د. علي العثربي -
عندما أكدنا في أكثر من دراسة أن بعض القوى السياسية لا تملك أدنى قدر من فن الممكن السياسي الآخر الذي يقود الى انعدام امتلاك رؤية بناء الدول فإن السبب في ذلك الطرح يعود الى معرفتنا بمنهج السلوك النفعي الذي تسلكه تلك القوى واعتمادها على الغاية تبرر الوسيلة بمعنى المعرفة الجدية بانحراف تلك القوى السياسية في منهج التفكير الذي لا يؤمن إلاّ بالمحسوس والملموس الذي قلب الحياة لدى تلك القوى رأساً على عقب فحل الخداع والكذب والمكر والغدر محل الوفاء والصدق والنزاهة والأمانة، وهو في تحليل الفكر السياسي المعاصر فعل ثوري فوضوي من الدرجة الأولى كانت بدايته العملية في 2011م وكانت نتائجه الوخيمة ما وصلت اليه البلاد من العذاب الذي لا يُطاق، بمعنى أن الثورية التي أنبرت في 2011م كانت على غير مكارم الاخلاق وتدمير الهوية الدينية والوطنية والانسانية واستهدفت النيل من الولاء الوطني بدرجة اساسية في المؤسسة الدفاعية والأمنية، ولا يخفي على أصحاب الألباب لصالح من كل ذلك الفعل الثوري النازي، إنه بدون أدنى شك لصالح القوى الاستعمارية الصهيونية التي ترى في وحدة العرب عقبة أمام مشاريعها التوسعية، والتي أدركت أن اليمنيين هم الأكثر توقاً لبناء الدول العربية الواحدة التي جعلت من العروبة جسداً والاسلام الحنيف روحاً.
لقد أدركت القوى الاستعمارية والدوائر الصهيونية أن الثورة اليمنية سيتمبر وأكتوبر عامي 62، 1963م كانت البوابة الكبرى للانطلاق نحو المشروع النهضوي الحضاري العربي من خلال أهداف الثورة الستة التي أجمع عليها ثوار اليمن الواحد والموحد، لأنها عبرت عن الآمال والتطلعات الكبرى التي ناضل اليمنيون من أجلها لاستعادة أمجاد الماضي العريق إبان الامبراطوريات العربية اليمنية القديمة المعينية والسبئية والحميرية، وقد شكل التفاف اليمنيين كافة حول الأهداف الستة للثورة اليمنية الخالدة «سبتمبر وأكتوبر» أعظم فزع للدوائر الاستخبارية في العالم المعادي لقيام الكيان العربي القوي وبدرجة أساسية القوى البريطانية التي عملت على تأجيل وحدة اليمن من خلال التحرك، بعد أن ثبت لديها يقيناً ضرورة الرحيل من أرض اليمن، باتجاه زرع الشقاق بين حكومات الثورة اليمنية الواحدة عندما أرسلت «شاكلتن» الخبير بشئون اليمن السياسية والاجتماعية لاستغلال رغبة القيادات الثورية في الوصول الى السلطة وحاولت دعم اعلان انفصال الجنوب عن الشمال وقد تمكنت من استغلال نقطة الضعف هذه فرحلت في 1967م عن قدسية التراب اليمني بعد أن ضمنت استقلال الجنوب، ولكنها في زحمة الهروب من نيران الشعب ضدها فشلت في تمزيق أهداف الثورة اليمنية، حيث حافظ اليمنيون على واحدية الثورة اليمنية وأهدافها السبتمبرية الاكتوبرية واكتفت بريطانيا بذلك التأجيل لوحدة اليمن، على أمل أن تأتي قوى جديدة استعمارية تعمق رغبة أعداء اليمن في تمزيق الدولة اليمنية ومنع قيام الوحدة العربية الكبرى.
