احمد الحبيشي -
خلال الفترة الممتدة بين 1978- 1989م نجح الرئيس السابق الزعيم علي عبدالله صالح في أن يعيد للثورة اليمنية زخمها في الداخل وتحرير قرارها الوطني المستقل من الإرتهان للخارج، كما تمكن في الوقت نفسه من وضع حد حاسم للصراعات الدامية على السلطة، وإشاعة مناخ الحوار والقبول بالآخر كشرط لمواجهة التحديات الداخلية و الخارجية التي عصفت بالبلاد خلال عقد ونيف من السنوات قبل تسلمه مقاليد الحكــم، الأمر الذي استلزم توحيد واستنهاض كل الجهود الوطنية المخلصة لتجنيب الثورة اليمنية مخاطر الركود والجمود، وإخراجها من منعطفها الخطير الذي وصلت اليه.
منذ اليوم الأول لتسلمه مقاليد السلطة السياسية في السابع عشر من يوليو 1978م أدرك الرئيس علي عبدالله صالح حقيقة أن خلاص اليمن من الأزمات السياسية والصراعات الداخلية على السلطة لايتحقق بدون إعادة الإعتبار للثورة اليمنية وأهدافهــا , وتجسيد واحديتها في ميدان الممارسة العملية .. ولعل نجاحه غير المسبوق في قيادة شؤون البلاد طوال الفترة الماضية يعد دليلاً أكيداً على استيعابه العميق للدروس والخبرات المستخلصة من مسيرة الثورة اليمنية بكل إنجازاتها وإخفاقاتها .
صحيح ان الثورة اليمنية نجحت في الإطاحة بالنظام الإمامي الإستبدادي و إقامة النظام الجمهوري وتحرير الوطن من الاستعمار وتحقيق استقلاله الوطني , بيد أن هذه المكاسب الوطنية العظيمة كادت ان تفقد وهجها ومضامينها الحقيقية طالما بقي الوطن مشطراً وظلت الديمقراطية غائبة .
كان استقلال الشطر الجنوبي في 30 نوفمبر 1967م آخر محطة توقفت عندها مسيرة إنجاز الأهداف الاستراتيجية للثورة اليمنية , ولم يعد بالإمكان تجديد وتنشيط آليات الإنجاز بدون استكمال ماتبقى من تلك الأهداف وترسيخ وتطوير ما تحقق منها .
في الإتجاه نفسه كانت الثقافة السياسية السائدة في شطري الوطن تكرس البعد الإيديولوجي والسياسي الواحد على حساب التعددية والتنوع , ما أدّى الى هيمنة النزعات الشمولية التصفوية التي اوجدت بيئة انقسامية مغذية للصراعات السياسية الداخلية , وعطلت في نهاية المطاف تطور المجتمع في مختلف الميادين .
من نافلة القول ان الثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 اكتوبر) حددت منذ لحظة انطلاقتها الأولى معالم الطريق نحو المستقبل، إذْ بلورت منظومة متماسكة ومترابطة من الأهداف الاستراتيجية التي تمحورت حول ضرورة تحرير الوطن من الاستبداد والاستعمار، وتحقيق الوحدة اليمنية وبناء المجتمع الديمقراطي .
مما له دلالة عميقة ان يجعل الرئيس علي عبدالله صالح من قرار مشاركته في الاحتفال بالعيد الثاني والعشرين للاستقلال الوطني عام 1989م , موعداً لإنطلاقة وطنية جديدة وحاسمة تستهدف إغلاق ملف التشطير وتحقيق وحدة الوطن وتدشين التحول نحو الديمقراطية التعددية والحرية القصوى .
حدث ذلك قبل ثلاثة عشر عاماً يوم أعلن الرئيس علي عبدالله صالح من وادي (عـنـــّة) بمديرية العدين في محافظة إب عزمه على زيارة عدن للمشاركة في احتفالات العيد الثاني والعشرين , وأطلق من بطن ذلك الوادي الجميل مبادرته الوحدوية الخالدة التي تتوجت بالتوقيع على اتفاق وحدوي تاريخي أعاد للوطن وحدته المنشودة على أسس سلمية وديمقراطية .
