محمد علي عناش -
< يا إلهي ما أقبحهم وما أبشع مثابرتهم على ارتكاب الجرائم وممارسة حرفة القتل والذبح بإنتشاء ولذة في غاية الانحدار والسقوط الآدمي إلى ما دون الحيوانية، ما أبشع تبريراتهم التي يقرنونها باسم الله والجهاد في سبيل الله، من أين أتوا الى واقعنا بهذه البشاعة الآدمية وهذا الفكر الظلامي المتخلف؟ كيف تشكلوا بهذه القسوة وهذا القبح؟ ثم كيف تجمعوا وتناسلوا من خلايا نائمة ثم صاروا مئاتٍ ثم ألوفاً تجمعهم روح الشر وغريزة الفناء ونشوة القتل والذبح، لتحقيق حلم أو وهم مركزي لديهم اسمه «دولة الخلافة الاسلامية»؟؟
بإمكاننا أن نتصور كل جرائم بما فيها الجرائم البشعة التي يرتكبها مسوخ العصر، الدواعش الارهابية في كل من سوريا والعراق الا هذه الجريمة التي ارتكبتها الدواعش الارهابية في سيئون محافظة حضرموت بحق أربعة عشر جندياً تم فصل رؤوسهم عن أجسادهم في ساحة عامة لم نكن نتوقعها أو نتصور وقوعها في مجتمعنا وبذلك السيناريو والمخطط الدنيئ، فاستفزت هذه الجريمة ببشاعتها ووحشيتها مشاعر اليمنيين وضمائرهم وحكمتهم التي تهاوت أمام مثل هذه الجرائم البشعة والدخيلة على مجتمعنا.
هل يكفي أن نستنفر وحداتنا العسكرية لبعض الوقت وتنتهي المسألة عند قتل عشرة واعتقال عشرة آخرين من هؤلاء القتلة والارهابيين ومصاصي الدماء؟ بالطبع لا يكفي لأننا لسنا أمام أشباح أو حالات طارئة واستثنائية، وإنما أمام بيئة خصبة يتوالد فيها المئات من الارهابيين بدلاً عن العشرات الذين يفقدونهم في مواجهات الجيش والأمن، بل يجب أن يستنفر المجتمع بكل قواه الحيَّة في مواجهة الارهاب، يجب أن نفهم ونستوعب كنه هذا الارهاب المؤدلج، وهذا الذبح والإجرام الذي يلبس رداء الدين ويتفشى في بيئتنا الاجتماعية ووعينا الجمعي كالسرطان، بوهم الشهادة، والتقرب الى الله والفوز بالجنة، بقتل الأبرياء من الجنود والضباط والمدنيين، يجب أن نعرف حقيقة هذه اللحى الطويلة المجرمة، التي تخفي تحتها مراهقين وشواذ وموهومين ومحبطين ودجالين، توحدهم غريزة الفناء ونزعة الكره ومتعة القتل ولذة العيش خارج العصر بلا عقل ولا روح ولا إنسانية، أي في العالم الساحر والفتان الذي يصنعه لهم أمراؤهم القادمون من صحراء الوعي القاحل وكهوف تورابورا!
جريمة القاعدة في حوطة شبام حضرموت صدمت الشعب اليمني وأفزعته إلا أن السواد الأعظم منهم لايزال وعيهم ملتبساً وقاصراً بهذه الجريمة، فمنهم من يقف مدهوشاً لا يمتلك تفسيراً واقعياً لهذا الإجرام والارهاب، ولا يستطيع أن يتصور أن هؤلاء الارهابيين هم يمنيون وبشر مثلنا، وإنما يتصورهم نوعاً آخر من الكائنات البشرية المتوحشة، وهناك من ينفي وجود القاعدة، ويستبعد الدافع الديني وراء هذه الجرائم، ويعتقد أنها مجرد تآمر ومخطط سياسي، وهناك من يراها سوى مجرد تصفيات ببعد جنوبي- شمالي، وهناك من لا يرى في القاعدة سوى لعبة ومسرحية أمريكية، ويحمل أمريكا المسؤولية فيما يحدث من إرهاب، فعبر هذا الإدراك المشتت والثقوب الموجودة في وعينا الجمعي بحقيقة القاعدة، يتسلل الارهابيون وينفذون إلى واقعنا ويتوسعون أمام أعيننا، بدءاً من إقامة مركز تحفيظ قرآن أو دار حديث، وانتهاءً بإقامة معسكرات ترفع العلم الأسود وإنشاء إمارات إسلامية مصغرة هنا وهناك.