إن الأحداث الكونية التي جاءت عقب الثورة اليمنية وخصوصاً بعد الثلاثين من نوفمبر 1967م قد جعلت اليمن بين فكي كماشة وهي القوى الشرقية والقوى الغربية وكانت اليمن محط التقاء بين القوتين الأولى بقيادة الاتحاد السوفييتي والثانية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وقد حرص الطرفان على بقاء الوضع على ما هو عليه، فاستغل اليمنيون انشغال القوى الاستعمارية الجديدة بالحرب الباردة وركزوا على تنمية مبدأ الولاء الوطني لقدسية التراب اليمني وجعلوا من مبدأ الولاء لأهداف الثورة اليمنية الواحدة غاية سامية مهما تجددت الأحداث وربطوا كل حدث باعادة وحدة اليمن -الأرض والانسان- والدول وخاضوا نضالاً حقيقياً وموضوعياً حتى تحقق ذلك الحدث في الثاني والعشرين من مايو 1990م، فكان ذلك الحدث ثورة بكل ما تعنيه الثورة لأنها امتداد طبيعي للثورة التي تبحث عن فرصة للوصول الى البحر المفتوح، للوصول الى البحر العربي والمحيط الهندي.. فوجدت تلك القوى الصهيونية العالمية أن اعادة لحمة اليمن الواحد والقوي قد شكل ضربة قاتلة لأحلامها التوسعية فتجمعت الدوائر الصهيونية في العالم وتتداولت الخبرات والمهارات التي كسبوها من السابق ومن وقائع الأحداث فعادوا من جديد الى فكرة شاكلتن البريطاني وأعدوا برنامجاً مطولاً لكيفية الاستفادة من التناقضات الأثينية والنزعات الاستقوائية والمذهبية والرغبة في التحكم والسيطرة لدى البعض على حساب البعض الآخر وأعدوا خططهم وبرامجهم تحت مظلة المنظمات الانسانية، وقد أدركوا أن تفجير مشروعهم «الفوضى الخلاقة» في اليمن بداية لن يكتب له النجاح، لأنه سيكون مكشوفاً ولذلك عمموا الفكرة على الوطن العربي واختاروا تونس في البداية لاعلان الفوضى الخلاقة واعتقدوا أن اليمن التي كان تركيزهم عليها بدرجة أساسية ستنجر خلف تلك الفوضى بفعل العامل القومي الذي يحرص اليمنيون على تجسيده في كل مواقفهم رغم عدم توافر الأسباب الموضوعية لنجاح الفوضى الخلاقة التي تحقق أهدافهم في تمزيق وحدة اليمن ومنع قيام الوحدة العربية، وظلوا يراقبون سير ما أسموه الربيع العربي في اليمن بدرجة أساسية ومثلما كان الاعتقاد لديهم بعدم نجاحه في اليمن ابتداءً لعدم توافر الأسباب الموضوعية إلاّ أنهم استفادوا من حالة الحقد لدى القوى السياسية ضد بعضها البعض وعمقوا صلاتهم بالقوى الطامعة في السلطة التي ركعت في احضانهم من خلال ما قدموه من الخدمات لتلك القوى بالمجان في سبيل تأمين طريقهم للوصول الى السلطة بقوة الحديد والنار.. وظنوا أن القوى التي جعلت الغاية تبرر الوسيلة واستماتت في سبيل الانقلاب على الديمقراطية ستحقق رغبتهم فعملوا على إنجاح هوى تلك القوى، إلاّ أن قوة الارادة الشعبية التي اعتصمت بحبل الله المتين وحافظت على الشرعية الدستورية وأرست التقاليد الديمقراطية قد فوتت على تلك القوى مشاريعها العدوانية.
إن تلك القوى التي انحرفت في منهج التفكير وجعلت الغاية تبرر الوسيلة لم تنجح إلاّ في إحداث الخراب والدمار وسامت الناس سوء العذاب واذا كان لها من لفظ الثورة الانقلاب الجذري في القضاء على مبدأ الولاء الوطني وتدمير مكارم الأخلاق، فذلك الانجاز الذي تحقق من 2011م وحتى اليوم، ولذلك نقول للقوى التي مازالت تدعي الثورية النارية أن عليها أن تتعظ من غيرها وتدرك مآلاتها ولا تركب الغرور والفجور، لأن ذلك يؤدي الى الفناء، وما دمنا نحتفل بالثورة اليمنية المباركة «سبتمبر وأكتوبر» فإننا نقول لقوى الجهل والظلام أن أي فعل ثوري خارج نطاق أهداف الثورة اليمنية «سبتمبر وأكتوبر» لن يكون مصيره غير الفشل الذريع، لأن أهداف الثورة اليمنية «سبتمبر وأكتوبر» تمثل العقل الجمعي والارادة الكلية لأبناء اليمن وسيمضي اليمنيون كافة صوب انجاز ما تبقى منها للوصول الى مشروعهم النهضوي العربي الواحد بإذن الله.