بقلم/ عبده محمد الجندي -
لم تكن الانتخابات الرئاسية في مصر الكنانة حدثاً مصرياً عابراً كغيره من الأحداث الوطنية العادية المنحصرة في النطاق الوطني المصري بقدر ماهي حدث وطني وقومي تتطلع اليه الأمة العربية من المحيط الى الخليج نظراً لما تمثله الزعامة المصرية من أهمية وطنية وقومية تتجاوز الدائرة الوطنية الى الدائرة العربية الآسيوية والدائرة الافريقية وتتجاوز تلك الدوائر الى العالم بأسره.. وذلك ما أدركه قادة ثورة 23 يوليو الناصرية في عام 1952م ويدركه اليوم قادة ثورة 25 يناير المغدورة التي استعادت قواها وخطها العروبي القومي في 30 يونيو 2013م وفي 4 يوليو من نفس العام بما قام به المشير عبدالفتاح السيسي من استجابة فورية لتلك الحشود الملايينية التي أزحمت فيها ميادين وشوارع القاهرة وجميع المحافظات والمدن المصرية على نحو لم يسبق له مثيل التي فوضت القوات المسلحة والأمن بقيادة وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة باستعادة ثورتها المسروقة بعد سنة من حكم المرشد العام للاخوان المسلمين قبل أن تقع الفأس بالرأس ويتمكنوا من الاستيلاء على جميع المؤسسات المدنية والعسكرية والقضائية للدولة المصرية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ من خلال حركة أخونة نشطة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الديمقراطيات الناضجة والناشئة.
أقول ذلك وأقصد به أن ثورة 30 يونيو بقيادة المرشح الرئاسي عبدالفتاح السيسي الذي وجد به الشعب المصري ومعه جميع الشعوب العربية ما هم بحاجة اليه من قيادة تاريخية تعيد لمصر الكنانة دورها العروبي والقومي الذي يعيد الحياة والحيوية للحقبة الناصرية التي غيرت وجه التاريخ وحققت منجزات كأنها المعجزات لاسيما وأن القوى الظلامية التي هزمت بالأمس قد وجدت نفسها أمام فراغ ساعدها على سرقة تضحيات الثورة الملايينية بما أبرمته من الصفقات والمؤامرات المشبوهة مع القوى العالمية الداعمة والمساندة لاسرائيل والحركة الصهيونية العالمية المعادية لماضي ومستقبل الأمة العربية بشكل عام وللشعب الفلسطيني وأبناء الجولان ومزارع شبعة المحتلة بشكل خاص.
أقول ذلك وأقصد به إن الشعب المصري الذي ضاق ذرعاً بحكم الاخوان الشوفيني الشمولي قد وجد بالمرشح السيسي ضالته المنشودة القادرة على إعادة الدور القومي المفقود لمصر الكنانة التي انتصرت لمقوم القيادة السياسية فترة قصيرة من الزمن فهبت جماهير الشعب العربي الرازحة تحت فوضى حكم الاخوان تكرر اليوم في عهد السيسي ما عملته بالأمس في عهد الزعيم جمال عبدالناصر باعتباره الأمل الذي تستعيد بها الأمة العربية ما هي بحاجة اليه من قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية وقومية قادرة على مجابهة ما يحيط بها من المؤامرات والتحديات الإقليمية والقومية والعالمية القادرة على إعادة ما هي بحاجة اليه من موازين القوة بعد استكبار اخوانية وظلامية وحولت النظام الى فوضى، وحولت الأمن والاستقرار الى ارهاب وحولت الديمقراطية الى إقصاء وإلغاء للتعدد وحولت التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية الى ركود والعلم الى تجهيل، إضافة الى الاستيلاء على الوظيفة العامة وكافة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية بما يؤدي الى عدم السماح بالتداول السلمي للسلطة مرة ثانية كما حدث للأحزاب الفاشية في إيطاليا والنازية في المانيا.. التي قادت الى الحرب العالمية الثانية.
ان قتل الديمقراطية بالديمقراطية أحد أهم العوامل التي دفعت الشعوب العربية الى ردود أفعال عربية رافضة لما حدث من حركة «اخونة» هادفة الى الاستيلاء على الدولة بكل ما تتكون فيه من السلطات والمؤسسات المدنية والعسكرية والانقلاب على إرادة الهيئة الناخبة ومحاولة الإساءة للجماهير التي منحتهم ما كانوا بحاجة اليه من الثقة بصورة أوصلتهم من المعارضة إلى السلطة وما قاموا به من اضعاف لمؤسسة الدولة واضعاف للتنمية وتحويل الشعب المصري من مواطنين أحرار لهم حقوق وعليهم واجبات الى مجرد رعايا عليهم واجبات بلا حقوق موازية بصورة دفعتهم الى الخروج بالملايين الى الساحات والشوارع والميادين العامة في العاصمة وفي جميع المحافظات والمدن المصرية ومطالبة ما لديهم من مؤسسات قضائية وعسكرية وأمنية الى استعادة ما سلب منهم من الثقة في لحظة حسن نية مرتجلة اصطدمت بسوء نية لم تكن متوقعة من قبل.
