محمد علي عناش -
في منتصف السبعينيات انتفض الشعب المصري ممثلاً بطبقاته المسحوقة والطلاب والعاطلين عن العمل المتكدسين على أرضية البطالة، بسبب قيام الحكومة آنذاك برفع سعر رغيف الخبز، كان رد فعل الحكومة عنيفاً في قمع المتظاهرين واعتقالهم وتعذيبهم، بل ومهيناً لغالبية الشعب المصري من الطبقات والشرائح الكادحة والمسحوقة، الذين خرجوا الى الشوارع في ثورة شعبية أسموها «ثورة الخبز» غير أن الحكومة وجهازها، الأمني وإعلامها الرسمي والحزبي أطلق عليها «انتفاضة حرامية».
بالتأكيد أن هذا التوصيف مشين، إلاّ أنه يحمل دلالة واضحة أن مصدره قوى فاسدة متوغلة في أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة، فالحكومة آنذاك كانت هي في الأساس نتاج ظروف غير طبيعية مر بها المجتمع المصري عقب وفاة الزعيم جمال عبدالناصر في مطلع السبعينيات، حيث سيطرت عليها مراكز قوى رأسمالية صاعدة من تجارة السلاح والمخدرات والمضاربين في البورصة، لكن سرعان ما حدثت حركة تصحيح شاملة، وتم الاعتذار للشعب المصري واعتبار انتفاضته ضد الحكومة الفاسدة بأنها «ثورة شعب لا انتفاضة حرامية».
تكاد تكون نفس الظروف والأسباب والدوافع التي جعلت الشعب اليمني يخرج في ثورة عارمة لاسقاط الجرعة واسقاط الحكومة الفاسدة، ومهما تداعى حول هذه الثورة من مخاطر وصراعات فإن ذلك لا يلغي مشروعية الخروج وروح الثورة التصحيحية لدى المتظاهرين والمعتصمين، مهما حاول الطرف الآخر أن يتمترس خلف شعارات الدفاع عن الثورة والجمهورية، وأن يستميت الاعلام الرسمي الاخواني دفاعاً عن الفاسدين ليردد على لسان اليدومي: «ستحرق صنعاء من أجل دبة بترول».
إن الانحرافات والظروف غير الطبيعية التي تنشأ فيها الدولة والحكومات الفاسدة، تخلق تماثلاً وتشابهاً في النتائج وفي ردود الافعال تجاه أي حراك مضاد ورافض لوضع مختل، وبالتالي فإن ما يحدث لم يأتٍ من فراغ وإنما له أسبابه وظروفه وجذوره، فأزمة 2011م في اليمن والتي أخذت مسمى ثورة الشباب في سياق مشروع الربيع العربي التدميري الذي اجتاح المنطقة، أفرزت وضعاً مختلاً وفوضوياً، استهدف ليس فقط اسقاط النظام، وإنما اسقاط نظام عام المجتمع، انثبقت منه ومن أجوائه حكومة الوفاق الوطني، دون معايير الكفاءة والنزاهة، وبلا مشروع وطني وبلا أهداف وغايات وطنية، لتجاوز الأزمة والانتقال الى الدولة الديمقراطية الحديثة، وإنما على المحاصصة والتقاسم والتبعية لمراكز قوى عسكرية وعشائرية وقوى سياسية انتهازية، وعلى نزعة ثأرية وانتقامية احتلت مساحة واسعة في تفكير وممارسات وزراء وأحزاب وقوى الساحات التي استلمت السلطة بشكل سلمي وعبر مبادرات لتسوية سياسية تم الإخلال بها واسقاطها من قبل هذه القوى، فكان الفساد السياسي والمالي وغياب الدولة وانهيار الاقتصاد والجرع السعرية المتوالية والسيطرة على المؤسسات، أبرز سمات ومظاهر هذه الحكومة طوال أكثر من سنتين ونصف، وعليه فإن النتائج الكارثية التي نعيشها والمنعطف الخطير الذي يمر به الوطن في الوقت الراهن، هي نتائج لمقدمات مختلة ومسارات منحرفة، وسياسات وممارسات أوغلت في الاغراق تحت شعارات ثورية جوفاء.
حجم الفوضى والاختلالات الراهنة قد بلغ ذروته ووصل الى مستوى لا يعقل ولا يمكن السكوت عليه، الجرعة الأخيرة كشفت كل شيء، كشفت حجم الافلاس في الامكانات والموازنة، بالتوازي مع حجم الافلاس في الضمائر والاخلاق لدى ساسة اليوم، خاصة عندما تعلم أن الجرعة الراهنة بلا قرار وبلا جهة مسئولة عنها، ستدرك أنها وصمة عار مخزية ستظل تطارد باسندوة ووزراء حكومته والرئاسة الانتقالية، وهذه المرحلة الفوضوية بنخبها وسياسييها وأحزابها وإعلامها، ليس لأن الجرعة كانت ظالمة ومتجردة من أدنى شعور بالمسئولية تجاه الشعب والوطن، وإنما المضحك والمبكي، لأنه ليس هناك قراراً بالجرعة في الأصل.
كان رد المحكمة صادحاً لنا عندما رفضت الدعوى المرفوعة ضد الحكومة لأن الدعوى ليس لها وجه قانوني كونه لا يوجد قرار صادر بالجرعة.
كنا ندرك ونشعر أن هذه الجرعة ارتجالية وغير طبيعية، كانت مقدماتها قاسية، ستة أشهر من الحصار وطوابير الاذلال والترويض النفسي للمواطن اليمني للرضا والقبول بالجرعة عبر السوق السوداء التي تلبي حاجته وبأي ثمن.
الحكومة خططت لكل شيء ظناً منها أن الجرعة سوف تمر ويهضمها الشعب بسهولة، لكنها لم تكن تتوقع أنها ستكون شرارة لثورة سوف تقتلعها وتتداعى لما هو أكثر من ذلك، لأنها لم تكن قريبة من الشعب وإنما كانت قريبة من مراكز قوى وعصابات فاسدة.
في الأيام الأولى للمظاهرات الشعبية، قدم باسندوة استقالته، ثم عندما بدأت مظاهرة الاصطفاف التي حملت عناوين تضليلية، وهي في الأساس كانت للدفاع عن الفاسدين ومعبرة عن أجنداتهم، تراجع باسندوة عن استقالته، وعاد يصرح بأن شرعيته من شرعية الرئيس هادي، ومع ثبات وإصرار المتظاهرين على مطالبهم وبعد أحداث شارع المطار، عاد باسندوة يصرح بأنه غير مسؤول وأن حكومته لم تصدر أي قرار بالجرعة.
كأن الأمر بالنسبة لنا كالنكتة، كما تعودنا منه كثيراً بالدموع وبالغلطات والخروج عن النص في خطاباته، غير أن المحكمة التي أكدت أنه لا يوجد قرار بالجرعة، كان صادماً لنا بالفعل، لأننا رغم كل ما يحدث من فوضى وأزمات كنا نعتقد أن هناك ماتزال دولة، لكن اتضح أن هناك فوضى لامتناهية، هناك عصابة تشتغل بحرفية منظمة، تحت مسمى وزارات ومؤسسات ومنظمات، ولها إعلام وإعلاميين وسياسيين وناشطين مهمتهم تسويق الوهم والفوضى على عربة ثورية.