من المؤكد أن هناك إرهابيين مرتزقة ينفذون أجندات ومخططات سياسية بتلك الطريقة، كما أننا لا نستبعد أن يكون لأمريكا يد في إنعاش القاعدة وداعش في سياق مشروعها لشرق أوسط ضعيف ومفكك ومتناحر على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، لكن القضية لا يجب أن نتعاطى معها كقضية سياسية فقط أو بنظرية التآمر الخارجي على الأمة، فهي أيضاً قضية ثقافية ودينية خطيرة في واقعنا الاجتماعي، فالكثير من الارهابيين وخاصة المراهقين منهم، يرتكبون هذه الجرائم بقناعات دينية وكجهاد مقدس، هناك خلفية اجتماعية ونفسية للارهاب والارهابيين وهناك خلفية ثقافية وفكرية متطرفة ومأزومة لهذه الجرائم، وهناك حواضن تكفيرية مهمتها إعداد الكوادر وتعبئتها بثقافة الكراهية وتكفير الآخرين وإخراجهم من الملة، وتقديم الإسلام في صورة متحجرة ومتخلفة ومجرد سيف أو بندقية للدفاع عن العقيدة وجهاد أعداء الله من الفرق الاسلامية والفكرية الأخرى كما يتصورون باعتبار جهادهم مقدماً على جهاد اليهود والنصارى.
وفي هذه البيئة يترعرع الدواعش ويتوالد جيل القاعدة من الأفراد الذين وصلوا الى قناعة فكرية واستعداد نفسي لترجمة هذه الثقافة والأفكار بالارهاب والقتل والذبح، كما رأينا في حضرموت وكما نرى ونسمع في العراق وسوريا وغيرها من المناطق.
أربعة عشر جندياً يمنياً ذبحوا في ساحة عامة كما تذبح الخرفان، لم يكن هؤلاء الجنود في حالة حرب أو مواجهة مع القتلة الارهابيين، وإنما كانوا عابري سبيل متوجهين الى أهاليهم وأحبابهم وذويهم، لم يكن القدر في انتظارهم، بل كان في انتظارهم المجرم جلال بلعيدي وعشرات من الارهابيين، حيث تم اختطافهم وبلا رحمة أو شعور بالإثم أو وازع ديني أو إنساني، اجتز الارهابيون رؤوسهم، لم تثنهم توسلات الجنود، ولا صرخاتهم، بتذكيرهم أنهم مسلمون، حتى نطق الشهادة لم تثنِ القتلة امتثالاً لقول رسول الاسلام محمد بن عبدالله: «من قال اشهد أن لا إله إلا الله.. محمد رسول الله عصم دمه وماله وعرضه» وإنما مضى الارهابيون في جرمهم البشع وهم يهللون ويقولون «الله أكبر» حاشا لله أن يكون هذا دين أو أنه راضٍ عن هؤلاء وعن فواحشهم التي يرتكبونها باسم الاسلام.
جميع الدواعش الارهابيين الذين قدموا من كهوف التاريخ المظلم ومغارات الجهل والحقد والبداوة البشرية، وتسللوا الى حاضرنا على حين غفلة من وعي الأمة وسباتها المعرفي والعلمي، يهللون ويكبرون ويرفعون نفس الشعار الاسود ويرتكبون الجرائم بنفس الطريقة ومن أجل نفس الحلم أو الوهم وهو إقامة دولة الخلافة الاسلامية.
ما يستوجب من الأمة العربية التي تتعرض ويتعرض وعيها وعقلها لأقسى وأقوى هجمة همجية في تاريخها تهدف إلى تخلفها والى تدمير منجزاتها وتطورها الحضاري الراهن والعودة بها الى الوراء في رحلة تيه وضياع وتخلف حضاري ومدني وانحدار أخلاقي أن تتيقظ وأن تستنفر كل إمكاناتها وقواها وطلائعها التقدمية، لمواجهة هذه الهجمة البربرية وأن تتصدى لهذا الفكر الظلامي الذي يتفشى وينمو في بيئة خصبة اجتماعياً وثقافياً، بإحداث ثورة معرفية وتربوية في إعلامها ومناهجها ونشاطاتها وأن تقف بحزم أمام كل الحواضن لهذا الفكر الظلامي، من مدارس ومراكز وجامعات دينية متطرفة التي هي في الواقع ليست إلاَّ مزارع تفقيس للارهابيين والقوى الظلامية أعداء الحرية والديمقراطية والدولة المدنية وأعداء العقل والعلم والسلام،
ما لم فإننا سوف نخرج من العصر ونخرج من التاريخ الذي يتقدم إلى الأمام، ونعود إلى الماضي وكهوف التاريخ المظلم على حافلة كبيرة اسمها «السلف» وتحت قيادة حكام وأمراء مؤمنين يسمون أنفسهم الدواعش والقاعدة.