أقول ذلك وأقصد به ان الاخوان المسلمين هم الذين أساءوا استخدام ما حصلوا عليه من الثقة وانقلبوا على مبدأ التداول السلمي للسلطة بصورة دفعت الشعب المصري الى الخروج للشوارع والمطالبة بانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة لاستعادة حقهم في الثقة المسلوبة في لحظة خداع مرتجلة وطبيعة ثقتهم بما لديهم من مرجعيات قضائية وبما لديهم من قوات مسلحة بقيادة وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة الذي فوضوه لوضع خارطة طريق لانتخابات مبكرة لم يضع باعتباره أنه سيكون مرشحهم للانتخابات الرئاسية المبكرة التي فرضت بضغط شعبي رغم إرادته، لاسيما وأن الاخوان المسلمين وحلفاءهم قد رفضوا المشاركة السياسية وتحولوا فجأة من تنظيم سياسي يزعم أنه يؤمن بالديمقراطية القائمة على التعددية السياسية والحزبية وبالأساليب والوسائل الانتخابية التنافسية للتداول السلمي للسلطة، الى تنظيم ارهابي ينتهج العنف والفوضى تحت يافطة رفض ما يسمونه من الانقلاب العسكري والتمسك بالدفاع عن الشرعية الدستورية لادراكهم أن تجربتهم القصيرة خلال عام من الحكم قد كشفت على عيوبهم ونهجهم التي حولتهم من حزب أغلبية الى حزب أقلية يستدل عليها من الحضور الكبير للهيئة الناخبة التي ساهمت في انتخابهم في لحظة حماس عاطفية باعتبارهم حزءاً من الحركة الثورية المطالبة بالتغيير تميزوا بما يمتلكون من الحركة المنظمة التي أهلتهم لسرقة تضحيات الثورة الشبابية المرتجلة وعدم وجود قوى سياسية منظمة وقادرة على المنافسة.
إن ثورة الـ30 من يونيو التي أجبرت وزير الدفاع على الترشح للانتخابات الرئاسية المبكرة قد أفضت بالاستاذ الناصري حمدين صباحي ليكون المرشح الثاني في هذه العملية الانتخابية نظراً لما يتميز به من مقومات تؤهله لتحمل هذه المسؤولية الكفيلة بإعادة الدور القومي لمصر الكنانة ربما لأن الشعب المصري قد كان سباقاً الى الربط بين الدور الوطني والدور القومي من وحي ما لديه من قناعات أيديولوجية تقوم على التوازن بين ما هو وطني وبين ما هو قومي عرف منذ القدم المعاني النظيفة للتعدد والتنوع في نطاق إيمانه بالله، وما يترتب عليه من العبادات واعتزازه بوطنيته وعروبته وانفتاحه على جميع التجارب والتسامح بين ما هو اسلامي وما هو مسيحي وحرص في الوقت ذاته على التعاون الدائم بين أبناء الأمة العربية بمختلف معتقداتهم التي يغلب عليها أهمية العلاقة الجدلية بين العروبة وبين الإسلام وبين ما هو اسلامي وبين ما هو مسيحي.. ناهيك عن إدراكه لما يربطه من المصالح والعلاقات التي تعكس موقعه الجغرافي الذي تتداخل فيه القارتان الأفريقية والآسيوية.. في نطاق استشعار لما ترتبط به الأمة العربية من الصلات الانسانية في عالم متعدد الأمم ومتعدد الديانات ومتعدد القارات ومتعدد الأجواء والمناخات والمصالح المشتركة يحتم عليه التعامل مع ما حوله ومع العالم بعقل مفتوح شديد الاحترام للآخر ولحقه في التعدد والتنوع في ظل الدولة القومية.