كان الوطنيون اليمنيون يتطلعون الى تتويج كفاحهم الوطني المسلح ضد الاستعمار البريطاني بتحرير الشطر الجنوبي من الوطن الغالي , وإعادة تحقيق الوحدة اليمنية تجسيداً لمبادئ الثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 اكتوبر) ووفاءاً لدماء وتضحيات الشهداء الذين ناضلوا تحت رايات التحرر الوطني والوحدة , بيد ان ظروفاً استثنائية حالت دون تحقيق ذلك الهدف الذي لم يتوقف النضال الوطني في سبيل إنجازه بعد الاستقلال وطوال سنوات التشطير .
بوسعنا القول انه كان بإمكان الرئيس علي عبدالله صالح اختيار أي توقيت مناسب لإطلاق مبادرته الوحدوية الجسورة، غير ان اختياره يوم الإحتفال بعيد الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1989م ليكون نهاية لعهود التشطير، جسـّد وفاءه للثورة اليمنية وتاريخها وأهدافها , وحرصه على اهمية تجسيد العلاقة العضوية بين الاستقلال والوحدة، وإصراره على مواصلة إعادة الاعتبار لتضحيات الشهداء الذين سطروا بدمائهم الزكية ملاحم الكفاح الوطني ضد المستعمرين الذين كان احتلالهم للجزء الجنوبي من الوطن يشكل عائقاً امام تحقيق حلم شعبنا في بناء يمن حر ديمقراطي موحد .
هكذا كان يوم الثلاثين من نوفمبر المجيد عيداً للاستقلال وانطلاقة جديدة وحاسمة نحو الوحدة والديمقراطية , والدفع بمسيرة الثورة اليمنية الواحدة (26 سبتمبر - 14اكتوبر) الى ذرى التاريخ .
وادي (عنــّة)
تدل القراءة المتبصّـرة لمسار الأحداث التي سبقت زيارة الرئيس علي عبدالله صالح لمدينة عدن , وتوقيعه اتفاق 30 نوفمبر الوحدوي في ذروة الإحتفالات بالعيد الثاني والعشرين للإستقلال الوطني على ان الرجل كان يدرك جيداً الترابط البنيوي الوثيق بين الوحدة والديمقراطية كهدفين متماسكين يصعب بدونهما تجديد وهج الثورة اليمنية , وإعادة الإعتبار لتاريخها وأهدافها الوطنية العظيمة .
بعض القراءات المستعجلة تخلص الى ان الرئيس علي عبدالله صالح فاجأ قادة الحزب الإشتراكي اليمني في الشطر الجنوبي آنذاك بقراره زيارة مدينة عدن , وإعلان عزمه على توقيع اتفاق وحدوي غير مسبوق اثناء تلك الزيارة .
ربما لا تصلح قراءة كهذه لمعرفة الأبعاد العميقة لذلك الحدث النوعي الذي يندرج في سياق عمليات التغيير الثوري بكل ما تحمله من معنى .. فالرئيس لم يفاجئ قيادة الحزب الإشتراكي بمشروعه الوحدوي يوم اعلن في وادي (عنــّة) عزمه على زيارة عدن لتوقيع اتفاق وحدوي ينهي التشطير ويلغي الشخصيتين الدوليتين للجمهوريتين القائمتين فوق الأرض اليمنية، بل انه فاجأهم قبل ذلك بدعوته لجنة التنظيم السياسي المشتركة للإنعقاد في تعز مطلع نوفمبر 1989م , وهي اللجنة الوحيدة من لجان الوحدة التي لم تجتمع منذ إعلانها في طرابلس عام 1972م بسبب حساسية القضايا الشائكة التي أنيطت بهذه اللجنة , وفي مقدمتها صيغة العمل السياسي والحزبي في دولة الوحدة المنشودة !!
واتذكر انني سألت الرئيس الأسبق علي ناصر محمد في بداية الثمانينات عن اسباب عدم ادراج هذه اللجنة ضمن برنامج تمت المصادقة عليه آنذاك من قبل قيادتي الشطرين لتنشيط عمل لجان الوحدة، فأجابني: "لأنها لو انعقدت ستسير فوق حقل ألغام" !!
