقتصادي والسياسي الذي تتبناه الدولة
الفساد من وجهة نظر الجميع نوعان، أسود مكروه ومعلوم، وأبيض غير مقصود وغير معلوم، ويغيظك أن تسمع تعبيراتهم بأن فسادهم حلال طالما لم يشاركوا في الاحتيال عليه أو أنه قد وصلهم صدقة جارية أو مقابل عمل لا يضر أحدا أو أنهم قد استقطعوا جزءاً من كل وقليلا من كثير، وتكاد تصاب بالغثيان وانت تسمع ما يحللون به جرائمهم أمام الناس وأمام الله بابتسار الآيات الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة دون خجل مثل "والقائمين عليها" وكأنها تشفيهم من وخز الضمير وتحلل لهم حق مشاركة الدولة والمواطن التي لا تحظى منهم إلا بالعشر أو دونه.
آن الأوان لعودة الوعي وإيقاظ الضمير، فمن المعيب أن ننجح في الديمقراطية ونفشل في تهذيب الأخلاق وتنمية الأساس بالمواطنة وتربية الضمير..
فشكرا لك فخامة الاخ الرئيس.
[email protected]