ومعنى ذلك أن حاجته الى القيادات المستنيرة ذات القناعات الديمقراطية المؤمنة بالتعدد والتنوع والتحرر والرقي الحضاري أحد أهم الضمانات التي تساعده على التقدم الزراعي والصناعي والمدركة لطبيعة العلاقات الجدلية بين تعدد العوامل الوطنية والقومية والانسانية التي تساعده على الاضطلاع بما وهبته له الطبيعة من العبقريات الزمانية والمكانية الدائمة والحركة والتعبير والتطور على قاعدة الرغبة في تكامل العوامل الوطنية بالعوامل القومية والعوامل القومية بالعوامل الإنسانية بعيداً عن تلك القيادات الشمولية والكهنوتية المتحجرة والمتعصبة التي لا ينتج عنها سوى التخلف وما يترتب عليه من الاستبداد والاستغلال والفقر والحرمان لأن الموقع الاستراتيجي والحضاري والتاريخي للشعب المصري قد جعل هذا البلد ينتهج سياسات مستنيرة بعقل مفتوح على جميع التجارب الانسانية بحثاً عن الايجابيات بما لا يؤدي الى فرض العزلة والانغلاق على بلد يعتمد على ما لديه من الموارد السياحية التي تعكس موروثه الحضاري وموقعه القيادي دائم التأثير والتأثر بما حوله وفي العالم بأسره لأن مصر أهم بلد في العالم.. ومركز من المراكز القيادية للأمة العربية تنظر للدين الاسلامي الحنيف بأنه كان في جوهره ولايزال وسيظل دعوة للثورة ودعوة للحرية والديمقراطية والعدالة والتعدد والتنوع.. ودعوة للعلم والعمل والإنتاج ودعوة للتعاون والتكامل والتكافل والانفتاح على جميع التجارب الانسانية ودعوة للتسامح والتعايش بين الأديان.. ودعوة للنظام وسيادة القانون وبناء الدولة المدنية القوية والقادرة على حماية الأمن والاستقرار.. مثل هذا البلد الذي يستمد قوته وكينونته الحضارية من العلاقة الجدلية المعروفة اعتاد في مراحل كثيرة من التاريخ أن يؤسس حياته الجديدة في ظل المبادئ الناصرية التالية:
- إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله ورسالاته السماوية وبوحدته الوطنية والعربية والقومية.
- وعي عميق بالتاريخ وأثره على الإنسان من جهة ولقدرة هذا الانسان بدوره على التأثير في التاريخ من جهة ثانية وعدم التمييز بين الرجل والمرأة.
- حركة سريعة وطليقة ومتحررة من كل القيود والعوائق التي تؤدي الى التعصب والجمود والتخلف.
- التعامل مع جميع التجارب الانسانية بعقل مفتوح على جميع أنواع العلوم والفنون ذات الصلة ببناء الحياة الحضارية بحثاً عن المزيد من التقدم التكنولوجي والالكتروني بأخذ ما يتناسب مع خصوصياته العربية ويرفض ما يتناقض مع تلك الخصوصيات والثوابت، وهذا ما لم يجده في ظل الحكم الشمولي للاخوان المسلمين الذين حاولوا اسقاط ما لديهم من العقد على الجديد والمفيد من التقنيات الفنية والأدبية العلمية الجاذبة للسياحة والاستثمار في أجواء متحررة من الكهانات والقداسات المعطلة للإبداع والإنتاج.
وهكذا يتضح مما تقدم أن مصر الكنانة قد استبدلت ما فرض عليها من الخيار الاسلامي الشمولي بالعودة الى الخيار القومي الديمقراطي المؤمن بالتعدد والتنوع الذي يحقق ما هي بحاجة اليه من الانفتاح والحداثة والمعاصرة المستنيرة بعيداً عن الأفكار الظلامية التي تتخذ من الحرص على الأصالة قيوداً لاسقاط ما لديها من العقد والأمراض الشوفينية التي تعيد الحياة الى ما قبل التاريخ والمدنية على نحو يفقد الشعب المصري ما حباه به التاريخ من التعدد والتنوع التاريخي والحضاري المحرك لما لديه من الملكات والطاقات الإبداعية والإنتاجية في ظل دولة مدنية قوية وقادرة على تطبيق سيادة القانون.
إن مصر الناصرية قد حرصت في ظل ثورة 23 يوليو 1952م وقياداتها التاريخية القومية على الاضطلاع بما كان مطلوباً منها على الصعيدين الوطني والقومي من مسؤوليات قيادية حققت للحرية سلسلة من الإنجازات العظيمة التي أجبرت المستعمرين على الرحيل غير مأسوف عليهم في واحدة من أهم الثورات التحررية العملاقة ليس فقط على صعيد الأمة العربية بل وعلى صعيد كافة الأمم المستعمرة في أفريقيا واسيا وأمريكا اللاتينية على نحو أوجه ما كان العالم بحاجة اليه من كتلة ثالثة تمثلت في مؤتمر دول الحياد الايجابي وعدم الانحياز بعد أن كان العالم منقسماً الى كتلتين : الكتلة الرأسمالية والكتلة الشيوعية.
وسواءً أكان السيسي هو المرشح الفائز أو كان الفائز هو حميدين صباحي فإن المؤكد أن المتنافسين يتفقان على نبذ الشمولية الدينية ويختلفان على بناء الدولة، فإن مصر بحاجة الى زعيم للحكم وزعيم للمعارضة من أجل ديمقراطية دائمة التطور والتقدم والرقي الحضاري.