مناقشات مفتوحة
خلال الفترة من 31 اكتوبر - 2 نوفمبر 1989م عقدت لجنة التنظيم السياسي المشتركة اجتماعات دورتها الأولى في مدينة تعز برئاسة الأخوين الدكتور عبدالكريم الأرياني والأستاذ سالم صالح محمد .. وبعد انتهاء الجلسة الأولى توجهت اللجنة الى محافظة إب حيث اقام محافظها - آنذاك - الأستاذ صالح عباد الخولاني حفل غذاء بوادي " عـنّـــة " بمديرية العدين على شرف المشاركين في اللجنة المشتركــة , تبعه منتدى " قات " كبير في منزل الشيخ صادق باشا حضرته نخبة من ألمع الشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية ورجال الأعمال في المحافظة .
سـعـد كاتب هذه السطور كثيراً بأنه كان واحداً من المشاركين في اعمال تلك اللجنة ومناقشات وادي " عــنـّـة " .. ولسوف يسجل التاريخ بأحرف من نور لمديرية العدين انها احتضنت ولأول مرة في تاريخ اليمن الحديث اول نقاش حر ومفتوح اجمع المشاركون فيه على ضرورة الوحدة والديمقراطية التعددية وحرية الصحافة والتداول السلمي للسلطة , الأمر الذي اعطى اللجنة المشتركة زخماً قوياً عند عودتها الى تعز واستئناف عملها في اليوم التالي , وأزال عن طريقها حاجز الخوف من حقل الألغام المتمثل في خيار التعددية الحزبية الذي كان عقدة كل الدساتير والأزمات والصراعات السياسية التي عصفت ببلادنا منذ قيام ثورة 26 سبيتمبر 1962 وتحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م .
لا أبالغ حين أقول بأن نتائج عمل اللجنة المشتركة للتنظيم السياسي - التي انعقدت بمبادرة شجاعة من الرئيس علي عبدالله صالح وتحت رعايته - ازاحت عقبة كأداء عن طريق مشروع الوحدة الذي بادر به ايضاً الرجل نفسه.. ومما له مغزى عميق ان الرئيس اختار وادي " عنـــّة " الذي يمكن وصفه بوادي الحرية مكاناً لإعلان مشروعه الوحدوي الديمقراطي , بعد اسبوع واحد من مناقشات وادي " عنــــّـة " الحرة والعلنية حول سبل معالجة إشكاليات الوحدة والديمقراطية . .
قبل سنوات جمعني بالصديق صالح عباد الخولاني محافظ إب الأسبق لقاء ودي تذكرنا فيه لقاء وادي " عنـّــة " التاريخي .. ولفت انتباهي قول الخولاني بأن الرئيس علي عبدالله صالح فاجأه - هو الأخر بزيارة محافظة إب بعد اسبوع من انتهاء عمل اللجنة المشتركة للتنظيم السياسي , وطلب منه ان يتناول طعام الغذاء في وادي "عنــّـه" الذي احتضن اول مناقشة حرة ومفتوحة حول قضية الوحدة وقضية الديمقراطية برعاية الأخ الرئيس .
والأهم من ذلك قوله - أي الخولاني - بأنه فوجئ مرة أخرى بعد الغداء بأن الرئيس صالح أعلن في لقاء جماهيري ــ لأول مرة وبصورة لم تكن متوقعة ــ مشروعه الوحدوي الذي فاجأ به الجميع , مؤكداً في ذلك الخطاب أمام الجماهير الحاشدة في وادي "عنــّـه" عزمه على زيارة عدن في الثلاثين من نوفمبر 1989 للمشاركة في احتفالات العيد الثاني و العشرين للإستقلال الوطني , وتصميمه على أن يجعل من هذه المناسبة إنطلاقة جديدة لمشروع وحدوي ديمقراطي جديد ينهي عهود التشطير، وينقل البلاد الى ذرى الوحدة والديمقراطية.